الأمريكتان

دلالات وتداعيات عزل رئيس مجلس النواب الأمريكي كيفين مكارثي

صوت مجلس النواب الأمريكي يوم 3 أكتوبر 2023 لعزل رئيس المجلس الجمهوري كيفن مكارثي، في سابقة تاريخية للولايات المتحدة، وللمرة الأولى في تاريخها الممتد منذ 234 سنة، وذلك بأغلبية 216 صوتًا مقابل 210، لصالح مذكرة طرحها الجناح المتشدد في الحزب الجمهوري بموجبها “يعد منصب رئيس مجلس النواب شاغرًا”. وقد قاد التمرد النائب الجمهوري مات جيتس المحسوب على اليمين عن ولاية فلوريدا، وهو ما طرح تساؤلات عدة عن دلالات ذلك العزل، وتداعياته التي من الممكن أن تمتد خارج حدود الكونجرس وتؤثر بشكل واضح على المشهد السياسي الأمريكي في ظل الحديث المتنامي عن تزايد حالة الانقسام داخل الحزب الجمهوري.

دلالات وأسباب عزل “مكارثي”

يعد السبب الرئيس لعزل “مكارثي” هو انقسام الحزب الجمهوري والصراع داخل أوساطه؛ فبجانب الأقلية الديمقراطية في مجلس النواب، صوت ثمانية نواب جمهوريون لصالح عزل “مكارثي” الذي أثار غضب الجناح المتشدد في حزبه بتعاونه مع الإدارة الديمقراطية في قضية تجنب الإغلاق الحكومي، حيث صوت مجلس الشيوخ بأغلبية 88 صوتًا مقابل 9 أصوات لتمرير الإجراء لتجنب الإغلاق الجزئي الرابع للحكومة خلال السنوات العشر الماضية، وأرسله إلى الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي وقعه ليصبح قانونًا. وبذلك تخلى “مكارثي” عن إصرار المتشددين في الحزب على إقرار أي مشروع قانون عبر أصوات الجمهوريين فحسب، وهو ما أثار غضب الجناح اليميني الذي رأى أن “مكارثي” حرمه من فرصة فرض تخفيضات هائلة في الميزانية الأمريكية.

وقاد النائب الجمهوري مات جيتس التمرد ضد “مكارثي” باستخدام إجراء نادر الاستخدام يعرف بـ “اقتراح إخلاء”. وتبنى “جيتس” خطابًا تصعيديًا ضد “مكارثي” خلال الفترة الماضية، حيث أتى عزل رئيس مجلس النواب عقب أسابيع من سياسة السير على حافة الهاوية بشأن ميزانية الحكومة الفيدرالية، وهو ما اعتبره “جيتس” والمحافظون بمثابة تحول في موقف “مكارثي” الذي تعهد بوضع حد للتشريع المؤقت بدعم من الحزب الديمقراطي. وعليه، دفع “جيتس” بأن “مكارثي” قد عقد “صفقة جانبية سرية” مع بايدن بشأن المساعدات الأمريكية لأوكرانيا.

وبوجه عام يمكن القول إن خطوة إقالة كيفين مكارثي جاءت نتيجة النزاع الواسع على النفوذ بين “مكارثي” وأعضاء الفصيل اليميني في الحزب الجمهوري الذين سبق أن حاولوا منع صعوده إلى منصب رئيس البرلمان في يناير بالرغم من دعم الرئيس السابق دونالد ترامب له. ومن اللافت أن “مكارثي” كان له دور غير مباشر في عملية الإطاحة به، من خلال السياسات التي تبناها على مدار الشهور الماضية، حيث توقعت بعض التحليلات عزله بسبب الاتفاق الذي ضمن بموجبه “مكارثي” فوزه بمنصب رئاسة المجلس في يناير الماضي، وبعد 15 جولة تصويت، حيث وافق مكارثي –لضمان كسب ما يكفي من أصوات الجمهوريين المتشددين في المجلس المنقسم– على السماح لأي من أعضاء المجلس، وفي أي وقت، ولأي سبب، بالدعوة إلى التصويت لإقالته.

من جانب آخر، في الأيام التي سبقت التصويت، كان الديمقراطيون يتصارعون حول إذا ما كان عليهم مساعدة “مكارثي” على البقاء، لكن موقفهم السلبي منه تجاوز في نهاية المطاف أي إرادة سياسية كانت لديهم لإنقاذه. وفي اجتماع مغلق صباح يوم 3 أكتوبر 2023، أصدر زعيم الأقلية النائب حكيم جيفريز من نيويورك تعليماته لزملائه الديمقراطيين بتجنب تقديم الدعم “لمكارثي”. وكان سبب موقف الديمقراطيين السلبي بشكل أساسي تصويته لإلغاء نتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2020 بعد أن اقتحم مثيرو الشغب المؤيدون “لترامب” مبنى “الكابيتول” في 6 يناير 2021، وقراره بالتراجع عن اتفاق حدود الديون الذي توسط فيه مع الرئيس “بايدن” في الصيف لاسترضاء المتشددين، وعلاقته الودية بالرئيس السابق “ترامب”، فضلًا عن قراره فتح تحقيق لعزل “بايدن”.

تداعيات قرار العزل

تم تعيين النائب باتريك ماكهنري رئيسًا لمجلس النواب الأمريكي بالإنابة لحين التصويت على رئيس جديد. وإلى أن يحدث ذلك، سيتمتع رئيس مجلس النواب المؤقت ببعض الصلاحيات التي يتمتع بها رئيس مجلس النواب المنتخب بحسب الضرورة والتناسب انتظارًا للرئيس الجديد. وقد سبق أن اختير “ماكهنري” لهذا الدور عقب انتخاب مكارثي رئيسًا لمجلس النواب في شهر يناير الماضي دون الإعلان عن الأمر آنذاك، فاحتفظ به كاتب مجلس النواب سرًا حتى إقالة رئيس المجلس أو استقالته. وهو الإجراء الذي أقرته الحكومة الأمريكية عقب أحداث 11 سبتمبر 2001 لضمان استمراريتها.

وخلال مؤتمر صحفي، أكد رئيس مجلس النواب السابق أنه لا ينوي الترشح للمنصب رغم تردد بعض الدعوات لطرح اسمه مرة أخرى. وتشير الكثير من التوقعات إلى زعيم الأغلبية في مجلس النواب ستيف سكاليز (الرجل الثاني في الحزب الجمهوري) الذي بدأ بالفعل يتواصل مع زملائه من الجمهوريين بشأن الترشح. ويبرز كذلك اسم رئيس لجنة الدراسات كيفين هيرن بعد أن تواصل معه عدد من المشرعين الجمهوريين، لا سيما أنه يفكر جديًا في التقدم للمنصب، وهو رئيس أكبر مجموعة للمحافظين الجمهوريين في مجلس النواب.

تتزايد أيضًا فرص كل من جيم جوردان (رئيس اللجنة القضائية في مجلس النواب)، وهو بالفعل أول جمهوري يطلق حملة ترشح لمنصب رئيس مجلس النواب، واشتبك مع المدعين العامين في الولاية الذين رفعوا قضايا جنائية ضد “ترامب”، وتوم إيمير (القيادي والمسؤول في مجلس النواب، وإن أعلن دعمه لزعيم الأغلبية سكاليز). ومن المرجح أن تزيد احتمالات التنافس بين “جوردان” و”سكاليز” على أن يخوض المرشحون المحتملون الآخرون ما هو أقرب إلى “المنافسة الطويلة الفوضوية”.

وتشير استطلاعات الرأي إلى تراجع الثقة بالحكومة الأمريكية منذ عدة شهور. وقد تزيد عملية عزل “مكارثي” من حدة هذا الشعور، وذلك للعديد من الأسباب التي يأتي في مقدمتها أن الجمهوريين نجحوا في التخلص من زعيمهم، وأن الصراع على القيادة يستهلك الوقت الذي يتعين فيه على المشرعين تجنب الإغلاق الجزئي للحكومة، لا سيما مع تزايد احتمالاته وقرب أجله بعد 17 نوفمبر المقبل إن فشل الكونجرس في تمرير تشريع يوفر المزيد من التمويل. 

ومن الأسباب البارزة أيضًا في هذا الصدد تاريخ شاغلي تلك الوظيفة من الجمهوريين في السنوات القليلة الماضية، حيث تقاعد الجمهوري بول ريان (الرئيس الأسبق لمجلس النواب) من الكونجرس بعد أن ناضل من أجل العمل مع “ترامب”، وغادر سلفه جون باينر بعد اشتباكات مع الجناح اليميني للحزب.

من المرجح أيضًا أن تكون الأسابيع المقبلة فوضوية بالكونجرس، وسط مخاوف من أن يتردد صدى نتائج قضية “مكارثي” إلى ما هو أبعد من “الكابيتول هيل”؛ إذ ترك التصويت على إقالة “مكارثي” مجلس النواب في حالة من الجمود حتى يتم اختيار خليفة له، الأمر الذي قد يعطي مؤشرًا على بدء انتخابات رئاسية أخرى قد تكون فوضوية، وفي وقت يكون فيه أمام الكونجرس ما يزيد على 40 يومًا لتجنب إغلاق حكومي محتمل آخر في حال عدم اتخاذ بديل “مكارثي” إجراءً سريعًا بشأن خطط تمويل الحكومة والاتفاق على تجنب إغلاق يبقي أنشطة الحكومة مستمرة لما بعد 17 نوفمبر.

أيضًا من شأن ما حدث أن يؤثر على شعبية الحزب الجمهوري لدى الأمريكيين الذين يرون أن وصول أفراد الحزب إلى مقاعد الكونجرس من جديد أو تمكنهم من الرئاسة لن يصب في صالح الشعب الأمريكي، وإنما سيكون رغبة جديدة من الجمهوريين في خوض الصراعات السياسية، خاصة أن مواقف الجمهوريين الأخيرة تعكس انقسامًا كبيرًا، وعدم قدرتهم على الاتفاق على مواقف محددة، وانقسام الحزب داخليًا لفرق مختلفة متشددة ومحافظة، وأخرى أكثر اتزانًا ورشدًا، ولكن الصدام بين التيارات المختلفة داخل الحزب الجمهوري يحول دون وجود موقف قوي داخله بشأن القضايا المختلفة.

أما من جانب الحزب الديمقراطي، فيستغل أعضاؤه الانقسامات التي يظهرها الجمهوريون داخل الكونجرس خلال الحملات الانتخابية لانتخابات عام 2024 لاكتساب المزيد من الأصوات، حيث كتب الرئيس الأمريكي عبر حسابه على منصة “إكس X”، العديد من المرات عن هذا الأمر، حاثًا الأمريكيين على الحفاظ على الديمقراطية والتصويت في الانتخابات القادمة لصالحه ولصالح الديمقراطيين، قائلًا: “علينا جميعًا أن ندافع عن الديمقراطية في صناديق الاقتراع”. وقالت كارين جان بيير المتحدثة باسم البيت الأبيض عن “بايدن” بعد تصويت المجلس: “لأن التحديات العاجلة التي تواجه أمتنا لن تنتظر، فهو يأمل أن ينتخب مجلس النواب رئيسًا له بسرعة”، وتم وصف الوضع بأنه “فوضوي”.ختامًا، لا تزال هناك جملة من التساؤلات المطروحة حول عزل “مكارثي” وتداعيات ذلك المستقبلية وقدرة الكونجرس على التوافق على مرشح محتمل خلال فترة زمنية قصيرة، وخاصة في ظل تعدد الملفات الشائكة التي تواجهها الإدارة الأمريكية، وذلك على شاكلة تمويل عمل الإدارات الفيدرالية والدعم الأمريكي لأوكرانيا. ومع وصف معظم القوى السياسية سواء الأمريكية أو العالمية للوضع الراهن بالفوضى، فإن ذلك قد يقنع الكثير من الناخبين بضرورة التصويت للخيار الديمقراطي في الانتخابات القادمة من ناحية، وقد تعقد مساعي الحزب الجمهوري التي تهدف إلى تشديد قوانين الهجرة ومتابعة التحقيق في قضية عزل “بايدن” من ناحية أخرى.

+ posts

باحث بالمرصد المصري

بيير يعقوب

باحث بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى