كورونا

تداعيات متشابكة.. كيف هدد فيروس كورونا منظومات الأمن القومي للدول؟

منذ أن أعلنت منظمة الصحة العالمية تصنيف فيروس كورونا المستجد “كوفيد -19″، وباءً عالميًا، في 10 مارس الجاري، أتسعت على نحو كبير دوائر انتشاره جغرافيا خارج الصين، وارتفعت معدلات الإصابة أسبوعيا في بعض البلدان لتصل إلى 700% عن سابقتها. وتحولت أوروبا لبؤرة جديدة لتفشي الفيروس. 

وهو ما فاقم بدوره من معدلات الإصابة عالميًا نتيجة عمق ارتباط أوروبا بالعولمة، وحركة الطيران والسفن، وموضعها الرئيسي في بنية اقتصاد النظام الدولي المُعولم، واحتلالها موقعًا وسيطًا بين الشرق وقواه الدولية الصاعدة، والولايات المتحدة، لكن ثمة هزّة عنيفة تسبب بها معدل انتشار الفيروس المروع، ليس فقط على صعيد الخسائر البشرية والاقتصادية وتراجع معدلات النمو في الربع الأول من العام، وبالإضافة إلى توقف سلاسل الامداد عبر مناطق العالم المختلفة ولاسيما الغربية، بل أمتد إلى منظومات الأمن القومي في البلاد ككل، نظرًا لبناء معظم الدول أدبيات وأسس أمنها القومي على نسق المدرسة الحديثة، التي تتبنى استراتيجيات التخطيط الاندماجي عالي التعقيد وتستند لمفاهيم تحقيق الأمن عن طريق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، كأسس أولية، دون حصرها في التطور التقني والقوة العسكرية، باعتبار أن الإنماء الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ركائز استقرار المجتمعات وأنظمتها السياسية. 

لكن ثمة اهتزازات عنيفة تعرضت لها تلك الأدبيات وأنظمة الأمن القومي مع تسارع وتيرة فتك فيروس كورونا بالمكون البشري والاقتصادي للدول والمؤسسات الكبرى يمكن عدّها في:

  • تخفيف الاستعداد القتالي للقوات، استحوذت أزمة فيروس كورونا على جُل تركيز دوائر صُنع القرار في الدول، ولاسيما تلك التي تنتشر عسكريًا خارج حدودها ضمن قواعد مأهولة وتنتهج خطط التأمين الديناميكي عبر رؤوس الجسور لأهدافها ومصالحها، كالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، فالأموال التي يتم انفاقها على إعاشة وتأمين هذه القوات أصبحت الآن مهددة بالتحول لمسارات وخطط الانفاق على الوباء وخاصة بعد تفشيه بصورة تفوق قدرة استيعاب الأنظمة الصحية في تلك الدول. حيث أشارت الحكومة البريطانية لتبنيها خططِ وُصِفت بالواقعية لمواجهة الوباء، عبر تفعيل “مناعة القطيع”، بهدف تسطيح منحى الإصابة دون الإضرار الجسيم بالاقتصاد البريطاني. كما تعرضت القوات الأمريكية والبريطانية قبل أيامِ وبالتزامن مع ارتفاع وتيرة الإصابات بالفيروس، لضربات صاروخية مكثفة، لمدة ثلاثة أيامِ من الميليشيات الموالية لإيران في العراق، اسفرت عن مقتل جنديين أمريكيين وجندي بريطاني، ما استدعى تدخل مقاتلات سلاح الجو الأمريكي لتوجيه ضربات ضد تشكيلات الحشد الشعبي وكتائب حزب الله العراقي، على الحدود السورية العراقية.

 لم تأتِ هذه المرة بصبغة استباقية وجاءت أسيرة لـ “رد الفعل”، فيما اكتفت بريطانيا بنقل قواتها من معسكر “التاجي” في بغداد إلى مناطق أخرى أكثر أمناً، والجدير بالذكر أن منصات إطلاق صواريخ الكاتيوشا كانت مطورة محليًا على عربات نقل مدنية، وأخرى منصات أرضية ثابتة، ذات هندسة متقدمة، وهو ما يشير إلى غياب الضربات الاستباقية الامريكية التي أفضت إلى وجودها بالإساس على هذا الشكل المتطور.

  • تصاعد التهديدات السيبرانية، يخضع أكثر من نصف سكان أوروبا الآن لحجر صحي، بعدما أصبحت أوروبا بؤرة جديدة لتفشي الوباء، ولجأت العديد من الهيئات الحكومية والمؤسسات والشركات لتخفيض اعتمادها على كوادرها البشرية، بنسبة تخطت في بعض الهيئات الحكومية الغربية لـ 40%، كما اعتمدت المؤسسات التعليمية على الرقمنة وأدوات التعليم الالكتروني، ودفعت شركات نتفلكس لتخفيض  معدلات بثها حتى 30 من مارس الجاري، نظراً لعمل ملايين الموظفين من المنزل وتعرُض شبكات الانترنت لضغطِ هائل. فضلاً عن اعتماد دول على الانترنت لتسيير وتشغيل أنظمتها الصحية كالولايات المتحدة، وهو ما يرفع من احتمالات حدوث هجمات سيبرانية وخاصة بعد ظهور مؤشرات التوظيف السياسي لأزمة كورونا بين الدول الغربية والولايات المتحدة وروسيا وإيران والصين، وامتلاك هذه الدول لقدرات سيبرانية تعتبر الأفضل بالعالم.
  • تجاوز الصين للأزمة بينما مازالت تداعياتها تضرب الولايات المتحدة، ترفع تلك المقاربة من احتمالات استغلال الصين لمواكبة الولايات المتحدة لتداعيات الأزمة، والتوجه نحو مزيد من السياسات الدفاعية النشطة في منطقة بحر الصين الجنوبي والمحيط الهندي، ومن المرجح أن تلقي الصين حضورًا أمريكيًا قويًا ولاسيما في أعالى البحار نظرًا للتخطيط العسكري الأمريكي المعقد عالي الاندماج على  صعيد القوة البحرية، إلا أن ذلك لم يمنع الصين من نشاطِ متزايد لها في مياه المحيط الهندي، حيث أجرت بداية من ديسمبر 2019، حتى منتصف فبراير الماضي، أكثر من ثلاثة آلاف عملية استكشاف ومراقبة بحرية نفذتها أسلحة جديدة لبحريتها.

غواصات صغيرة الحجم، مُسيرة عن بُعد، ومُعدة بالهندسة العكسية لنظائرها الأمريكية، وتمتلك تلك الغواصات الغير مأهولة قدرة على البقاء في الأعماق لمدة أشهر وتديرها سفن حربية بالأساس. وأشارت مجلة “فوربس” الأمريكية إلى تزايد نشاط هذه القطع البحرية خلال الأسابيع الماضية في مناطق جديدة للبحرية الصينية.

  • تزايد أدوار الفواعل من غير الدول، دفع تغلغل منظومة العولمة في شتى مناحي الحياة العصرية، وانخراط الدول النامية في بنيتها الاقتصادية، إلى انتقاص سيادة الدول، مقارنة بفترة ما قبل انهيار الكتلة الشرقية، وهو ما أفضى بدوره إلى تزايد أدوار ونفوذ الشركات متعددة الجنسيات، والمنظمات الدولية، حيث لم تحتكر الدولة الآن القوة الإكراهية، ولا التقنية الحديثة، وباتت الشركات العابرة للإقليمية ولاسيما شركات الطاقة والدواء، تملك تقنيات تنقيب وإنتاج لا تملكها دول مجتمعة، فمثلاً تسارع الآن أكثر من عشر شركات عالمية لتطوير لقاح لفيروس كورونا، وأبرزهم شركة “كيور فاك” الألمانية التي تُعتبر الأقرب والأسرع وصولا للتطوير، مما دفع البيت الأبيض لممارسة ضغوطِ على الشركة للاستحواذ على خط انتاج المصل، واحتكاره للولايات المتحدة. 

كما تصاعدت وتيرة تهديدات التنظيمات الإرهابية، ضمن سياقات التنافس الإقليمي من جهة، والتصعيد الأمريكي – الإيراني من جهة أخرى. كما تزايد نشاط حركة طالبان التي أطلقت هجومًا واسعًا، أوقعت فيه نحو 20 قتيلا في صفوف القوات الأفغانية مطلع الشهر الجاري، رغم اتفاق الدوحة. 

  • تصاعد أدوار مقلقة لبعض الجيوش، لم تعد المؤسسات المدنية في الدول الغربية والآسيوية قادرة على احتواء أزمة تفشي جائحة كورونا بمفردها، حيث تزايد الاعتماد على الجيوش النظامية نتيجة “لأمننة” التهديدات الوبائية، ما أفضى بدوره لدور واسع لقوات الدفاع الذاتية في اليابان، “الجيش الياباني”، الذي حرصت القوى الغربية والآسيوية بعد الحرب العالمية الثانية على دحر أي بوادر لامتلاك الأمة اليابانية لجيش نظامي قوي.

 وعززت ذلك من خلال الدفع بأول مشروع دستوري ياباني بعد انقضاء الحرب العالمية، حيث تنص المادة التاسعة من الدستور على أنه، ” يتطلع الشعب الياباني بصدق وإخلاص إلى السلام العالمي القائم على أسس من العدل والنظام، ويتخلى إلى الأبد عن الحرب كحق سيادي للدولة، وعن القيام بأية أعمال عدوان أو تهديد بواسطة العنف كوسيلة لحل النزاعات الدولية، ومن أجل تحقيق الغاية من البند السابق، لا يتم امتلاك قوات برية أو بحرية أو جوية أو غيرها من القوات العسكرية، ولا تعترف الدولة بحقها في خوض الحروب”، بمعنى أوضح، يتخلى الدستور الياباني عن حق خوض الحروب، ويحظر أي نوع من أنواع القوة العسكرية، وتجدر الإشارة إلى أن إنشاء قوات الدفاع الذاتي اليابانية من خلال ثغرة قانونية تُفرّق بين “القوة العسكرية” و”قدرة الدفاع عن النفس”، فقوات الدفاع الذاتي -وفقًا للمادة السابقة من الدستور- لا تُعتبر “جيشًا” بالمعنى التقليدي، على الرغم من أنها تظهر في الواقع على العكس من ذلك، فقد تولت وحدات قوات الدفاع الذاتي المهام الرئيسية لأعمال مكافحة انتشار الفيروس، وظهرت أصواتًا تنادي بتوسيع صلاحياتها وضرورة تعزيز قدراتها الدفاعية، وقد لاقت هذه الأصوات المحافظة مردودًا مرحبًا لها في الأوساط الشعبية اليابانية، وهو ما قد يضع مصفوفة القوى في جنوب شرق آسيا أمام احتمالات تغيير موازين القوى، على المدى القصير والمتوسط.

  • إصابة صانعي القرار والقيادات العليا للدول بفيروس كورونا، تخطى الفيروس جميع إجراءات التأمين الصارمة وتسلسل لأشخاص يشاركون عمليا في صناعة القرارات الرامية لمكافحته، ففي إيران أصاب الفيروس أكثر من 23 نائباً في البرلمان حتى وقت كتابة هذه السطور، فضلاً عن إصابة نائب الرئيس، إسحاق جانغيري، وأربعة وزراء في الحكومة، وعناصر من مجمع تشخيص مصلحة النظام، المتصل مباشرة بـ مكتب المرشد علي خامنئي. كما أصيبت زوجة رئيس وزراء إسبانيا، وزوجة رئيس وزراء كندا، ورئيس إقليم كتالونيا، ومسؤولين في البرازيل، ووصل كورونا إلى البيت الأبيض وأصاب أحد مساعدي نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس، فضلاً عن وفاة اثنين من كبار ضباط القوات المسلحة المصرية بالفيروس بعد المشاركة في أعمال مكافحته، وهو ما يهدد مسؤولي وصانعي القرار المعنين بالأمن القومي في مختلف البلدان.
  • تحجيم عمل أجهزة الاستخبارات ميدانيًا، حيث قللت المباحث الفيدرالية الأمريكية من دوائر نشاط عملائها على الأرض ولاسيما في المناطق الموبوءة بالفيروس، وتبعتها إجراءات مشددة في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، التي رصدت وتنبأت بقدوم الجائحة منذ فبراير الماضي مع وكالة الأمن القومي الأمريكي، وكانت تسلم تقارير يومية للبيت الأبيض لاتخاذ كافة الإجراءات والسياسات للحد من انتشار الفيروس، إلا أن إدارة ترامب لم تتخذ الإجراءات اللازمة حسبما وصفت الواشنطن بوست.
  • تطويق إفريقيا، تأتي إفريقيا كأقل مناطق العالم إصابة بالفيروس، وذلك لكونها الأقل تعرضاً لديناميات العولمة، والاقل انخراطًا في الاقتصاد المعولم، وبالنظر للدول الإفريقية الأكثر انخراطًا في بنية الاقتصاد المعولم، نجد دول مصر والمغرب وجنوب إفريقيا، وهما الأكثر اصابة بالفيروس إفريقيا، ويطوقوا افريقيا من الشرق والغرب والشمال والجنوب، وعلى الرغم من قرارات تعليق حركة الطيران في هذه البلدان لنهاية شهر مارس الجاري، إلا أن ثمة تهديدات جسيمة تظل حاضرة وخاصة في سياق تهالك الأنظمة الصحية للدول الإفريقية والأكثر اكتظاظًا بالسكان.
  • زيادة الانخراط الروسي في قلب أوروبا، مع تحول إيطاليا لأشد بؤرة لتفشي الفيروس خارج البر الصيني، وتسجيلها أعلى معدلات الإصابة والوفيات بالعالم، ومع ضعف استجابة الاتحاد الأوروبي لنجدة هذا البلد المنكوب، هبّت كل من الصين وروسيا لإرسال مساعدات طبية عاجلة لروما.
https://www.youtube.com/watch?v=V1uAGIkOM6g

إذ أعلنت وزارة الدفاع الروسية، أمس، الاثنين، أن طائرة عسكرية روسية ثامنة، تقل على متنها أخصائيين ومعدات طبية لمكافحة فيروس كورونا وصلت إلى إيطاليا.

وقالت الوزارة في بيان لها، “وصلت طائرة النقل العسكرية الثامنة “إيل 76″ التابعة لقوات الفضاء الروسية مع مجموعة من المتخصصين العسكريين الروس ومعدات للتشخيص والتطهير، إلى قاعدة براتيكا دي ماري الجوية في إيطاليا”.

وأعلنت وزارة الدفاع الروسية، أمس الأول، الأحد، إرسال سرب طائرات نقل عسكرية، مجهزة بمعدات ومتخصصين في مجال الفيروسات إلى إيطاليا، بهدف تقديم المساعدة في مكافحة فيروس كورونا المستجد، وتضم 9 طائرات شحن عسكرية من طراز “إيل 76” وتحمل الطائرات ثمانية فرق طبية وتمريضية بالإضافة إلى المعدات والأدوات الطبية اللازمة والسيارات وأدوات التعقيم والتطهير، مع المتخصصين، للمساهمة في احتواء انتشار الفيروس في إيطاليا.

 المساعدات الروسية كان لها موضع حساسية شديدة، نظرًا لنشاط روسيا في منطقة تُدار من خلالها عمليات حلف شمال الأطلسي الرامي لتطويق وعزل موسكو، وهو ما يهدد منظومة الأمن في الحلف، وخاصة مع بدء سريان عربات روسية في شوارع إيطاليا بعد وصولها على متن طائرات الشحن العملاقة التابعة لسلاح الجو الروسي.

خاتمة

على الرغم من صعوبة القول بانتهاء حقبة العولمة، إلا أنه من المخل القول بعدم حدوث تغيرات جوهرية في المنظومة على ضوء الجائحة التي تعصف بالبشرية الآن، التي لا تعترف بحدود ولا بسيادة الدول ومقدرات شعوبها، فقد هددت جائحة كورونا أدبيات ومنظومات الأمن القومي للدول على نحو العرض السابق، وطرحت حتمية تطوير الدول لقدرات دفاعية ذاتية وعلمية قادرة على البحث والتنبؤ بالمخاطر ومواجهتها في ظل سياق تنافس دولي على قيادة النظام العالمي المتداعٍ الان، وهو ما قد يرجح بزوغ نظام معولم ثانِ يُراعي خطورة تقسيم انتاج السلعة الواحدة عبر مراكز تصنيع متعددة عبر العالم وخلق شبكات اعتماد متبادلة إقليمية لا عالمية.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى