
خلال الأسابيع الماضية، شهدت العلاقات بين موسكو وطهران بعض التوترات؛ على إثر تصريحات أكد خلالها وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، على أحقية دولة الإمارات العربية المتحدة في الجزر الثلاث الواقعة في الخليج العربي، وهي: طنب الكبرى، وطنب الصغرى، وأبو موسى. فقد ذهب مسار العلاقات الإيرانية الروسية إلى زاوية مضطربة لم تكن متوقعة، كان من بين محطاتها على سبيل المثال محاولة إيران آنذاك إيجاد قلاقل لروسيا فيما يخص مسألة نزاعها مع اليابان بشأن “جزر الكوريل”. ولكن بدا خلال الأيام الماضية أن هذه التوترات كانت مؤقتة فقط وأن مسار العلاقات بين البلدين لم ينحرف، وهو ما ظهر جليًا خلال الزيارات الأخيرة التي قام بها مسؤولون إيرانيون، خاصة العسكريين منهم، إلى موسكو، وكان آخرهم قائد القوات البرية في الجيش الإيراني، كيومرث حيدري، في 20 أغسطس 2023.
تحول سريع في مسار التوترات البينية
على الرغم من هذه التوترات الروسية الإيرانية فإنها سرعان ما تبخرت، وعاد مسؤولو البلدين بدلًا من ذلك إلى الحديث عن تقوية التعاون مرة أخرى في مختلف المجالات والأصعدة. وفي هذا السياق، زار قادة عسكريون إيرانيون كبار روسيا أكثر من مرة خلال الأسابيع القليلة الماضية، وأجرى مسؤولون من البلدين اتصالات هاتفية أخرى. وكان الهدف من وراء ذلك العودة مجددًا لتعزيز التعاون المشترك بين الدولتين في أعقاب التوترات المُشار إليها.
ولعل أبرز هذه الزيارات الرامية لعودة العلاقات إلى مسارها تمثل في:
وزيرا خارجية إيران وروسيا يناقشان “دفع العلاقات إلى الأمام”: لم تلبث التوترات الروسية الإيرانية أن تستمر، حيث سارع الطرفان إلى عودة التأكيد على علاقاتهما الاستراتيجية. ففي 18 يوليو 2023، شدد وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، لنظيره الروسي سيرجي لافروف، على أن “علاقات بلاده مع روسيا تسير نحو الأمام”، مضيفًا أن “العلاقات مع روسيا تقوم على أسس قوية، ويجب عدم الإضرار بها”.
الرئيسان الروسي والإيراني يبحثان “توسيع نطاق التعاون الدولي والإقليمي”: وبعد شهر واحد من هذا الحديث، أجرى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، اتصالًا هاتفيًا يوم 18 أغسطس 2023 مع نظيره الإيراني، إبراهيم رئيسي، بحثا خلاله “توسيع نطاق التعاون في الشؤون الدولية والإقليمية”. وأوضح الكرملين أن “بوتين ورئيسي أكدا على مواصلة تطوير العلاقات الروسية الإيرانية في التجارة والطاقة والنقل والمجالات البيئية”.
نائب رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية يزور موسكو: قام نائب رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية، العميد عزيز نصير زاده، في 14 أغسطس الجاري بزيارة إلى الأراضي الروسية، على رأس وفد عسكري. وقام ذلك الوفد بزيارة المعرض العسكري الروسي وعقد لقاءاتٍ مع عددٍ من المسؤولين العسكريين الروس، وحتى الأجانب المشاركين في المعرض وكان من بينهم وزيرا دفاع الصين وكازاخستان. وقد صاحب نصير زاده وزيرُ الدفاع الروسي، سيرجي شويجو، خلال زيارته لغرفة إيران في ذلك المعرض العسكري الدولي. وكانت إيران قد عرضت في ذلك المعرض، الذي انتهى يوم 20 أغسطس 2023، عددًا من صناعاتها العسكرية والدفاعية.
قائد القوات البرية الإيرانية يزور موسكو: أحدث هذه الزيارات التي قام بها مسؤولون إيرانيون إلى موسكو بعد تفجر التوترات كانت زيارة قائد القوات البرية في الجيش الإيراني، العميد كيومرث حيدري، وذلك يوم 20 أغسطس 2023، وهي التي أعقبت بـ 3 أيام فقط زيارة العميد نصير زاده، كما سبق توضيحه. وقد استمرت زيارة “حيدري” إلى موسكو 3 أيام أجرى خلالها عدة جولات في وحدات تكنولوجية تقنية تابعة للقوات المسلحة الروسية إلى جانب عقدها لقاءاتٍ مع مسؤولين عسكريين روس وزيارته للمعرض العسكري أيضًا.
وقد استقبل “حيدري” في مطار “فنوكوفو” الروسي بموسكو سفير إيران هناك، كاظم جلالي إلى جانب الجنرال ماتسين رامان، نائب قائد القوات البرية للشؤون الدولية في الجيش الروسي. وكانت زيارة كيومرث حيدري بالأساس قد جرت بدعوة رسمية من قائد القوات البرية في الجيش الروسي، الجنرال أوليجساليوكوف، زار خلالها “عددًا من المراكز التدريبية والتقنية والعملياتية الروسية”، حسب وصف تقرير لوكالة أنباء إيران الرسمية “ايرنا” التي قالت إن “حيدري” التقى كذلك مع عددٍ من قادة الجيش الروسي. وقد شدد قائد القوات البرية الإيرانية فور وصوله موسكو في المطار على متانة العلاقات العسكرية بين روسيا وإيران قائلًا إن “هذه العلاقات، خاصة في مجالات التدريب، تقوم على العلاقات الحسنة بين الدولتين”.
لماذا زار قائد القوات البرية الإيرانية موسكو؟
على الرغم من أن كيومرث حيدري قد زار المعرض العسكري الدفاعي في موسكو وعددًا آخر من المراكز العسكرية الروسية، فإن الهدف من الزيارة كان التنسيق بشأن تعزيز العلاقات العسكرية بين الطرفين بشكل أكبر، خاصة بين القوات البرية في جيشي البلدين. ولعل هذا الأمر قد يبدو منطقيًا خلال الأيام الجارية عند النظر إلى طبيعة العلاقات الروسية الإيرانية واضطرابها خلال الأسابيع الماضية، حيث يحاول العسكريون الإيرانيون، والروس كذلك، إعادة التأكيد على قوة العلاقات العسكرية بين الطرفين، وهو ما دعا “نصيرزاده” و”حيدري” لزيارة إيران في أوقات متقاربة.
ومع ذلك، فإن المرمى الرئيس الثاني من زيارة “حيدري” قد تمثل في الإعداد لتنفيذ مشاريع عسكرية بين جيشي روسيا وإيران تهدف، حسب وصف وزارة الدفاع الروسية، إلى “زيادة الاستعداد القتالي للقوات المسلحة لكلا البلدين”. وفي هذا الصدد، كان “حيدري” قد توصل إلى اتفاقات عسكرية خلال زيارته الأخيرة لموسكو مع المسؤولين الروس من أجل تنفيذ مشاريع دفاعية عسكرية مشتركة و”لزيادة التعاون بين القوات البرية (للدولتين) في مختلف المجالات”، حسب تصريحات لوزارة الدفاع الروسية أيضًا.
وكان ملف مكافحة الإرهاب من بين أبرز الملفات والمشاريع التي طرحها قائد القوات البرية الإيرانية مع نظيره الروسي، الجنرال أوليجساليوكوف، خلال الزيارة. فقد أوضح “حيدري” في 23 أغسطس الجاري، بعد إتمامه زيارته روسيا، أن البلدين “عازمتان على تعميق وتوسيع تعاونهما في مجال مكافحة الإرهاب”.
تأثير تكثيف الزيارات والاتصالات بين إيران وروسيا على مستقبل علاقات البلدين
إن عودة العلاقات الروسية الإيرانية إلى مسارها السابق عبر تكثيف الاتصالات والزيارات بين البلدين على النحو الموضح يعني الكثير بالنسبة لمستقبل علاقات البلدين، وهو ما نتطرق إليه فيما يلي:
- زيادة التعاون الدفاعي والاقتصادي بين الطرفين:
لقد أثرت الحرب الروسية الأوكرانية وتطورات العلاقات بين موسكو والغرب على نظرة الأخيرة تجاه علاقاتها مع إيران؛ فقد سعت روسيا إلى أن تكون العلاقات بين الطرفين أقوى على أي حال، خاصة في المجال الدفاعي والاقتصادي والأمني. ومن خلال الزيارات الأخيرة، من المتوقع أن يسعى الطرفان إلى تعميق تعاونهما مرة أخرى كما رسماه في وقت سابق قريب، وذلك على المستويات الدفاعية العسكرية والأمنية والاقتصادية.
حيث ترغب روسيا وإيران في التوصل أولًا إلى اتفاقية اقتصادية شاملة على غرار تلك التي توصلت إليها طهران مع الصين في مارس 2021 لمدة 25 عامًا، وإن كانت تلك الاتفاقية الإيرانية الشبيهة المتوقعة مع روسيا مخطط لها أن تصبح لمدة 20 عامًا، ولكنها على أي حال شاملة للنواحي الدفاعية العسكرية والأمنية والاقتصادية. ولعل ما كشفت عنه زيارة قائد القوات البرية الإيرانية ومن قبله نائب رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية، العميد عزيز نصيرزاده، من أن الطرفين قد عقدا اتفاقات مع روسيا في سبيل تعزيز التعاون الدفاعي والأمني يؤكد أن طهران وموسكو تسعيان إلى تقوية أوجه التعاون هذه، علاوة على تمهيد هذه التحركات الطريق للتوصل إلى اتفاقية الـ 20 عامًا.
- مواصلة إيران نهجها في التعامل مع الأزمة الروسية الأوكرانية:
ما لبثت الأزمة الإيرانية الروسية أن اندلعت في 10 يوليو الماضي حتى أبدى بعض الساسة الإيرانيين المتنفذين آراءً تميل أكثر إلى أوكرانيا منها إلى روسيا فيما يخص الحرب الدائرة بين الطرفين منذ فبراير 2022. وإذا ما استمرت الأزمة الروسية الإيرانية على النحو الذي كانت عليه لانعكس ذلك حتمًا على نهج تعامل طهران مع الأزمة بين كييف وموسكو، وذلك من حيث الدعم العسكري عن طريق الطائرات المسيرة.
- استمرار تأثير روسيا النشط في الملف النووي الإيراني:
لقد بدا خلال الأيام المعدودة للأزمة الروسية الإيرانية العابرة أن طهران كانت بصدد التعامل مع الولايات المتحدة الأمريكية فيما يتعلق بالمفاوضات النووية بعيدًا عن الدور الروسي، والذي أبدى بعض السياسيين والكاتب الإيرانيين انزعاجًا منه في الفترة الأخيرة؛ خاصة بعدما قدمت موسكو مطالب لها في مارس وأبريل من العام الماضي شرط مواصلة دورها في المفاوضات النووية. أما مع عودة العلاقات لمسارها، فإن الدور الروسي سيصبح أكثر نشاطًا في الملف النووي الإيراني والمفاوضات الدولية ذات الصلة، ما يعني أن محادثاتٍ نووية بين الولايات المتحدة وإيران، سواء مباشرة أو غير مباشرة، ستكون بقبول أو ضوء أخضر روسي.
تحالف إيران ورسيا تكتيكي أم استراتيجي ؟
يمكن وصف دولتين أو أكثر على أنهما متحالفتان إذا ما تعاونتا من أجل تحقيق أهداف أمنية مشتركة طويلة المدى. وعلى الرغم من أن ذلك التعريف لا يستثنى التعاون الاقتصادي، فإن التحالف بين الدول يعتمد على الأمن والدفاع بالدرجة الأولى. وعلى سبيل المثال، فإنه على الرغم من العلاقات الاقتصادية الواسعة بين الصين والاتحاد الأوروبي فإنه لا وصف شكل العلاقات بينهما على أنه تحالف.
وفي هذا السياق أيضًا، يمكن أن يكون التحالف مؤقتًا أو دائمًا، هجوميًا أو دفاعيًا، أو من أجل الحفاظ على النظام الدولي أو إحداث تغيير فيه. ومع ذلك، فإن الأهم بين جميع هذه الأشكال هو كون ذلك التحالف “تكتيكيًا” أم “استراتيجيًا”. وفي هذا الصدد، يمكن القول إن أهم ما يمكن أن يميز نوع التحالف الإيراني الروسي هو ذلك النوع الأخير المُشار إليه.
أما التحالف الاستراتيجي، فإنه يعني حشد دولتين أو أكثر لقواهم العسكرية والسياسية والاقتصادية لمواجهة الأخطار الخارجية. وفي هذه الحالة، يكون لدى البلدين مصالح مشتركة طويلة المدى ورؤى مشتركة فيما يخص النظام الدولي القائم. وعلى سبيل المثال، ترتبط الولايات المتحدة بعلاقة تحالف استراتيجي مع كوريا الجنوبية؛ وهو ما يعود إلى ارتباط الدولتين على الأغلب بمصالح مشتركة على مختلف الأصعدة.
ومن الجانب الأخر، يشير التحالف التكتيكي إلى تضامن دولتين أو أكثر معًا بشكل كبير أو اتفاقهما معًا على درء خطر بعينه عن طريق التعاون المشترك. ومثالًا على ذلك يجيء التحالف الذي نشأ بين الاتحاد السوفيتي السابق وبريطانيا العظمى خلال فترة الحرب العالمية الثانية من أجل القضاء على تهديدات ألمانيا النازية آنذاك، فقد كان ذلك الاتحاد تكتيكيًا.
وينطبق هذا الأمر على الأغلب على طبيعة العلاقات الإيرانية الروسية؛ فالبلدان يواجهان خصومة مع الولايات المتحدة أقاما من أجلها تحالفًا تكتيكيًا. وعلى الناحية الأخرى في الوقت نفسه، فإن مواقف البلدين بخصوص كثير من القضايا الدولية تُعد مختلفة. فعلى الرغم من أن موسكو وطهران يتعاونان في سوريا ضد الولايات المتحدة، فإنهما لا يتفقان بشكل كامل في ملفات أخرى في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، أو حتى فيما يخص القضية الفلسطينية أو التعامل مع إسرائيل. إلا أنه ومع ذلك، فإن هذه الاختلافات في التعاطي لم تؤد إلى بروز خلافات كبيرة بين الدولتين.
الخلاصة
يصعب القول إن قوة العلاقات الروسية الإيرانية على النحو التي هي عليه قد تعرضت لمنزلق خطير؛ إذ إن علاقات البلدين تربطها مصالح وتشابكات دولية وإقليمية بغض النظر عن توصيفها تكتيكية أم استراتيجية. ويبدو هذا واضحًا من سعي الطرفين سريعًا إلى استعادة مسار التعاون في مختلف المجالات، خاصة القطاع العسكري، بعد التوترات الأخيرة. وعلى الرغم من أن هذا المسار قد توقف لأيام، إلا أنه عاد مرة أخرى مع الاتصالات واللقاءات التي جمعت المسؤولين الروس بنظرائهم الإيرانيين، والتي كانت من بينها الزيارة التي قام بها قائد القوات البرية في الجيش الإيراني المعروفة اختصارًا في إيران باسم (نزاجا)، كيومرث حيدري، قبل أيام.
باحث بالمرصد المصري