الصحافة الدولية

في ضوء استقالة “عبد المهدي”.. دور المرجعية الدينية في المشهد السياسي العراقي

تقدم رئيس الوزراء العراقي “عادل عبد المهدي” باستقالته إلى مجلس النواب في 29 نوفمبر الماضي، وأوضح في خطاب استقالته أن تلك الخطوة جاءت استجابة لطلب للمرجعية الدينية العليا السيد علي السيستاني، وذلك بعد من مرور أكثر من شهرين على اندلاع المظاهرات بعدد من المحافظات العراقية والتي أسفرت عن قرابة 400 قتيل وما يزيد عن 15 ألف مصاب، فما هو دور المرجعية الدينية العليا في الوضع السياسي بالعراق؟

مفهوم المرجعية ومحطات في تاريخ المشاركات السياسية 

المرجعية الدينية هو مصطلح شيعي بالأساس ويعني وصول الشخص إلى درجة عالية من الاجتهاد والعلم والقدرة على استنباط الأحكام الشرعية، وبالتالي فهو شخص مؤهل لإصدار الأحكام الفقهية، وتنتشر المرجعيات الدينية في عدة دول حول العالم، وتأتى العراق في مقدمة تلك الدول والتي يمثل فيها الشيعة قطاعًا واسعًا من السكان، مما يجعل لآراء المرجعيات الدينية هناك صدىً واسعًا بين عامة الشعب.

ولم يقتصر تدخل المرجعية الدينية في الأمور السياسية على الوضع الراهن فقط، إذ يعود تاريخ المشاركة إلى سنوات الحرب العالمية الأولى حينما ساهم عدد من علماء الشيعة في القتال مع العثمانيين ضد الإنجليز، وتأسيس “حزب النجف السري” في 1918 الذي تبنى الدعوة لاستقلال العراق، ثم المشاركة في الانتفاضة “الشعبانية” في عام 1991 ضد الرئيس الراحل صدام حسين.

وتنامى دور المرجعية بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، إذ دعت لتشكيل حكومة عراقية وإنهاء سلطة الاحتلال المؤقتة، ثم الدعوة لكتابة دستور دائم للبلاد من قبل العراقيين، والدعوة أيضا لإجراء انتخابات حرة ونزيهة لانتخابات أعضاء المجالس المختلفة (مجلس النواب، ومجالس المحافظات والاقضية والنواحي)، واستمر هذا الدور في التنامي وحتى الان.

كما لعبت المرجعية الدينية دوراً كبيراً في أزمة النجف الكبرى والتي وقعت أحداثها في أغسطس 2004، بين جيش المهدي بقيادة زعيم التيار الصدري “مقتدى الصدر” والقوات الأمريكية، حيث قام مسلحو جيش المهدي  بالهجوم على مراكز الشرطة وقواعد القوات الأمريكية في النجف وإحراقها، وفرضت قوات التحالف حصارًا تامًا على قوات جيش المهدي المتحصنة بداخل مرقد الإمام علي بعد قتال شديد ودموي في مقبرة وادي السلام، بجانب اشتباكات أخرى وقعت بالكوفة، وانتهت جميع هذه الاشتباكات بعقد هدنة ووقف إطلاق نار بين الأطراف المتصارعة بعد وصول المرجع الديني علي السيستاني إلى المدينة.

العنف الطائفي بين السنة والشيعة

انطلقت أول شرارة للفتنة الطائفية في العراق بعد تفجير مرقد الإمامين العسكريين بمدينة سامراء في فبراير 2006، وأصدر المرجع الشيعي علي السيستاني بيانا، دعا فيه إلى احتجاجات واسعة ردا على انفجار عنيف دمر القبة الذهبية لضريح الإمام علي الهادي (عاشر الأئمة المعصومين لدى الشيعة( ودعا بيان السيستاني إلى إعلان الحداد سبعة أيام بعد تدمير المزار الذي يضم ضريحي الإمامين علي الهادي وحسن العسكري في سامراء ذات الأغلبية السنية.

وتجمع الآلاف من الشيعة حول الضريح الشيعي الذي تقصده أعداد كبيرة من الزوار القادمين من إيران، ورددوا هتافات منددة بالتفجير الذي وقع باستخدام عبوة ناسفة، لكن هذه الاحتجاجات سرعان ما خرجت عن السيطرة، بعدما أقدمت مليشيات شيعية على حرقت وهدم مساجد أهل السنة في بغداد وديالى والبصرة ومدن أخرى تقطنها مكونات سنية وشيعية، وشهد العراق بعد تفجيرات سامراء، صراعات طائفية وتصدعات اجتماعية مزقت جسد العراق وانعكست سلبا على مستوى الاستقرار المحلي ووحدة النسيج العام.

وفي يناير 2007 أعلن الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش عن نشر عشرين ألف جندى أمريكي إضافي ببغداد من أجل السيطرة على الفتنة الطائفية، وحسبما ذكرت تقارير، فإن أكثر من 200 مسجد سني أحرق، وقتل الآلاف من أهل السنة بواسطة ميليشيات طائفية عقب تفجيرات سامراء، وسط صمت المرجعية الشيعية.

فتوى الجهاد الكفائي تفتح الباب أمام إيران

تجلى الدور الذي تلعبه المرجعية الدينية في الحياة السياسية العراقية عقب دخول تنظيم داعش الإرهابي للعراق وسيطرته على أجزاء واسعة منها في الموصل والانبار وكركوك وصلاح الدين، ففي 13 يونيو 2014 أصدر السيستاني فتوى تدعو كل من هو قادر على حمل السلاح إلى الانخراط في صفوف القوات الأمنية لمحاربة داعش وأستجاب للفتوى اعدادا كبيرة من  العراقيون الشيعة والتحقوا بقوات الحشد الشعبي تحت قيادة فالح فياض و ونوري المالكي و أبو المهدي المهندس وبدر العامري. 

وتشكلت قوات الحشد الشعبي من ميليشيات عسكرية كانت موجودة بالفعل وهي عصائب أهل الحق وفيلق بدر وحزب الله العراقي وهي ميليشيات طائفية بالأساس وتحارب بالعراق و سوريا،وأستغلت تلك الميليشيات الفتوى في حشد المزيد من السكان بمختلف المحافظات للانضمام إليها بما فيها الأطفال، وأعلنت إيران رسميًا تأييدها لميليشيات الحشد الشعبي، وأرسلت قيادين ومقاتلين إيرانيين، على رأسهم قاسم سليماني قائد فيلق القدس في مليشيا الحرس الثوري، وهو الفيلق المسؤول عن عمليات الحرس في الخارج، لتدريب ميليشيات الحشد الشعبي بالتنسيق مع الحكومة العراقية.

ومع مرور الوقت أصبحت قوات الحشد كياناً موازيا للقوات الرسمية، وفي نوفمبر 2016 صدر قانون يقضي باعتبار قوات الحشد جزءً من القوات الأمنية العراقية الرسمية وهو ما أكسبها غطاء شرعيا تتحرك من خلاله في كافة أنحاء العراق، بعد أن كانت يقتصر دورها على مواجهة داعش في مناطق انتشاره، كما منح القانون قوات الحشد الشعبي في الحصول على تمويلات مالية من الميزانية العراقية.

كيف تتابع المرجعية الدينية المشهد السياسي

في 12 سبتمبر الماضي قال “حامد الخفاف” مدير مكتب المرجع الديني الأعلى “علي السيستاني” في لبنان في تصريحات صحفية أن متابعة المرجعية للأوضاع السياسية تكون عبر عدة آليات منها المتابعة المباشرة عبر وسائل الإعلام المرئي والمسموع، وتقديم أهم ما ينشر في الصحافة والمواقع الالكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى كتب وتقارير علمية حول الملفات ذات الأهمية، بجانب تقارير عن أحاديث وتصريحات المسؤولين في الدولة بمستويات متفاوتة تبين وجهات نظرهم في مختلف شؤون البلد.

وأشار “الخفاف” إلى أن أية مواقف تتبناها المرجعية تُبنى على دراسة دقيقة ومتأنية لكل حالة، وبعضها قد يستدعي الإستشارة من أهل الاختصاص، وعلى سبيل المثال: رأي المرجعية العليا بإمكانية إجراء الانتخابات على أساس البطاقة التموينية.

وتستطيع المرجعية الوصول إلى الرأي العام العراقي من خلال عدة وسائل تستطيع من خلالها التأثير عليه وهي وسائل مباشرة وتتضمن (الفتوى – خطب الجمعة والمناسبات الدينية – البيانات – السلوك العملي الذي تسلكه المرجعية في القضايا الشائكة)، وسائل غير مباشرة وهي (وسائل الاعلام – التسريبات الصحفية)، بالإضافة إلى الوكلاء والمعتمدين في الرأي العام، وأخيرا الاستعانة بالمؤسسات الثقافية والفكرية.

المرجعية الدينية وتشكيل الحكومات 

ظلت المرجعية الدينية الشيعية في العراق، تمثل القرار الأخير في الموافقة على الشخصيات التي ترأست الحكومات المتعاقبة منذ انتخابات 2005، فكشف رئيس الوزراء السابق “حيدر العبادي” في أكثر من مناسبة أن مجيئه إلى رئاسة الحكومة العراقية كان بضوء أخضر من المرجعية الدينية، بعد رفضها إعادة تنصيب المالكي لولاية ثالثة.

وقال العبادي في لقاء له مع مجموعة من الأكادميين والإعلاميين في 20 ديسمبر 2018  إن “المرجعية الدينية العليا في النجف، وبالذات المرجع الأعلى آية الله علي السيستاني، طلب في رسالة موقعة باسمه وختمه، تغيير رئيس الوزراء، وهو ما حصل للمرة الأولى في مثل هذه الحالة، وأدى إلى تكليفي هذا المنصب”.

ومع انتهاء حكومة العبادي، تم تكليف “عادل عبد المهدي” برئاسة الحكومة العراقية في أكتوبر 2018، بدعم أيضا من المرجعية الدينية في النجف، وفي هذا الشأن قال السياسي والقيادي السابق في التيار الصدري  “بهاء الأعرجي” خلال حوار صحفي مع جريدة “القدس العربي” نشر في 10 فبراير الماضي، أن عبد المهدي كان خيار المرجعية واختاره “محمد رضا السيستاني” نجل القيادي “علي السيستاني” وتم فرضه على الجميع، وهو ما أكده النائب السابق بالبرلمان العراقي “رحيم الدراجي” في لقاء تلفزيوني بقناة “التغيير” العراقية في 9 يناير 2019 مضيفاً أن عبد المهدي تم اختياره من المرجعية الدينية قبل 3 أشهر من الانتخابات العامة.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

صلاح وهبة

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى