
تضييق الخناق.. ضربة “كيرتش” الثانية ومآلات الصراع البحري في البحر الأسود
مرة أخرى، تعرض جسر “كيرتش” الذي يربط بين شبه جزيرة القرم والأراضي الروسية لهجوم “ذي ملامح غامضة”، تسبب في أضرار لمنشأة تحمل رمزية تاريخية لموسكو؛ كونها من المشروعات “القومية” التي تم بحث إمكانية تنفيذها منذ الحقبة القيصرية مرورًا بالحقبة السوفيتية، ناهيك عن أن هذا الجسر يمثل أحد إنجازات حقبة الرئيس الروسي الحالي، فلاديمير بوتين، نظرًا لأنه يعد عمليًا أطول جسر في أوروبا.
تكرار الهجوم على هذا الجسر للمرة الثانية يحمل في طياته مجموعة من الاعتبارات، تتراوح بين الدواعي الميدانية والتكتيكية، والأهداف المعنوية والاستراتيجية، تتجاوز في تأثيراتها محيط ميادين القتال في شرق وجنوب أوكرانيا، وتعيد طرح ملف “البحر الأسود”، الذي تلوح بين أمواجه ملامح مواجهة لا تقل ضراوة عما تشهده ميادين القتال في أوكرانيا.
يتسم جسر “كيرتش” بأهمية خاصة على المستوى اللوجستي، حيث يبلغ طوله الإجمالي نحو 19 كيلو مترًا، بواقع 11.5 كيلو مترًا على اليابسة، و7.5 كيلو مترات فوق سطح الماء. وبلغت تكلفة إنشائه زهاء 4 مليارات دولار. وقد بدأت عمليات تشييده في مايو 2015، ويتكون من قسمين متوازيين: الأول يضم حارتين لعبور السيارات، والثاني يضم خطًا للسكك الحديدية، وقد تم افتتاح القسم الخاص بعبور السيارات رسميًا عام 2018، في حين تم افتتاح القسم الخاص بالسكك الحديدية فيه في ديسمبر 2019.
لم تخفِ كييف رغبتها في تدمير هذا الجسر منذ أن تم افتتاحه عام 2018، حيث صرح النائب في البرلمان الأوكراني، إيغور مسيشوك، في شهر مايو من نفس العام أن أوكرانيا تعد جسر القرم جسرًا استراتيجيًا “تابعًا للعدو”، مشيرًا إلى أنه لو كان وزيرًا للدفاع كان سيأمر بتدمير الجسر فورًا.
مع بدء العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيًا، تكثفت مثل هذه التصريحات؛ ففي شهر أبريل 2022، أدلى أمين مجلس الأمن القومي والدفاع الأوكراني، إليكسي دانيلوف، بتصريحات صحفية قال فيها إنه إذا أتيحت الفرصة لكييف لكانت قد ضربت جسر القرم منذ فترة طويلة، و أنها ستفعل ذلك مستقبلًا إذا كان ذلك ممكنًا. في الشهر التالي، اعتبر مستشار وزير الداخلية الأوكراني، فيكتور أندروسوف، أن مصير جسر القرم محتوم وسيتم تدميره حتمًا، وأن حدوث ذلك “مسألة وقت لا أكثر”.
في الشهر التالي -يونيو- تحدث قائد القوات الأوكرانية، اللواء ديميتري مارشينكو، بشكل صريح حول أن هذا الجسر سيكون الهدف الأول للقوات الأوكرانية بعد أن تتلقى كييف الأسلحة التي وعدتها بها الدول الأوروبية، مشيرًا إلى أن أوكرانيا تمتلك كافة الوثائق الفنية التفصيلية حول هذا الجسر، بما في ذلك المعلومات الخاصة ببنية الجسر والتضاريس المحيطة، والبنية التحتية الخاصة به.
في شهر يوليو، تحدث مستشار الرئيس الأوكراني، أليكسي أريستوفيتش، عن أن بلاده ستقوم بمهاجمة هذا الجسر فور ظهور امتلاكها التقنية العسكرية الملائمة لتنفيذ هذا الهجوم، معتبرًا أن الأهداف الروسية الموجودة على الأراضي الأوكرانية لها الأولوية في المرحلة المقبلة؛ بالنظر إلى وجود بعض المحاذير من جانب الدول الداعمة لكييف بشأن استهداف الأراضي الروسية.
خلال المراحل التالية، تعددت التصريحات الرسمية الأوكرانية حول هذا الأمر، مثل ما كتبه مستشار الرئيس الأوكراني، ميخائيل بودولياك، على قناته الشخصية بموقع “تيليجرام”، وقال فيه “هذا الجسر عبارة عن بنية غير قانونية ولم تسمح أوكرانيا ببنائه، إنه يضر ببيئة شبه الجزيرة وبالتالي يجب تفكيكه، ولا يهم كيفية حدوث هذا”، وكذلك عضو البرلمان الأوكراني، أليكسي غونتشارينكو، الذي تحدث عن إجراء مباحثات بين مسؤولين أوكرانيين ووزير الدفاع البريطاني، بن والاس، خلال قمة حلف الناتو التي انعقدت في شهر يونيو 2022، تضمنت البحث في خطة لتدمير جسر “كيرتش”.
المسيرات البحرية … وفوارق أساسية في الضربة الثانية
يبدو من الضروري لفهم الأهداف والمآلات المتعلقة بالضربة الثانية لهذا الجسر، المقارنة بينها وبين الضربة الأولى التي تمت في شهر أكتوبر 2022، وهي مقارنة يظهر من خلالها فارق أساسي يتعلق بطريقة التنفيذ وحجم الأضرار الناتجة عن الاستهداف في كلا الضربتين؛ فقد تمت الضربة الأولى -التي حملت ملامح استخباراتية غامضة- عبر شاحنة مفخخة أسفر انفجارها عن انهيار قسمين من أقسام الحارة التي كانت تتحرك عليها بشكل كامل، بجانب إلحاق أضرار أقل في الحارة المقابلة، وتضرر عدة عربات في قطار لنقل المواد البترولية، كان مارًا في لحظة التفجير.
وعلى الرغم من الأضرار التي نتجت عن هذا الانفجار، فإن الجسر ظل عاملًا عبر مسار واحد لتحرك السيارات، وأعيدت حركة العبور عليه وعلى خط السكك الحديدية بعد عشر ساعات من وقوع التفجير، في حين تم إتمام عمليات الإصلاح بشكل كامل في فبراير 2023.
أما الضربة الثانية التي نحن بصددها، فقد تمت عبر وسائط بحرية، وتحديدًا وسائط بحرية مسيرة -غاطسة أو سطحية أو كلا النوعين- وهو ما مثل اختلافًا أساسيًا في الطريقة التي نُفذت بها هذه الضربة مقارنة بالضربة الأولى، ناهيك عن أن استخدام المسيرات البحرية جعل لهذه الضربة طابعًا “أكثر علنية وارتباطًا بالجانب الأوكراني”، على عكس الضربة الأولى، خاصة أنه سبقها بيوم واحد فقط هجوم تكرر عدة مرات خلال الأشهر الأخيرة على القاعدة الأساسية لأسطول البحر الأسود، في ميناء “سيفاستوبول” جنوب غرب شبه جزيرة القرم، باستخدام الوسائط البحرية المسيرة، والتي يعد استخدامها من جانب كييف في البحر الأسود بمثابة نقطة مهمة من النقاط الأساسية التي يمكن ملاحظتها في الضربة الثانية لجسر القرم.
فقد أظهرت هذه الضربة وما سبقها من ضربات للموانئ والقطع البحرية الروسية في البحر الأسود، التطور التدريجي الذي طرأ على المسيرات البحرية الأوكرانية، منذ ظهور الجيل الأول منها قرب شبه جزيرة القرم في سبتمبر 2022، والاختراق المهم الذي حدث خلال الشهر التالي لميناء “سيفاستوبول”، ومهاجمة عدة مسيرات بحرية لفرقاطة “الأدميرال ماكاروف”، وكاسحة الألغام “إيفان جولوبيتس” داخل الميناء، مرورًا بإعلان الرئاسة الأوكرانية عن إطلاق حملة لجمع التبرعات؛ من أجل بناء أسطول من المسيرات البحرية، لحماية المدن الأوكرانية من الضربات الصاروخية الروسية التي تنطلق من السفن في البحر الأسود.
وهو ما تم تفعيله أواخر العام الماضي، عبر عدة مبادرات أهمها مبادرة بنك “Monobank”، وهو بنك عبر الإنترنت، أصبح أحد الطرق الرئيسة للمتطوعين لتقديم الأموال للجهد الحربي الأوكراني، خاصة ما يتعلق بشراء وتطوير الأنظمة المسيرة الجوية والبحرية.
من ثم بدأت أوكرانيا العام الجاري جني ثمار هذه الحملة، عبر ظهور الجيل الثاني من المسيرات الأوكرانية البحرية، خلال الهجوم على ميناء “سيفاستوبول” في مارس الماضي، ومحاولة استهداف قطع بحرية روسية إضافية خلال شهري مايو ويونيو الماضيين، هما سفينتي الاستطلاع “إيفان خورس” و”بريازوفي”، وصولًا إلى الإعلان عن تطوير أول مسيرة أوكرانية “غاطسة” في أبريل الماضي، تحت اسم “Toloka”، وكذا الظهور المفاجئ خلال الهجوم الأخير على ميناء “سيفاستوبول” في السادس عشر من الشهر الجاري لنوع من أنواع الزلاجات المائية المدنية، التي تم تحويرها لتصبح بمثابة “مسيرة بحرية انتحارية”.
فيما يتعلق بالمسيرات البحرية التي تم من خلالها تنفيذ الضربة الثانية على جسر القرم، فيشتبه أنها تنتمي إما للجيل الثاني من المسيرات البحرية العائمة، أو إلى عائلة مسيرات “Toloka” البحرية الغاطسة. المؤشرات المتاحة تشير إلى أن هذه الضربة كانت بمثابة تجربة عملياتية لهذه المسيرات الغاطسة، التي تنتجها مجموعة “Brave” الأوكرانية، وتعمل بمحركات كهربائية على نسق مشابه لآلية عمل الطوربيدات.
تتألف هذه العائلة من ثلاثة أنواع قيد التطوير: الأول هو مسيرات “TLK-150” قصيرة المدى البالغ مداها الأقصى نحو مئة كيلو متر وتحمل ما بين 20 إلى 50 كيلو جرامًا من المتفجرات، ومسيرات “TLK-400” متوسطة المدى البالغ مداها الأقصى 1200 كيلو متر وتحمل ما يصل إلى نصف طن من المتفجرات، بجانب مسيرات “TLK-1000” بعيدة المدى البالغ مداها الأقصى 2000 كيلو متر وتخطط كييف أن يتم تزويدها بما يتجاوز طن من المتفجرات.
تستهدف كييف تزويد هذه العائلة من المسيرات البحرية بخيارات متعددة للتوجيه، تشمل التوجيه بالقصور الذاتي، أو بمنظومة تحديد المواقع العالمية “جي بي إس”، بجانب السونار السلبي والإيجابي، والتوجيه اليدوي الذي يعتمد على كاميرا حرارية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن احتمالات معقولة تشير إلى أنه قد تم قطر هذا النوع من المسيرات إلى منطقة قرب جسر كيرتش، عب الزلاجات المائية المسيرة السالف ذكرها، وترددت خلال الأشهر الأخيرة عدة تقارير حول امتلاك كييف نظام الاستطلاع البحري المسير نرويجي الصنع “Remus 600″، وأن هذا النظام قد تم استخدامها لتوجيه المسيرات الغاطسة نحو هدفها، علمًا بأن التقارير الروسية تشير إلى أن الهجوم على الجسر قد تم باستخدام مسيرتين اثنين.
وبغض النظر عن التفاصيل الفنية الخاصة بالمسيرات البحرية الأوكرانية، إلا أن تجربتها ضد الأهداف الروسية بشكل متكرر قد أظهر فاعليتها ومدى إمكانية الاستفادة منها، بشكل جعل حتى الجانب الروسي يلجأ إلى تطوير واستخدام المسيرات البحرية بنفس النسق الأوكراني؛ فقد استخدمت موسكو في فبراير الماضي زورقًا انتحاريًا مسيرًا لاستهداف جسر “زاتوكا” جنوبي ميناء أوديسا الأوكراني، وأعلنت شركات عسكرية روسية عن تصاميم خاصة بمسيرات بحرية مثل المسيرة “Sargan” والمسيرة “Skat”.
أهداف “الضربة الثانية” لجسر القرم
يمكن إجمالًا حصر الأهداف التي أرادت كييف تحقيقها من هذه الضربة التي تحمل بصماتها في نقطتين أساسيتين، هما:
1 – توسيع نطاق المعركة في ظلال “الهجوم المضاد”: إن عمليات الدعم التسليحي الأخيرة لأوكرانيا، سواء بالقنابل العنقودية ومن قبلها صواريخ “ستورم شادو” الجوالة، تستهدف بشكل أساسي زيادة الضغط على الخطوط الروسية في الجبهة الجنوبية، حيث يعد هذا الهجوم بمثابة ضربة جديدة لخط إمداد روسي أساسي للجبهة الجنوبية، فموسكو تمتلك في هذه الجبهة بشكل عام ثلاثة طرق للإمداد: الأول هو الخط الحديدي الرابط بين إقليم “دونيتسك” ومقاطعة “خيرسون”، والثاني هو الطريق البري الساحلي “إم-14” الرابط بين الأراضي الروسية ومدينة خيرسون عبر جنوب دونيتسك وزابوروجيا، والثالث هو الخط المار بجسر القرم وصولًا إلى أراضي شبه جزيرة القرم ومن ثم مقاطعة خيرسون.
أهمية التأثير على إمدادات موسكو في هذه الجبهة تبرز بشكل أكبر إذا ما وضعنا في الحسبان البطء الشديد في العمليات العسكرية الأوكرانية المضادة، التي يشار إليها إعلاميًا باسم “الهجوم المضاد”، وكذلك ما لوحظ مؤخرًا من محاولات روسية لإعادة تفعيل جبهة جنوب شرق خاركيف “ليمان – كوبيانسك”، عبر حشد أعداد كبيرة من الجنود والقدرات العسكرية الهجومية، وهو حشد يستهدف محاولة إشغال القوات الأوكرانية ومنعها من تعزيز وحداتها في الجبهة الجنوبية.
من هذا المنطلق، يمكن فهم الرغبة الأوكرانية والغربية في توسيع “قوس القتل” الذي يمتلكه الجيش الأوكراني على المستوى البحري والجوي، وهذه هي نفس الزاوية التي يمكن من خلالها فهم إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال قمة حلف شمال الأطلسي “الناتو” مؤخرًا تزويد أوكرانيا بصواريخ بعيدة المدى؛ لتكون بلاده الدولة الأوروبية الثانية التي تزود كييف بهذا النوع من الصواريخ.
النوع الذي تحدث عنه الرئيس الفرنسي هو النسخة الفرنسية من صواريخ “ستورم شادو”، المعروفة باسم “SCALP”، وتتمتع بنفس الخصائص التي تتمتع بها صواريخ “ستورم شادو”. هذا التطور، يضاف إلى تطور آخر يتعلق بتقديم كييف طلبًا رسميًا إلى برلين في السابع والعشرين من مايو 2023، بتزويدها بصواريخ ألمانية جوالة من نوع “TAURUS”، يبلغ مداها نحو 500 كيلو متر، وتمتلك نفس خصائص الصواريخ البريطانية والفرنسية السالف ذكرها.
لهذا السبب، لجأت كييف إلى تصعيد هجماتها بشكل أكبر على شبه جزيرة القرم، لتخدم بذلك هدفًا ميدانيًا يتعلق بالتأثير على سير العمليات الحربية انطلاقًا من الموانئ والمطارات الواقعة هناك، وفي نفس الوقت اختبار قدرات مُسيراتها البحرية، ومحاولة إحداث أي تأثير على سيولة الإمدادات الروسية، وكذلك تقديم ما يمكن أن نعده “قربانًا” للداعمين الغربيين؛ كي تؤكد كييف على أنها تحقق “تقدمًا” على المستوى الميداني.
بشكل عام، وضعت كييف ضمن استراتيجيتها العسكرية العامة تنويع الهجمات التي تطال شبه جزيرة القرم “مسيرات جوية وبحرية – هجمات صاروخية”، وبالتالي التأكيد على عدم اعتراف كييف بسيادة موسكو على شبه الجزيرة، وإبراز عدم القدرة الروسية على وقف الهجمات المتنوعة عليها، خاصة أن الهجوم الأخير على جسر القرم قد تم بعد عملية تفجير سد “نوفاكاخوفكا” في يونيو الماضي، والتي كان من نتائجها التأثير بشكل مستدام على إمدادات المياه التي تمر في قناة القرم نحو شبه الجزيرة من البحيرة الواقعة خلف السد.
2 – ضربة معنوية ورسالة للداخل الروسي: عبر إلحاق أضرار بجسر له رمزية في روسيا، بشكل يحدث أضرارًا للهيبة الروسية، مماثلة لما أحدثته الضربة الصاروخية التي استهدفت الطراد “موسكوفا”، وكذلك التوغل بشكل أكبر في معادلة نقل المعركة إلى الأراضي الروسية والتي باتت تشمل الوصول بالعمليات الجوية المسيرة إلى العاصمة موسكو والمقاطعات الروسية على الحدود.
كذلك استهدفت كييف من خلال هذه الضربة التشكيك في فاعلية الأجهزة الأمنية الروسية، ونجاعة الإجراءات التأمينية المكثفة التي تم تفعيلها لحماية الجسر، خاصة أن هذه هي المرة الثانية التي تتم فيها مهاجمة الجسر، فمنظومة المراقبة الأمنية لضفتي هذا الجسر تم تعزيزها عام 2019 بمنظومة عسكرية كاملة تتضمن منظومات متعددة الطبقات لمراقبة المجال الجوي ضد الصواريخ الجوالة والطائرات بمختلف أنواعها، ومنظومات مخصصة للدفاع البحري والساحلي، وكذا دوريات مكافحة الضفادع البشرية والألغام البحرية، تنفذها فرق من الغواصين معززة بدلافين مدربة، ويضاف هذا كله إلى النشاط الجوي المستمر للمروحيات والمقاتلات الروسية، وطائرات الدورية البحرية المضادة للغواصات، والأقمار الصناعية.
الوتر المعنوي هنا يطال أيضًا المؤسسة العسكرية الروسية، في ظل تداعيات التوتر الأخير بينها وبين مجموعة فاجنر، وكذلك عمليات تنحية بعض من أبرز القادة العسكريين الميدانيين، مثل اختفاء نائب قائد العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، الجنرال سيرجي سوروفيكين، وتنحية كل من قائد الفرقة 106 المحمولة جوًا، الجنرال ڤلاديمير سيليفرستوڤ، ومن قبله الجنرال إيڤان بوبوڤ، قائد الجيش الـ 58 الميداني، وكلاهما كانت له آراء منتقدة للأداء العسكري الروسي خلال الفترة الأخيرة.
مآلات الوضع في البحر الأسود
بالعودة إلى المقارنة بين الضربة الأولى والثانية لجسر القرم، يمكن القول إن ردة الفعل الروسية في الحالتين كانت مؤشرًا على ما قد يحدث خلال الفترة المقبلة بين الجانبين؛ ففي ردة فعلها على الضربة الأولى للجسر، نفذت موسكو ضربات صاروخية واسعة على “مراكز صنع القرار” في أوكرانيا، استهدفت خلالها الجسور ومحطات الطاقة في 20 مدينة وسط وجنوب أوكرانيا، بما في ذلك مقاطعة “خاركيف” والعاصمة كييف ومدينة “لفيف” غربي البلاد، وهي نقطة التجميع الرئيسية للأسلحة القادمة من الدول الأوروبية.
وق أطلقت موسكو خلال هذه الضربة نحو 90 صاروخًا، تنوعت بين: صواريخ “كاليبر”، و”كي إتش-101” الجوالة، وصواريخ “إسكندر” الباليستية التكتيكية، بجانب صواريخ المدفعية الصاروخية. أما في ردة فعلها على الضربة الثانية، فقد كانت لافتة ولها دلالات عميقة على المستوى الاستراتيجي والميداني، حيث استهدفت الموانئ الأوكرانية على البحر الأسود، خاصة ميناء أوديسا الذي يعتقد أن الهجوم الثاني على جسر القرم قد انطلق منه، وكذلك الموانئ التابعة له مثل ميناء “چورنومورکس”، وألحقت أضرارًا متوسطة بالمنشآت الزراعية الخاصة بالتخزين والتعبئة في هذه الموانئ.
هذا تزامن مع إعلان موسكو انتهاء اتفاقية الحبوب بينها وبين أوكرانيا، وإعادة تفعيل القرار الروسي السابق باعتبار البحر الأسود مسرح عمليات حربية غير آمن لأي سفن عابرة، وهو ما يفتح الباب لتصعيد أكبر على المستوى البحري، خاصة في ظل إعلان كييف عدم اعترافها بالإجراء الروسي.
وعلى الرغم من أن موسكو لم تعلن بشكل صريح عن نيتها “وقف التحركات البحرية الأوكرانية والأجنبية في البحر الأسود”، إلا أن الضرورات الميدانية قد تدفع البحرية الروسية لإعادة تفعيل “حصار بحري” على ما تبقى من ساحل أوكراني على البحر الأسود؛ بهدف إنهاء مخاطر المسيرات البحرية، وهو الحصار الذي تعرض لضربة قوية حين تم إغراق الطراد الأكبر في أسطول البحر الأسود “موسكوفا” العام الماضي.
هذه النقطة تجعل احتمالات تطور الأوضاع في البحر الأسود بشكل دراماتيكي سريع كبيرة خلال المدى المنظور؛ فالسفن الغربية قد تلجأ لتعديل مسارات تحركها في البحر الأسود، لتكون ملاصقة للمياه الإقليمية الرومانية والأوكرانية، لتفادي الاحتكاك بالسفن الروسية، التي ستلجأ للاقتراب أكثر من هذا النطاق، وهو ما قد يعرضها لمخاطر الاستهداف بالصواريخ البحرية الأوكرانية.
في جانب آخر، قد تلجأ موسكو إلى تفعيل محورها الهجومي السابق نحو ميناء “أوديسا”، وبالتالي إكمال خطة تحويل أوكرانيا إلى دولة “حبيسة” على المستوى البحري، وهي جميعها احتمالات تنقل المعارك في أوكرانيا إلى مستويات أكبر من التصعيد، خاصة في حالة ما إذا لجأت موسكو للمسيرات البحرية والجوية وعمليات زرع الألغام؛ للحد من الأنشطة البحرية التجارية قبالة السواحل الأوكرانية.
باحث أول بالمرصد المصري



