أسواق وقضايا الطاقة

تأثير التصعيد في غزة: هل ستشهد أسعار النفط ارتفاعًا ملحوظًا؟

تتأثر حركة أسعار النفط بالأحداث التي لا تتعلق بصورة مباشرة بعمليات العرض، بدءًا من الأحداث الجيوسياسية مثل الأحداث المناخية الكبرى إلى حالات عدم الاستقرار الإقليمي أو الجيوسياسي. قياسًا على ما حدث في الصدمة النفطية الأولى والتي أُطلقت على الحظر النفطي العربي عام 1973، حيث أدت إلى ارتفاع أسعار النفط بشكل كبير بنحو حوالي 230%، بالإضافة إلى قرار منظمة أوبك عام 2017 خفض إنتاجها من أجل الحفاظ على أسعار النفط عالميًا، مما أدى أيضًا إلى ارتفاع أسعار النفط بنسبة بلغت حوالي 7%، وأيضًا انتشار الأوبئة مثلما حدث في بداية عام 2020 وتأثيرها القوي على انخفاض أسعار النفط عالميًا. وجاءت الحرب الروسية الأوكرانية لتُسهم في تعقيد المشهد النفطي العالمي تمامًا، حيث أدت إلى ارتفاع أسعار النفط إلى مستويات لم تحدث منذ 14 عامًا.

ومنذ بداية العام الحالي، تشهد أسواق النفط العالمية حالة من عدم الاستقرار. وجاءت التطورات الأخيرة في غزة لتعكس مسارًا جديدًا في أسعار النفط والمشهد النفطي العالمي؛ فقد ارتفعت أسعار النفط الخام إلى حوالي 89 دولارًا للبرميل في بداية الأسبوع وقفز خام برنت، وهو مؤشر النفط العالمي، بنسبة تراوح 5% في التعاملات المبكرة في آسيا وذلك قبل أن يتراجع ليرتفع بنسبة حوالي 4% إلى حوالي 88 دولارًا للبرميل. وسط مخاوف من أن تؤدي تلك الأحداث المتتالية إلى زيادة التوتر في المنطقة مما قد يؤثر على إنتاج كبار منتجي النفط، بما يطرح سؤال: هل ستنعكس خطوات التصعيد الأخيرة في غزة على أسواق النفط العالمية؟

الوضع النفطي لطرفي الصراع

بشكل عام، استهلكت إسرائيل حوالي 215 ألف برميل من النفط يوميًا في السنوات الأخيرة، وتشكل تركيا المصدر الأول لشحنات النفط الخام في إسرائيل، والتي تأتي عبر خطوط الأنابيب من أذربيجان والعراق، وتحديدًا من إقليم كردستان العراق. وتعد نيجيريا والجابون وكازاخستان والبرازيل من بين كبار المصدرين إلى إسرائيل.

ووفقًا لما سبق، لقد أظهر التعليق المفاجئ لتدفقات النفط الخام من شمال العراق على الرغم من أنه كان بشكل مؤقت خلال الأشهر الماضية، مدى اعتماد إسرائيل على مزيج خام كردستان مخفض السعر إلى حد كبير، وأوضح الانقطاع مدى تأثير هذه الاضطرابات على أمن الطاقة الإسرائيلي. حيث يعود السبب بشكل خاص إلى غياب إمكانية تأمين إمدادات بديلة بشكل سريع في ظل وجود عقوبات غربية على منتِج النفط الخام الرئيس موسكو.

وهنا تجب الإشارة إلى أن إسرائيل قد حصلت في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2023 على 40% من إمداداتها النفطية من كردستان العراق، فيما يمثل ضعف النسبة المسجلة في عام 2022 تقريبًا. وفي مثال بارز آخر على ديناميات هذا التحول، استوردت إسرائيل نحو حوالي 183 ألف برميل يوميًا من نفط خام كركوك-جيهان في فبراير الماضي، أي أكثر من خمسة أضعاف 36 ألف برميل يوميًا التي استوردتها خلال الشهر نفسه من العام الماضي، علمًا بأن الشحنات من حكومة إقليم كردستان بقيت ثابتة نسبيًا منذ عام 2018، وتجدر الإشارة إلى أن إسرائيل استهلكت نحو 210 آلاف برميل يوميًا في السنوات الأخيرة، كما هو موضح في الشكل التالي.

وعليه يمكن القول إن إسرائيل تعتمد بشكل كبير على النفط الخام المستورد لقطاع التكرير والذي تبلغ سعته حوالي 300 ألف برميل يوميًا، مع طلب محلي ضخم يصل إلى حوالي 250 ألف برميل يوميًا، مع تصدير شحنات صغيرة نسبيًا من المنتجات والمشتقات النفطية المكررة مثل البنزين والديزل.

وعلى الجانب الآخر، عانى قطاع غزة من نقص حاد في مصادر الطاقة، يتجلى أثر ذلك بانقطاع التيار الكهربائي أكثر من 13 ساعة يوميًا نتيجة توفر أقل من 45% فقط من احتياج المواطنين للكهرباء، كما أن معظم مناطق الضفة الغربية تحصل على الكهرباء عن طريق شرائها من شركة الكهرباء الإسرائيلية، مما يجعل المواطنين الفلسطينيين عرضة لابتزاز الشركة الإسرائيلية، حيث يبلغ متوسط استهلاك فلسطين من الطاقة الكهربائية سنويًا نحو 1.8 ألف ميجاوات، منها قرابة 600 ميجاوات لقطاع غزة.

واستكمالًا لما سبق، تعتمد فلسطين على إسرائيل حاليًا للحصول على نحو 95% من الطاقة الكهربائية، والنسبة المتبقية من الأردن ومصادر الطاقة الشمسية. ولذلك تعمل السلطة الفلسطينية من خلال صندوق الاستثمار الفلسطيني على تدشين الشركة الوطنية لتوليد الطاقة الكهربائية في مدينة جنين شمال الضفة الغربية، لتكون قادرة على توفير حوالي 450 ميجاوات من الكهرباء.

نطاق الصراع وتأثيراته المستقبلية

بالنظر إلى نطاق الصراع الحالي، نجد إنه على الرغم من أن الصراع الحالي في غزة لا يُمثل تهديدًا مباشرًا على خطوط الإمدادات النفطية أو مصادره الرئيسة في المنطقة، فإن الأسواق النفطية تنظر إلى الأبعد من ذلك تحديدًا؛ إذ إن هناك العديد من المخاوف بشأن احتمالية توسع الصراع ليشمل أطرافًا أخرى، ولا سيما طهران. فقد ارتفع إنتاج النفط الإيراني بنحو 750 ألف برميل يوميًا منذ بداية عام 2023، بالإضافة إلى وصول مستويات الإنتاج النفطي الإيراني إلى أعلى مستوى لها في 5 سنوات بحوالي 3.3 ملايين برميل يوميًا. حيث استفادت طهران من تخفيف التوترات مع واشنطن وتجاوزها لقضية صادرات النفط الإيراني واحتياطياتها النفطية الكبيرة، كما هو موضح في الشكل التالي. 

مما يُشكل ذلك تحركًا يهدف إلى احتواء ارتفاع أسعار النفط من قبل الإدارة الأمريكية، في وقت تتمسك فيه كل من المملكة العربية السعودية وروسيا بخفض إنتاجهما من النفط، ولذلك أسهم التخفيف في ترويض أسعار النفط الخام وبالأخص بعد الخفض الكبير للإمدادات من الرياض وموسكو وبقية أعضاء تحالف أوبك بلس. مما أثار مخاوف جديدة بشأن التوتر في الشرق الأوسط والتي تُشكل حوالي ثلث العرض العالمي، حيث تُمثل تكاليف الطاقة محركًا أساسيًا لارتفاع الأسعار العالمية.

وعلى الجانب الآخر، كشفت منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) الاثنين الماضي عن توقعاتها المستقبلية فيما يتعلق بالطلب على النفط وإنه سيستمر في الارتفاع خلال العقدين المقبلين رغم الجهود المبذولة على المستوى العالمي للحد من التغير المناخي. حيث توقعت منظمة أوبك في تقريرها السنوي للعام 2023 أن يصل الطلب على النفط إلى حوالي 116 مليون برميل يوميًا بحلول عام 2045، ما يزيد بنسبة حوالي 17% عن مستواه عام 2022، (109) ملايين برميل من النفط يوميًا، كما هو موضح في الشكل التالي.

ولذلك تراهن “أوبك” التي تضم بين دولها الأعضاء الـ13 السعودية ودول الخليج وفنزويلا، أن مُحرك الطلب العالمي على النفط الخام سيكون الدول من خارج منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي، وفي طليعتها الهند. حيث اعتبرت “أوبك” أنه من أجل تلبية هذا الطلب يجب رصد استثمارات جديدة في إنتاج الوقود الأحفوري بقيمة قد تصل إلى حوالي 14 تريليون دولار وذلك بحلول 2045، أي بمعدل حوالى 610 مليارات دولار في السنة.

وعلى الجانب الآخر، تعد واشنطن لاعبًا رئيسًا في المشهد النفطي العالمي، وتتأثر بشكل كبير عندما ترتفع الأسعار أو تتخطى حاجز 100 دولار للبرميل، ولذلك يمكنها الاستفادة من احتياطيها النفطي الاستراتيجي من أجل الحد من التأثير في أسعار البنزين، وفي شعبية الرئيس الأمريكي جو بايدن. وإذا ارتفعت أسعار النفط بسبب التوترات في منطقة الشرق الأوسط، فمن المؤكد أن الإدارة الأمريكية ستفكر في احتياطي النفط الاستراتيجي، وعلى الرغم من أنه عند أدنى مستوى له منذ 40 عامًا، فإنه لا يزال به ما يكفي من النفط للتعامل مع أزمات أخرى، كما هو موضح في الشكل التالي.

ووفقًا لما سبق، هناك العديد من السيناريوهات المحتملة للصراع الحالي على حركة أسواق النفط المقبلة، بالإضافة إلى توقعات “أوبك” المستقبلية والتي يمكن تلخيصها في النقاط التالية:

السيناريو الأول: التأثير على أسعار النفط سيكون محدودًا، وذلك نظرًا لبعد منطقة الصراع الحالية عن خطوط الإمداد النفطية المهمة. وعليه، يمكن القول إن أسعار النفط الخام قد تشهد ارتفاعًا ولكنه محدود، ولكن بشرط أن يظل التأثير الإجمالي للصراع محدودًا.

السيناريو الثاني: في حالة التصعيد في غزة ودخول أطراف جديدة للصراع، من الممكن أن يؤدي إلى عودة الإدارة الأمريكية لتضييق الخناق على صادرات النفط الإيراني والتي وصلت لمستويات عالية. وهو الأمر الذي قد يدفع أسعار النفط للأعلى (فوق مستويات 100 دولار للبرميل). وطبقًا للتقارير العالمية، إن خفض أو فقدان حوالي 100 ألف برميل يوميًا من النفط الإيراني سيؤدي إلى زيادة بمقدار نحو دولار واحد للبرميل خلال عام 2024. 

وعليه، يمكن القول إن صعود أسعار النفط الخام لسبب أو لآخر نتيجة للصراع سيؤدي إلى تجدد الضغوط التضخمية على مستوى العالم، وهو الأمر الذي سينعكس في استمرار تشديد السياسات النقدية. علاوة على ذلك، فإن أي تحرك أمريكي لتضييق الخناق على الإمدادات الإيرانية من النفط الخام، من شأنه أن يؤدي إلى خنق أسوق النفط العالمية، وهو قرار صعب قبل انطلاق الانتخابات الرئاسية الأمريكية العام المقبل.

السيناريو الثالث: مراقبة حركة الأسعار، وبالتالي فإن التركيز الرئيس لأسواق النفط سينصب في المرحلة المقبلة على مدى حجم الرد الإسرائيلي، إذا ما ثبت تورط طهران في الهجوم الأخير. ولذلك فإن الخطر الأكبر سيتمثل في هجوم إسرائيلي مباشر على إيران، وهو الأمر الذي قد ينتهي برد إيراني قد يطال مضيق هرمز (يربط الدول المنتجة للنفط في الخليج العربي بمصافي التكرير في جميع أنحاء العالم)، وهو المضيق الذي يُعد نقطة عبور محورية لنحو حوالي 17.5 مليون برميل يوميًا من النفط الخام والمنتجات البترولية المهمة، أي ما يعادل خمس شحنات النفط الخام على مستوى العالم. 

إلا أن هذا السيناريو، لا يزال مستبعدًا بشكل كبير، لأنه لم يُغلق مضيق هرمز فعليًا أبدًا، حتى في خضم حرب الناقلات عام 1984 التي هاجمت فيها إيران والعراق ناقلات النفط التابعة لبعضهما البعض بشكل متكرر، كما لم يحدث ذلك مؤخرًا عندما كثفت طهران عمليات استيلاء ومضايقة سفن الشحن التجاري، الشكل التالي يوضح حركة النفط الإيراني خلال الفترة الماضية.

ولكن سيظل الخطر الأكبر على أسواق النفط العالمية هو الطاقة الإنتاجية المحدودة؛ إذ إن الهدف الدائم لمنظمة الدولة المصدرة للنفط “أوبك” وأيضًا تحالف “أوبك بلس” هو الاستثمار في السعة الإنتاجية الفائضة لبراميل النفط؛ بهدف الاستفادة منها في مواجهة أي صدمة للحفاظ على استقرار أسعار النفط الخام. ولكن بالنظر إلى تلك المسألة نجد أن هناك دولًا قليلة لا تزال تحتفظ بطاقة إنتاجية محدودة للغاية، ومنها المملكة العربية السعودية، كما هو موضح في الشكل التالي.

مجمل القول، لم يكد الاقتصاد العالمي يتعافى من الضربات المتتالية التي ألمت به خلال السنوات الماضية حتى تلقى ضربة قاسية جديدة في بداية الأسبوع الجاري. فلم يكد يلتقط أنفاسه من الآثار السلبية للجائحة التي استمرت لنحو عامين والأزمة الروسية الأوكرانية التي أشعلت فتيل الأزمات الاقتصادية على مستوى العالم حتى وجد نفسه في مواجهة تهديد جيوسياسي جديد في غزة. ومع احتدام الصراع الآن، ستتركز الأنظار على ردود أفعال كبار اللاعبين في أسواق النفط من منُتجي النفط في العالم مثل المملكة العربية السعودية وإيران، في محاولة لاستشراق مستقبل أسعار النفط الخام خلال العام المقبل، لأنه على الرغم من أن الصراع لا يؤثر بشكل مباشر على مستويات إنتاج النفط أو إمداداته، فإنه لا يزال قرب منطقة مهمة لإنتاج وتصدير النفط.

ولكن رغم كل هذه المخاطر التي تلوح في الأفق، لا تزال هناك احتمالات كبيرة ألا يؤثر هذا الصراع بشكل حاد وكبير على حركة أسعار النفط الخام عالميًا، حيث لم تتسبب الاضطرابات التي شهدتها المنطقة مؤخًرا في ارتفاعات مستدامة بأسعار النفط العالمية.

د. أحمد سلطان

دكتور مهندس متخصص في شؤون النفط والطاقة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى