تركياسوريا

توتر مستمر.. إلى أين تتجه العلاقات التركية السورية؟

على الرغم من الحراك الذي اتسم به مسار عودة العلاقات السورية التركية خلال الفترة الماضية، أوضح الرئيس السوري في لقاء تليفزيوني رفضه لقاء نظيره التركي دون وجود شروط مسبقة للقاء، مؤكدًا اختلاف الأهداف من الاجتماع؛ فبينما تؤكد سوريا ضرورة الانسحاب التركي الكامل من أراضيها، تهدف تركيا من الاجتماع شرعنة وجودها في سوريا. ولذلك، لا يمكن الاجتماع دون شروط مسبقة. 

تسلط تصريحات الرئيس السوري وما أعقبها من ردود فعل تركية، مؤكدة بقاءها داخل سوريا، الضوء حول ما تتسم به العلاقات من اختلاف في الرؤى والمصالح، والتي يبدو أن اللقاءات الأخيرة للمسؤولين من الجانبين لم تنجح في حلحلتها، وخاصة بعد تصريح وزير الدفاع التركي، يشار غولرفي 12 أغسطس في أول رد فعل رسمي تركي على تصريحات الرئيس السوري-، بأنه “لا يمكن تصور انسحاب قواتنا قبل ضمان أمن حدودنا وشعبنا، وأعتقد أن الرئيس السوري سيتصرف بعقلانية أكثر في هذا الموضوع”. الأمر الذي يطرح تساؤلًا حول ما إذا كان مسار التطبيع لا يزال قائمًا.

مسار التطبيع التركي السوري

شهد مسار التطبيع التركي السوري تطورات مهمة وتكاد تكون مضادة لبعضها في فترة ما قبل وما بعد الانتخابات الرئاسية التركية الأخيرة؛ ففي ديسمبر 2022 كان هناك تريث واضح من الجانب السوري أمام التصريحات التركية المهادنة والمؤكدة على استعداد أنقرة للتقارب مع دمشق، فبحسب الرئيس التركي فإن “تركيا يمكن أن “تضع الأمور في مسارها الصحيح مع سوريا”. تجلي التريث السوري في مقاومة جهود الوساطة الروسية الساعية نحو عقد قمة بين الرئيسين التركي والسوري. 

ففي يناير الماضي، أكد وزير الخارجية السوري “إن أي اجتماع بين الأسد والقيادة التركية يعتمد على إزالة أسباب النزاع، وبالتالي سيتعين على تركيا إنهاء وجودها العسكري في سوريا لتحقيق تقارب كامل، فلا يمكن الحديث عن إعادة العلاقات الطبيعية مع تركيا من دون إزالة الاحتلال.” تعود هذه المقاومة إلى اعتقاد الرئيس “الأسد” وقتها بأن مثل هذا الاجتماع قد يقوي موقف الرئيس “أردوغان” في الانتخابات الرئاسية، وكانت هذه المقاومة متوقعة لحين انتهاء الانتخابات.

ومع ذلك، لم يمنع هذا التريث موافقة الجانب السوري على الوساطة الروسية للاجتماع والحوار مع الجانب التركي، وهو ما تجلى في جولة الاجتماعات التي جمعت مسؤولين من الجانبين بموسكو. ففي ديسمبر 2022، كان الاجتماع الأول لوزراء دفاع تركيا وسوريا وروسيا، فيما انضم وزير الدفاع الإيراني في الاجتماع الثاني لوزراء الدفاع والذي انعقد في أبريل 2023. وفي مايو 2023، اجتمع وزراء خارجية تركيا وسوريا وروسيا وإيران في موسكو، وقد كان هذا الاجتماع هو آخر لقاء جمع بين مسؤولين من الجانبين بشكل مباشر.

ويبدو أن الأطراف لم ينجحوا في تحقيق توافق على أفق للاتفاق ما بين تركيا وسوريا؛ فبحسب وزير الدفاع التركي السابق “خلوصي أكار”، عقب اجتماعه مع نظرائه في أبريل الماضي، يتطلب الأمر مزيدًا من الاجتماعات الفنية وعلى مستوى وزراء الدفاع مرة أخرى، من أجل مناقشة القضايا الأمنية وغيرها من الملفات الخاصة بمسار التطبيع التي تتعلق بمكافحة الإرهاب، وضمان عودة كريمة وآمنة للاجئين السوريين تشمل مناقشة استعادة ممتلكاتهم في مناطقهم الأصلية، واستئناف العملية السياسية وصولًا إلى تحقيق الاستقرار في سوريا.

يمكن الإشارة إلى نتائج الانتخابات الرئاسية التركية كنقطة محورية في مسار التطبيع التركي السوري؛ ففي أعقابها، انخفض حماس أنقرة، وتحول التريث السوري إلى تشدد متمسكًا بمطلبه السابق والذي يتلخص في انسحاب تركيا من شمال سوريا. فمع معرفة “أردوغان” بموقف “الأسد” تجاه الوجود التركي في سوريا؛ جاءت تصريحاته مؤكدة عدم الانسحاب، حيث أشار في يوليو الماضي بأنه “للأسف يطالب الأسد بخروج تركيا من شمال سوريا، لا يمكن أن يحدث مثل هذا الشيء، لأننا نكافح الإرهاب هناك”، موضحًا بأنّه ليس “منغلقًا” أمام لقاء الرئيس السوري، ومشددًا أنّ ما يهمّ هو كيفية تعاطي دمشق مع مواقف أنقرة. أكد على موقف الرئيس “أردوغان” تصريح “أكار” وقت الانتخابات أنه “لم تعد تركيا من الدول التي يملى عليها” في إشارة إلى شروط “الأسد”.

تباين الرؤى

كما سبق التوضيح، يتمثل جوهر الموقف السوري في مسألة الانسحاب التركي من مناطق عملياتها في شمال وشمال شرق سوريا (درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام) كشرط أساسي قبل التوجه لمحاولات التطبيع. وعلى إثره؛ جاءت التصريحات السورية مشيرة إلى عدم إمكانية لقاء الرئيسين طالما بقيت مسألة الانسحاب غير مطروحة للنقاش. وتصاعدت حدة الموقف مع إعلان “الأسد” بأن “الإرهاب في سوريا صناعة تركية”، وأن “أردوغان” يسعى إلى “شرعنة وجود الاحتلال التركي في سوريا“. 

وتوجهت دمشق بالإشارة إلى تركيا بأنها العقبة الرئيسة في ملف الإرهاب وهو ما ينعكس سلبًا على ملف عودة اللاجئين، حيث ترى دمشق أنقرة المسبب الرئيس للفوضى السورية؛ نتيجة ما تسبب فيه “الإرهاب التركي” من تدمير للبنية التحتية السورية؛ وعلى نفس المنوال، يجب أن تتحمل تركيا مسؤولية تجارة المخدرات المنتشرة في انحاء سوريا. وفي إطار فهم دوافع تمسك بشار الأسد بشروطه تجاه تركيا، أشار ألكسندر لانجلوس، محلل في شؤون الشرق الأوسط، إلى استعادة سوريا شغل مقعدها بجامعة الدول العربية، بجانب تطبيع علاقاتها مع العديد من الدول العربية كالمملكة العربية السعودية، كسبب رئيس لتحلي الرئيس السوري بثقة متزايدة  في التفاوض مع الجانب التركي. 

أما بالنسبة لأنقرة، فاتخذت موقفًا يكاد يكون معاديًا للموقف السوري، وهو ما تجلى في تأكيد المجلس القومي التركي غداة تصريحات دمشق بأن تركيا لن تتراجع عن مواصلة عمليات مكافحتها للإرهاب داخل وخارج الحدود. ويُضاف إلى ذلك كلمة “أردوغان” أمام الاجتماع الرابع عشر لسفراء تركيا بالخارج التي أعاد فيها التأكيد على أهداف الوجود التركي في شمال سوريا، حيث أوضح “أن تركيا منعت قيام «دويلة إرهابية» على حدودها الجنوبية، عبر العمليات التي نفذتها قواتها في شمال سوريا، وأن تحقيق الاستقرار في سوريا سيسهم في تسريع عودة اللاجئين إلى بلادهم.” 

ونتيجة لذلك، وضع “أردوغان” موضوع الانسحاب من سوريا كموضوع خارج إمكانيات النقاش والتفاوض مع نظيره السوري، واصفًا إياه ب “خط أحمر” مع انفتاحه في الوقت نفسه “للقاء والحديث مع الجميع والوصول إلى نقطة مشتركة من خلال خطوات متبادلة. وتدلل هذه التصريحات على وجود مساحة واسعة من التباين في وجهتي النظر السورية والتركية؛ لاسيما أنه في اجتماع وزراء الخارجية بموسكو، سلط البيان المشترك الصادر الضوء على مبدأ سيادة سوريا على أراضيها وضرورة مكافحة الإرهاب، وهو مصطلح لا يزال غامضًا كما كان دائمًا.

من المهم هنا الإشارة إلى أن كلمة “الإرهاب” تحمل في ثناياها تفسيرات مختلفة بالنسبة لكلا الطرفين؛ إذ يفسر الجانب السوري الإرهاب بأنه الفصائل المسلحة المدعومة من تركيا والموجودة في شمال غرب سوريا، أما بالنسبة لتركيا، فيتمثل الإرهاب في الجماعات الكردية المتمركزة في الشمال السوري المتاخم للحدود التركية. 

وبالتالي يبدو أن ما يُصعب النقاش كعائق أول ورئيس هو عدم الاتفاق على مصدر التهديد؛ فمن ناحية، تتهم تركيا كلًا من روسيا وسوريا بعدم التزامهما بالاتفاقيات المتعلقة بإبعاد الوحدات الكردية من مناطق التماس التركية السورية، وبالتالي استمرار التهديد الكردي للأمن القومي التركي، وهو ما يبرر استمرار وجودها في مناطق عملياتها بشمال سوريا. من ناحية أخرى، ينظر النظام السوري وسوريا إلى “هيئة تحرير الشام” –المدعومة من وجهة نظرهما من تركيا- بوصفها مصدرًا رئيسًا للإرهاب في سوريا ويتحتم على أنقرة التوقف عن دعمها. 

مستقبل مسار التطبيع

بالرغم من اتباع تركيا سياسة “صديقة”؛ “بهدف إقامة حزام سلام واستقرار وازدهار في محيطها”، واعتمادها على أداتي الحوار والدبلوماسية كأهم أداتين في هذا الإطار؛ ولكن نجد التضارب في ظل تشدد تركيا في موضوع كالانسحاب بوصفه خارج النقاش خاصة في وقت يبحث فيه “أردوغان” عن نصر جديد قبل الانتخابات المحلية التي ستشهدها تركيا في مارس المقبل، والذي كان من الممكن أن يتمثل في الإعلان عن الاتفاق مع “الأسد” على عودة اللاجئين. 

ولكن، تشير معطيات الوضع الراهن ضعف احتمالات تحقق مثل هذا الاتفاق على المدى القصير، لأنه حتى اقتراح الوساطة الروسية لتطبيع العلاقات بين البلدين من خلال إعادة العمل باتفاقية أضنة والتي كانت تسمح لتركيا بالتوغل في الأراضي السورية بمسافة 5 كيلومترات لملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني تمت مقابلتها بشرط تعجيزي من جانب تركيا التي حددت رغبتها بالتقدم في مساحة لا تقل عن 30 كيلومترًا؛ بهدف إقامة منطقة آمنة على امتداد هذه المساحة تسمح لها بتأمين حدودها من التهديدات الكردية بجانب إعادة توطين اللاجئين السوريين في هذه المنطقة. 

يضاف إلى ما تقدم الانشغال الروسي الحالي -وهو ما يمكن وصفه كعائق ثانٍ- بالتصدي للهجوم المضاد ومنع تقدم القوات الأوكرانية، إلى جانب معالجة القيادة الروسية لتداعيات أحداث 24 يونيو (تمرد فاجنر) على المستويين الداخلي والخارجي، وكذلك ما يبدو من وجود شكل من التوتر في العلاقات الروسية التركية على خلفية موافقة تركيا على انضمام السويد لحلف الناتو وانسحاب روسيا من اتفاقية الحبوب. 

وكعائق ثالث أمام إمكانية الدفع بمسار التطبيع على المدى القصير، قد تتجه أنقرة إلى منح الأولوية لملفات أخرى (كالملف الاقتصادي، والتقارب مع الاتحاد الأوروبي لاسيما مع عودة النقاش بخصوص الانضمام التركي إلى الاتحاد)، هذا مع عدم إغفال الحديث عن الجهود التركية الجارية في مسألة إعادة توطين اللاجئين السوريين بالمناطق الآمنة التي أنشأتها تركيا في  سوريا، بجانب تسليط الضوء على الضربات الناجحة التي ينفذها الجيش التركي ضد الوحدات الكردية.ختامًا، من المرجح استمرار التوتر في العلاقات السورية التركية طالما لم يحدث أي لقاء مباشر بين الرئيسين التركي والسوري واستمرار تباين الرؤى حول الملفات ذات الاهتمام المشترك، فيما تكمن احتمالات تجدد محاولات التقارب مرهونة بعودة وتيرة العلاقات التركية الروسية، وقدرة الأخيرة على إقناع دمشق الانخراط مجددًا في المحادثات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى