
أردوغان على مفترق الطرق.. الخارطة المحتملة للخروج التركي من إدلب

تتسارع وتيرة الأحداث في إدلب، وتتقدم القوات السورية بدعم من قوات الدافع الجوي الروسي، ويشعر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أنه تحت الحصار، فيضطر إلى أن يلجأ الى المفاوضات مع موسكو.
وتجري المفاوضات على المستوى الدبلوماسي بين روسيا وتركيا، وتتكرر جولاتها ولكن مع ذلك لازالت الأمور لا تبشر بأي خير، فحتى اللحظة لازالت وتيرة الصراعات في شمال سوريا تتجه بشكل تصاعدي مرة أخرى، وسط تقدم القوات السورية، وتوقعات حول صدام عسكري تركي سوري روسي على المدى القريب.
وفيما يدور الصراع الحالي على الأراضي السورية حول إدلب.. يطرح السؤال نفسه؟ لماذا تشكل إدلب أهمية استراتيجية لدى النظام السوري وأنقرة على حد سواء؟
الأهمية الاستراتيجية لإدلب

تكتسب إدلب أهميتها بالنسبة لتركيا استنادًا الى كثير من العوامل، فهي آخر معاقل المتمردين والجهاديين الذين يحاولون الإطاحة بالأسد منذ عام 2011. وبالنسبة للنظام السوري، تعتبر إدلب نقطة محورية فاصلة في مسار الحرب، إذ أن الانتصار في معركة ادلب سيحقق مكاسب سياسية واقتصادية ضخمة للنظام، فضلاً عن قدرته على بسط سيطرته على كامل الطرق المهمة في البلاد والتي ستشكل أساس النقل في البلاد بأسرها.
وبالنسبة لتركيا، إدلب تمثل أهمية استراتيجية قصوى، إذ أن أنقرة تعتبر هذه المنطقة جزءا لا يتجزأ من نفوذها المستحق في سوريا. كما أنها معقل التشكيلات المسلحة المعارضة للنظام السوري، والتي كانت تركيا نفسها هي من دأبت على دعمها وتدريبها وتجهيزها على مدار سنوات.
وتنظر تركيا الى هؤلاء المسلحون باعتبارهم جزءا من الاستثمارات العسكرية التي انفقت أنقرة عليها الكثير في ظل أزمة اقتصادية طاحنة، وبينما يلوح في الأفق شبح الخسارة على الجبهة في إدلب، يدرك إردوغان أنه سوف يخسر الكثير من شعبيته نظير هذا الأمر.
وتكتسب إدلب أهميتها كذلك، ليس فقط لما يتركز بها من إسلاميين وجماعات معارضة فحسب، وإنما لاحتوائها على اجمالي لاجئين يقدر بـ 3,5 مليون شخص.
ووفقًا للأمم المتحدة، غادر حوالي 900 ألف مدني محل اقامتهم نتيجة للأعمال القتالية المكثفة في إدلب. ومنذ مطلع يناير الماضي، سجلت المنظمات الإنسانية مقتل 299 مدنيًا، ولكن الآن يقترب القتال من المناطق السكانية ذات الكثافة العالية في إدلب.
الخارطة المحتملة- وسيناريوهات ما بعد الخروج من إدلب

يأخذنا تعقد المشهد الحالي على الساحة السورية الى احتمالات عدة، مطروحة أمام إردوغان للتصرف والخروج من هذه الأزمة.
- فرضية العودة الى الأحضان الأمريكية: والتلويح باحتمالية مغادرة الحلف الروسي لصالح الكتلة الغربية برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية. وهذه فرضية مطروحة بالفعل على طاولة إردوغان الذي يتشبث بالنصر على الأراضي السورية الى اقصى حد، الى الدرجة التي تدفعه لأجل محاولة اقحام واشنطن في صراعه مع سوريا تحت دعم روسي. وفي هذا السياق.
- نشرت بلومبرج نقلاً عن تصريحات مسئول تركي كبير، قوله إن أنقرة طلبت بالفعل من الولايات المتحدة نشر أنظمة صواريخ باتريوت المضاد للطائرات في جنوب البلاد. حيث تدرك انقرة بوضوح كيف أن الهجوم على القوات السورية من دون الحصول على دعم الطيران، سوف يكون محكومًا عليه بالفشل الذريع، ولهذا السبب هي بحاجة لنشر مجموعة كبيرة من صواريخ باتريوت لأجل شن عمليات هجومية واسعة النطاق في إدلب. ولكن إتمام هذه الفرضية بنجاح يشوبه الكثير من العوائق، من ضمنها أن واشنطن كانت قد بدأت بالفعل في تقليص تعاونها العسكري مع أنقرة منذ إقدام الأخيرة على شراء منظومة صواريخ “إس 400” الروسية في 2019. هناك أيضًا عوائق أخرى، من ضمنها أن تركيا تمتلك بالفعل مجموعة من مقاتلات الـ إف-16، وأنها تدرك جيدًا أنه يجب أن تقوم بتسيير هذه المقاتلات في حالة أقدمت على شن عملية برية واسعة النطاق في إدلب، لأن الهجوم كما أسلفنا الذكر، سوف يكون عبارة عن مهمة انتحارية من دون الدعم الجوي.
- ولكن المشكلة الحقيقية هنا، هي أن الطائرات التركية لو حاولت القتال في السماء السورية، فهي في هذه الحالة لن تواجه الطيران السوري، ولكنها سوف تواجه ما هو اشد وطأة، وهو قوات الدفاع الجوي السورية. ولهذا السبب تضطر أنقرة لأن تنتقل الى فرضية الاعتماد على منظومة مضادات الصواريخ باتريوت، ويوجد بالفعل العديد منهم على الأراضي التركية، ولكن ما يعوق استخدامهم في هذه الحالة، هو أن هذه البطاريات تقع في القواعد الأمريكية العسكرية هناك. وعليه يرى محللون أتراك أن أكثر ما قد يقوى اردوغان على طلبه الآن من واشنطن هو تحريك هذه البطاريات –تحت سيطرة الجيش الأمريكي- إلى مدينة تاهاي التركية على الحدود مع سوريا.
- ولكن المثير للانتباه، هو أن سفارة الولايات المتحدة الأمريكية لم تعلق حتى اللحظة على ما نشرته وكالة بلومبيرج. كما أن ضم تركيا تحت جناحي الولايات المتحدة الأمريكية، هو بالتأكيد أمرًا مرغوبًا بالنسبة لواشنطن، التي سبق وأن واجهت ابتعادها عنها لصالح الجانب الروسي من قبل بالعقوبات والتهديدات، ولكن هنا يطرح سؤال آخر نفسه، حول الثمن الذي سوف يدفعه اردوغان –المحاصر حاليا- لواشنطن حتى تغفر له خطيئته الأولى وتسانده؟!
- فرضية الانسحاب التركي: تستمر قوات الأسد في المحافظة على تقدمها، المدعوم من قِبَل غطاء من سلاح الجو الروسي، ووفقًا لموازين القوى -من المرجح- أنه لا يمكن لتركيا في ظل احتمالية استمرار الظروف الراهنة وتحت وطأة وجود نقاط المراقبة الخاضعة لها في سوريا تحت حصار شبه كامل مجابهته. وعليه قد تنسحب تركيا، ولا يبقى أمامها سوى صب وتفريغ ما تبقى من ميليشيات سورية مسلحة كانت تعمل هناك طوال هذا الوقت، تحت إمرتها، على الجبهة في ليبيا، كمحاولة أخيرة تهدف الى بسط سيطرتها على مساحة ولو بسيطة من النفوذ هناك.
- فرضية البقاء والحصول على مساعدة دولية: يقع اردوغان تحت وطأة الحصار بفعل القوات الروسية بمعاونة روسية، ويرفض بوتين الجلوس على طاولة المفاوضات بشكل منفرد مع نظيره التركي. فيضطر لأن يطلب المساعدة من حلف الناتو، باعتبار تركيا أحد أعضائه، فيرد حلف شمال الأطلسي رافضًا المشاركة في مغامرات اردوغان المتهورة على الجبهة السورية، حيث يصف الناتو تركيا وهي الدولة التي تزعم تعرضها للاعتداء بأنها هي الدولة –المُعتدي- وأنها من تحتل أجزاء من دولة أخرى مجاورة. ولكن أنقرة تستمر بالتصرف على منوال اللجوء للغير وطلب مساعدتهم، أملاً في النفاذ الى صناع القرار الأوروبيون، لأجل اقناعهم بشرعية بقائها على الأراضي السورية والحصول على الحماية اللازمة من خلال مطالبتهم بالتدخل لأجل المطالبة بعدم المساس بنقاط المراقبة التركية على الأرض.
وعليه دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لعقد قمة فرنسية ألمانية روسية تركية المرتقبة، “حول إدلب”، بهدف وقف المعارك هناك والتوصل الى حلول من شأنها أن تحول دون وقوع أزمات إنسانية. حيث قال ماكرون عقب القمة الأوروبية في بروكسل بشأن موازنة الاتحاد، “ينبغي علينا عقد اجتماع في أقرب وقت ممكن (بمشاركة) ألمانيا وروسيا وتركيا” في اسطنبول. وقبلت الدعوة كلاً من روسيا وتركيا، ومن المقرر أن تنعقد القمة التي تمثل –الفرصة الأخيرة- أمام اردوغان في مارس المقبل. والرهان في هذه الحالة على عنصر الوقت، إما أن ينجح في التوصل الى تفاهمات مع الروس تساعده في الخروج من مأزقه، أو اتفاق حول الهدنة. وتأتي هذه القمة المرتقبة في ظل وضوح الاستراتيجية الروسية فيما يتعلق بشمال سوريا وإدلب، على خلفية الانتهاكات التي نفذها الأتراك هناك، وعدم التزامهم باتفاقات سوتشي والاستانا. كما أنه من المرجح في ظل المعطيات الحالية، ألا يتوصل إردوغان من خلال القمة الى أي تفاهمات جديدة سوى عبر قيامه بتقديم التنازلات. نظرًا لأن الوضع في المفاوضات يُقره المنتصر على الأرض، وإردوغان ليس هو هذا المنتصر، كيف من المتوقع أن يفرض رأيه في هذه الحالة؟!
- فرضية التصعيد العسكري: وهو ما تستمر تركيا بالتهديد بإمكانية فعله، ويقول إردوغان أنه يمنح الجيش السوري مهلة حتى نهاية فبراير لأجل الانسحاب من كامل الشمال السوري، مطالبا موسكو بالضغط لأجل تحقيق نفس الأهداف، فيما ترى المعارضة التركية أن تهديداته تجعل من التحركات التركية الخارجية أمرًا ستكون له انعكاسات خطيرة للغاية على الداخل التركي.
ولكن يذكر في هذا السياق، أن تهديدات أردوغان في الآونة الأخيرة، أصبحت لا تشكل قوى ضغط حقيقية على أي طرف من الأطراف، والدليل على ذلك أنه هدد بإرسال قوات عسكرية تركية لأجل المشاركة في النزاع على الأراضي الليبية، وحصل على موافقة البرلمان التركي لأجل هذا الغرض، وفي نهاية المطاف انتهى به الحال الى الاكتفاء بإرسال المزيد من الميليشيات الإرهابية وتفريغها هناك، بمرافقة دعم عددي ضئيل للغاية من الجيش التركي!، وعليه تجدر الإشارة، إلى أن المجتمع الدولي شأنه في مثل هذه النزاعات شأن المجتمعات العادية، لا يعترف أولاً سوى بلغة القوة، وثانيًا يتذكر دائما من يستمر بالتهديد في مقتبل كل أزمة، ثم يمر الوقت حتى يثبت للجميع كيف أن هذا التهديد راح سدى ولم يتم تنفيذه في حقيقة الأمر. وهكذا يبرز السؤال، كيف يتوقع أردوغان أن ترضخ له روسيا وتمتثل لتهديداته بهذه السهولة؟!
ماذا لو خسرت تركيا بالكامل واضطرت الى الانسحاب!

تقترب القوات السورية من معبر – باب الهوى- الذي يفصلها عن تركيا، في سيناريو يُعد هو الأبشع على الإطلاق بالنسبة لأنقرة. يلوح في الأفق الآن كيف أن تركيا على وشك فقدان السيطرة على المناطق الحدودية الشمالية مع سوريا، والتي قد يترتب عليها الواقع الأكثر إيلامًا، وهو انتقال القوات السورية نحو تحرير منطقة عفرين “الجزء الغربي من كردستان سوريا والتي وقعت منذ عام 2018 تحت سيطرة المعارضة السورية المسلحة والجيش التركي”. والأكثر من ذلك، أنقرة تدرك تمامًا كيف سوف تتفاقم الأمور بالنسبة لها، فيما يتعلق بمستقبل الآلاف من اللاجئين السوريون، وهؤلاء كانت أنقرة قد فتحت الأبواب على مصراعيها أمامهم إلى تركيا منذ عدة سنوات فقط، بغرض استخدامهم إما كورقة للضغط على أوروبا، أو من ناحية أخرى حتى يتحولوا الى ميليشيات متطرفة تعمل تحت إمرة وإشراف أنقرة، التي تمنحهم الوعود بالحصول على الجنسية التركية مستقبلاً، وتقوم بمنحهم رواتب، وتزويدهم بالأسلحة لأجل التحرك وفقًا لرغباتها على الأرض. والآن يطرح السؤال نفسه، ماذا بعد فشل تركيا في السيطرة على الأجزاء المرغوبة من سوريا، والتي كانت تعتزم أن تُعيد فيها تفريغ هؤلاء المسلحون مرة أخرى وتسكينهم هناك بعيدًا عن أراضيها!
المنطق يقول إن تركيا سوف تعمل على زيادة وتيرة تفريغ هذه العناصر في بؤرة الصراع على الأراضي الليبية، ولكن ماذا لو؟ فشلت بالفعل في إتمام هذه المهمة كذلك، بفعل ما تواجهه تركيا من تعقيدات على ساحة المعركة هناك أيضًا. ما هو مستقبل هذه الميليشيات وعائلاتهم كذلك؟ كيف سوف تتفاعل مع تركيا التي من المفترض أنها أخذت على عاتقها منذ البداية مسئولية تأمين –قوت يومهم- وتوفير المسكن ونوع الحياة الملائمة لهم.
ليس من الممكن على أحد أن يتخيل أبدًا رد فعل هذه العناصر، التي تتسم بالتطرف وتحمل افكارًا خطيرة للغاية، وبالطبع ليس بعيدًا عن أي منطق كذلك، أن تركيا لم تكن أبدًا تنوي الاحتفاظ بهم الى الأبد. فهناك لحظة ما كانت تعتزم فيها أن تقوم بتفريغهم في ساحات النزاع، وتقوم باستغلالهم بعد ذلك كعناصر بديلة عن العناصر التركية المسلحة، والسيطرة من خلالهم على أراضي أخرى مجاورة.
إن حقيقية ما يدور الآن هو مواجهة تركية سورية بين الجيش السوري والميليشيات السورية التي تحارب تحت رايات العلم التركي، على أراضي ليست ببعيدة عن الحدود التركية. ولكن السيناريو المحتمل، أن تركيا في حالة خسارتها الشاملة على الساحة السورية، واضطرارها للانسحاب تجر خيبات الهزيمة والعودة مرة أخرى خالية الوفاض الى الوطن. أن المواجهة المسلحة القادمة سوف تبقى سورية تركية أيضًا، ولكن هذه المرة ليس بين قوات الجيش السوري النظامية، وإنما بين القوات التركية نفسها والميليشيات السورية التي كانت تركيا قد قامت بشرائها مسبقًا، وبسطت لها الأحلام وزرعت أمامها الأراضي المفروشة بالطموحات الوردية، ثم اضطرت بفعل الظروف الراهنة لإغلاق الحدود في وجهها، وطردها خارجًا. عاجلاً أم آجلاً، تدرك أنقرة بوضوح أن كل من يلعب بنيران المتطرفين يجب أن ينتهي به المطاف محترقًا. والأرض التي تحمي بين جنباتها القنبلة الموقوتة، يجب أن تجرب مرارة الانفجار في وقتٍ لاحق. وكل هذه أمور تتعلق باتجاه أنقرة نحو إيواء الميليشيات والعناصر الإرهابية في المقام الأول، وها هي تدرك الآن بوضوح أنها مسألة وقت فقط قبل أن تنفجر الحدود في وجهها –بفعل هذه القنبلة الموقوتة- التي لم يعد يلوح في الأفق أن يبقى هناك مكان يتسع لها بعد الانتهاء من الحروب على الجبهتين السورية والليبية.
فضلاً عما سيواجه إردوغان من قِبَل المعارضة التركية التي لم تكن ترى أن هناك أي داع يسمح بشن حرب شاملة في سوريا، كل ما كانوا يطمحوا له هو تأمين الحدود التركية السورية، ولكن بفعل التطورات الأخيرة، لم يعد هناك بُدا من التفكير فيما سوف تحمله الخسارة التركية من عواقب جمة على الشعب التركي ككل في حالة انفجار الأوضاع الى الحد الذي يقود الى انسحاب تركي شامل. مما يعني أن خسارة تركيا للحرب في سوريا، قد توازي في نفس الوقت، خسارة إردوغان لكل شيء، خاصة في ظل ما يواجه الاقتصاد التركي من انهيارات متتالية، سوف تلعب الحرب دورها باعتبارها طعنة أخرى إلى الاقتصاد التركي الذي كان إردوغان يفخر أمام شعبه بأنه هو من قام ببنائه وترميمه، وتدور الأيام حتى يشهد نفس الشعب، نفس القائد وهو يعمد الى تدميره.
باحث أول بالمرصد المصري