
تحولات ما بعد الحرب.. استراتيجيات ألمانية لمواجهة التحديات العالمية
أيقظت الحرب الروسية الأوكرانية أوروبا بالكامل، وتسبب الواقع الجيوسياسي الجديد في إعادة “هيكلة” الوضع العسكري والاقتصادي لأكبر الدول الأوروبية وعلى رأسها “ألمانيا”، التي قررت بعد اندلاع الحرب وضع عدة استراتيجيات لتعزيز أمنها مع احتدام الصراع، وحماية نفسها من النظام العالمي المتغير الذي تغزوه الصين بقوة الآن، ما يجعلنا نشهد “تكيفًا” ألمانيًا مع الوضع الحالي والمستقبلي غير واضح الملامح، بما يتناسب مع توجهات بروكسل وواشنطن، بعدم تكرار أخطاء الماضي، والتخلص من التبعية لأي قوة غيرها.
استراتيجية الأمن والدفاع نقطة البداية الألمانية
بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، أدركت ألمانيا أن عليها تغيير نهجها تمامًا تجاه موسكو التي كانت ترتبط بها اقتصاديًا في مجال الطاقة، والتضحية بأي مكاسب معها للوفاء بالتزاماتها تجاه القارة الأوروبية، وذلك بعد أن وجدت نفسها بعد الحرب قد فشلت في تلبية هدف الدفاع عن الناتو الذي كانت تخصص له 2% من الناتج المحلي، وهو الأمر الذي جعلها تدرك أنها أصبحت عرضة للتهديدات العسكرية والاقتصادية والجيوسياسية الجديدة.
ومن هنا كانت البداية، فبعد الاعتراف بالتقصير بعد ما حدث في جورجيا وشبه جزيرة القرم وأوكرانيا، أعلنت ألمانيا انتهاج سياسة جديدة للأمن والدفاع وبدء تحضيرها، وتعهدت بتجاوز هدف الإنفاق السنوي لحلف شمال الأطلسي، وإنشاء صندوق دفاع بقيمة 100 مليار يورو، وإرسال صادرات الأسلحة إلى أوكرانيا، وخفض واردات الطاقة من روسيا، وبناء محطتين للغاز الطبيعي المسال، وتنويع إمدادات الطاقة، والتركيز على كل ما هو أمني.
ولعل الحرب كانت بداية لألمانيا لأن تلتفت للانتقادات التي تلاحقها بأنها صبت تركيزها خلال السنوات الماضية على السياسة الخارجية، ورفضت قبول الحقائق الجيوسياسية الصعبة التي تؤكد أنها تنخرط مباشرة مع السلطات “الاستبدادية” في روسيا والصين بدلًا من الاستثمار في جعل نفسها موضع قوة، وعليه كان يجب أن تتبنى منظورًا واقعيًا في التعامل معهما والتحول من التقارب إلى التباعد والحذر.
وفي 14 يونيو 2023، أعلنت ألمانيا عن أول استراتيجية شاملة للأمن القومي، والتي تعكس الرغبة في مواجهة التهديدات المتنامية التي عكست -كما ذكرنا- هشاشة الوضع الأمني في أوروبا بشكل عام وألمانيا خصوصًا. وهذه الاستراتيجية عدّتها الحكومة بمنزلة تغيير كبير يرمي إلى دمج التخطيط العسكري بالقضايا الأمنية التي تتراوح بين: تغير المناخ، والأوبئة، والجوع والفقر في العالم، فضلًا عن انتشار المعلومات المضللة، والهجمات السيبرانية، وصولًا إلى التحالفات العسكرية والاقتصادية؛ وذلك في إطار مساعي ألمانيا لمعالجة ما تراه تهديدات عسكرية واقتصادية واجتماعية متزايدة تتعرض لها الدولة.
وتضمنت الاستراتيجية عددًا من القضايا تعكس التوجهات الرئيسية للائتلاف الحاكم الألماني المكون من ثلاثة أحزاب: الحزب الاشتراكي الديمقراطي، والحزب الديمقراطي الحر، وحزب الخضر. وكان أبرز هذه القضايا بجانب آليات زيادة الإنفاق العسكري والتصدي للهجمات السيبرانية في إطار الحرب الروسية الأوكرانية، وتعزيز القوات المسلحة الألمانية، هو الاعتراف بأن روسيا هي أكبر مهدد للنظام الدولي وأوروبا، واعتبارها مهددًا للديمقراطية بشكل عام، وعلى أوروبا التصدي لها. ما يعني أن ألمانيا غير مستعدة للعودة إلى طبيعية العلاقات قبل الحرب.
وتبنت الاستراتيجية توجهًا مختصرًا مفاده أن “الصين” تعمل على إعادة تشكيل النظام الدولي القائم على قواعد، وسط ادعائها السيادة الإقليمية في منطقة “الإندو-باسيفيك” المهمة لدى العديد من القوى الدولية، فضلًا عن تصرفاتها المستمرة بشكل يتعارض مع المصالح والقيم الأوروبية، بجانب أنها تشكل أكبر تهديد فيما يتعلق بالتجسس الاقتصادي والعلمي، وأنها تعمد إلى استغلال ثقلها الاقتصادي للوصول إلى أهدافها السياسية. وخلصت الاستراتيجية إلى أنه “برغم من أهمية الصين لمواجهة التحديات العالمية، فإنها تزيد من الضغوط على الاستقرار الإقليمي، وتنتهك حقوق الإنسان“، ورأت أنه من الضروري الحد من الاعتماد الألماني على الواردات الصينية، ما يعني أن الاستراتيجية ترى أن الصين “شريك” لا يمكن الانفصال عنه و”منافس” لا يمكن عزله.
ومن ضمن القضايا أيضًا التي تطرقت إليها الاستراتيجية هي قضية “الطاقة”، فهو تحدٍ قائم وحساس في ظل اعتبار ألمانيا دولة صناعية متقدمة، وبالاستغناء عن الغاز الروسي، أصبح هناك حديث عن بدائل للطاقة، وعدم الاعتماد على مصدر وحيد. وبالطبع حرص حزب الخضر على وضع سماته الخاصة، فنجد أن الاستراتيجية تبنت توجهًا أساسيًا يقوم على “الاستدامة” التي ترتبط بمواجهة التغير المناخي الذي يعد لا شك أحد اهم التهديدات التي تواجه أوروبا، بالإضافة إلى تعزيز الأمن الغذائي، ومواجهة الأوبئة المستقبلية. وشددت الحكومة الألمانية على أن الاستراتيجية الجديدة تتماشى مع الاستراتيجية الأوروبية والأمريكية، وأن نجاحها يعتمد على التعاون مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بشكل أساسي.
وبهذه الاستراتيجية، استخلصت برلين أبرز التوجهات الجيوسياسية الشاملة لها في المستقبل، وكان عليها بعدها التفكير في تأثير الحرب على نظرة ألمانيا للنظام العالمي في الوقت الذي يطور فيه الاتحاد الأوروبي بوصلته الاستراتيجية تجاه الصين، و”تفصيل” طبيعة العلاقات الألمانية الصينية الاقتصادية في استراتيجية خاصة، في ظل تواطؤ بكين الضمني مع موسكو ومحاولتها تصوير نفسها كبطل للسلام الذي ستنتهي الحرب على يديه.
استراتيجية الصين.. الخطوة الثانية نحو سياسة خارجية أقوى
قبل الحرب، آمنت الإدارة الألمانية أن أفضل طريقة لمنع الصين من الانتشار والهيمنة على النظام العالمي هو التحالف مع موسكو ضدها، ولكن عقب تغيير الحسابات وإقصاء روسيا من المعادلة، أصبحت ألمانيا في مواجهة بكين وحدها. وعليه، فضلت برلين إدارة الأزمة مع موسكو من خلال تحسين العلاقات الصينية بشروط ألمانية تخلق حالة من التوازن. وبعد أشهر من الجدل داخل الحكومة الألمانية حول نهج التعامل مع الصين، أطلقت استراتيجية جديدة -الأولى على الإطلاق- تدعو إلى اتخاذ التدابير اللازمة “لإزالة المخاطر” الصينية التي قد تزيد من الاعتماد الاقتصادي عليها، حتى لا تكون الصين روسيا أخرى تعتمد عليها برلين بشكل كامل يمثل خطورة على أمنها القومي، وبالتالي ضمان التنافسية للجميع.
ويأتي إطلاق الاستراتيجية بعد شهر واحد من إطلاق استراتيجية الأمن القومي الألمانية، وبما يراعي التوترات الجيوسياسية المستمرة بين الصين والولايات المتحدة وبما يتماشى مع نهج بروكسل التي ظهرت كصوت أكثر انتقادًا للصين في السنوات الأخيرة، وبعد سنوات من النظر إلى الصين في المقام الأول كسوق مربحة وضخمة للبضائع الأوروبية، وفي نفس الوقت يضمن عدم إعاقة التنمية الاقتصادية الخاصة بالصين، وبالتعمق داخل الاستراتيجية نجد ما يلي:
● تتعمق الاستراتيجية الجديدة في الشؤون الداخلية والخارجية للصين، فزعمت أن الاستراتيجية الاقتصادية للصين “صنع في الصين 2025” تهدف إلى “جعل الصين أقل اعتمادًا على الدول الأخرى، وجعل سلاسل الإنتاج الدولية أكثر اعتمادًا عليها”، وهو أمر يبدو حقيقيًا في الواقع الألماني، فقد بلغ حجم التجارة الثنائية بين ألمانيا والصين ما يقرب من 300 مليار يورو عام 2022، لتظل الصين أكبر شريك تجاري لألمانيا. ووفقًا للإحصائيات، فإن ألمانيا تعتمد بشكل مفرط على الصين في التكنولوجيا الطبية والأدوية، بما في ذلك المضادات الحيوية، وكذلك في تكنولوجيا المعلومات والمنتجات اللازمة لتصنيع أشباه الموصلات، وللمعادن المختلفة والأتربة النادرة اللازمة لانتقال الطاقة. بجانب أن هناك أكثر من مليون وظيفة ألمانية تعتمد بشكل مباشر على الصين، فضلًا عن أن ما يقرب من نصف الاستثمارات الأوروبية في الصين تأتي فقط من ألمانيا، وتعتمد نصف شركات التصنيع الألمانية على الصين. ولهذا تريد ألمانيا تقليل الاعتماد -وليس “الانفصال” – على أي تقنيات خارجية في المجالات الرئيسة، وتنويع العلاقات التجارية والاستثمارية بعيدًا عنها، ومساعدة الشركاء من الاتحاد الأوروبي على فعل الشيء نفسه؛ لتعزيز الاقتصاد الألماني والأوروبي.
● ومن هنا، أكدت ألمانيا اعتزامها تعديل قوائم المنتجات الخاضعة لضوابط التصدير على خلفية التطورات التكنولوجية الجديدة، بما في ذلك الأمن السيبراني وتكنولوجيا المراقبة، وفحص الاستثمارات من قبل الشركات الألمانية التي تقوم بأعمال تجارية في الصين، هذا بجانب إصدار قواعد خاصة بحيث لا يتم دعم مشاريع البحث والتطوير مع الصين “التي يُرجح فيها استنزاف المعرفة” من الأموال الفيدرالية، لكن الاستراتيجية هنا فشلت في معالجة الكيفية التي تخطط بها برلين لمراجعة الاستثمارات الصينية في ألمانيا.
● دعت الاستراتيجية الشركات الألمانية إلى تضمين المخاطر الجيوسياسية في عملية صنع القرار الخاصة بهم، وحذرت من أن الشركات التي تعتمد بشكل خاص على السوق الصينية سوف تضطر إلى “تحمل المخاطر المالية بشكل أكبر بنفسها” في المستقبل.
● انتقدت الاستراتيجية الصين لتراجعها عن الحقوق المدنية والسياسية ولتعزيز العلاقات مع روسيا والرئيس فلاديمير بوتين، الأمر الذي له تداعيات أمنية مباشرة على ألمانيا. وادعت الاستراتيجية أيضًا أن الصين أصبحت حازمة بشكل متزايد في سعيها إلى الهيمنة الإقليمية على “تايوان” وفي المحيطين الهندي والهادئ، وكيف أنها تحاول إعادة تشكيل النظام الدولي القائم على القواعد، من خلال استخدام قوتها الاقتصادية لتحقيق أهداف سياسية، ما يترتب على ذلك الكثير من العواقب على الأمن العالمي، وعليه ستوسع ألمانيا سياستها الأمنية وتعاونها العسكري مع شركاء مقربين في المحيطين الهندي والهادئ، من أجل حماية السلع العالمية في هاتين المنطقتين.
● الاستراتيجية هي الأشد صرامة فيما يتعلق بحقوق الإنسان، حيث تنتقد برلين بكين بشأن الانتهاكات الجسيمة لحقوق “الأويغور” وكذلك الوضع في التبت وهونغ كونغ، مما يسلط الضوء على وضع المجتمعات العرقية والدينية، والوضع المتدهور بشكل ملحوظ للمدافعين عن حقوق الإنسان.
● وضعت الاستراتيجية شروطًا وإجراءات تتعلق بالتعاون الاقتصادي بين البلدين، وحرصت على تطبيق إجراءات مراقبة الصادرات لضمان عدم إساءة استخدام المنتجات الألمانية في انتهاكات حقوق الإنسان والقمع الداخلي في الصين.
● على الرغم من الانتقادات الشديدة، تحدد الاستراتيجية أيضًا مجالات للتعاون المحتمل مثل معالجة العمل المناخي، ولم تنس الإشارة إلى استمرار الصين دعم محطات الطاقة التي تعمل بالفحم في الصين وخارجها، وبالتالي، كان الحديث عن “توطين” سلاسل توريد الطاقة النظيفة آخذًا في الاتساع داخل الاستراتيجية.
رد الفعل الصيني، والخوف من توسع النهج الأمريكي
من جانبها، انتقدت الصين الطريقة التي يتم وصف بكين بها في الاستراتيجية، وعارضت بشدة الجهود الرامية إلى ما وصفته بالـ “تدخل” في الشؤون الداخلية للصين وتشويه صورتها إلى حد الإضرار بالمصالح الجوهرية لها. وأكدت بكين أن التحديات التي تواجه برلين ليست صينية الصنع، وأن البلدين بحاجة إلى بناء علاقات ثنائية من خلال “تعزيز الثقة السياسية المتبادلة”. ومع ذلك، قررت الصين أنها ستظل “فرصة وليست مخاطرة”، فهي تريد تكون شريكة ألمانيا في مواجهة تحدياتها وليست منافستها، مع التشديد على أن اعتبار الصين خصمًا أيديولوجيًا ومصدرًا للمخاطر لن يؤدي إلا إلى سوء التقدير والتفاهم، ومن شأنه الإضرار بالتعاون بين البلدين.
ويبدو أن مخاوف الصين من أن يسير كبار شركائها في أوروبا على النهج الألماني ومن قبله النهج الأمريكي تتزايد، إذ شددت الولايات المتحدة سياساتها الاقتصادية ضد الصين، واستخدمت هي الأخرى الحديث الظاهر عن “عدم المخاطرة”؛ لفصل نفسها تدريجيًا عن الاقتصاد الآسيوي، ونجد أن ذلك مترجم إلى عدة سياسات تم التطرق إليها في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، والتي اعتبرت الصين وروسيا نظامين استبداديين يرفضان القيم الديمقراطية ويشكلان تحديا للسلام والاستقرار الدوليين:
● سياسة الحروب التجارية: والتي بدأت بفرض رسوم جمركية تصل إلى 5% على المنتجات الصينية، بجانب فرض الحظر على تصدير أشباه الموصلات لكبرى الشركات الصينية، وحرمان تلك الشركات من استخدام التكنولوجيا الأمريكية ووضعها تحت تصنيف “مهددة للأمن الوطني”.
● أزمة أشبه الموصلات والرقائق الإلكترونية: تسيطر الولايات المتحدة على 12% من إنتاج الرقائق الإلكترونية محتلة المرتبة الخامسة عالميًا الآن، وتايوان الأولى عالميًا بنسبة 50%، فيما انتقلت الصين من صفر إلى 15% من إجمالي السوق العالمية عام 2020، محتلة المرتبة الرابعة، لتتراجع إلى 9% حاليًا ومن المستهدف أن تصل إلى نسبة 25% بحلول عام 2030، وهو ما يجعل واشنطن تشعر بالخطر، واعتبار هذه الصناعة بمثابة أمن قومي. في الوقت الذي خصصت فيه واشنطن كذلك نحو 50 مليار دولار للمنافسة في ميدان الرقائق الإلكترونية.
● الانتشار العسكري بمناطق شرق آسيا: تزايدت النظرة السلبية الأمريكية تجاه بكين كمهدد في هذه المنطقة، وتحاول واشنطن الضغط على الصين من خلال زيادة حجم الإنفاق العسكري في تلك المنطقة بهدف التحجيم العسكري للصين.
● قضية تايوان: وهي محور الصراع بين واشنطن وبكين، حيث تستخدم الأولى مسألة تايوان للضغط على الصين فيما يعتبره البعض محاولة لما يُمكن أن يُطلق عليه الاستدراج العسكري كما حدث في الحرب الروسية الأوكرانية، وبرغم اعتراف الولايات المتحدة بسياسة الصين الواحدة، إلا أنها تعلن دفاعها عن تايوان حال فكرت الصين في مهاجمتها.
موقف أوروبي موحد تجاه بكين؟
أما الاتحاد الأوروبي، وبعد أن كان يغرد بمفرده خارج سرب الولايات المتحدة، نجد أنه أصبح يتلاقى مع أجندة واشنطن “تدريجيًا”، فالحرب الأوكرانية عززت من ضرورة تخفيف الاعتماد الأوروبي على الصين اقتصاديًا؛ إذ تعد الصين الشريك التجاري الأول للاتحاد الأوروبي بما يتجاوز 20% من الاقتصاد العالمي، سابقة للولايات المتحدة في حجم المبادلات التجارية مع أوروبا.
وما يقلق أوروبا في الوقت الراهن هو توسع الحجم التجاري لبكين وتمدد السلع الصينية في السوق الأوروبية مقارنة بصادراتها للصين، وما يمثله ذلك من تداعيات خطرة على مستقبل الصناعة في أوروبا وتنافسيتها في الأسواق المحلية مقارنة بالبضائع الصينية الرخيصة وتأثير ذلك المباشر على ارتفاع البطالة.
وترجمت بروكسل الأمر عبر استراتيجية جديدة تضع قيودًا على الصادرات والاستثمارات الصينية، ما يعني “معاملة الصين أولًا وقبل كل شيء على أنها منافسة منهجية واعتماد سياسات للتخفيف من المخاطر التي تنجم عنها”، وهو ما يتلاقى مع الخطوات الأمريكية نحو إبطاء تقدم بكين وليس الاستغناء عنها، خصوصًا في مجال أشباه الموصلات التي تدخل في تفاصيل الصناعات الدفاعية. فنجد أن الاتحاد قد درس بالفعل فرض عقوبات أوروبية على شركات صينية بذريعة دعم آلة الحرب الروسية، وتحتاج الدول الأعضاء البالغ عددهم 27 دولة إلى الموافقة بالإجماع على فرض مثل تلك العقوبات، ما يعني خطوة فارقة في مصير العلاقات الأوروبية الصينية التي ستصل إلى الحد الأدنى دون صدام مع واشنطن.
كما يعمل الاتحاد الأوروبي على دفع بكين لاتباع سياسة أكثر تشددًا تجاه موسكو بملف أوكرانيا، خاصة بعد “الشراكة بلا حدود” بين بكين وموسكو التي يرى الغرب في توقيتها غرابة، ما عزز لدى الأوروبيين ما يعنيه أن تصبح الصين “خطرًا” لا يمكن الاستغناء عنه.
ولكن دول الاتحاد أيضًا وحتى الآن لا تعتمد منهجًا موحدًا حيال بعض الملفات المتشابكة مع الصين كـ “تايوان” وحقوق الإنسان و”الأويغور”، فالرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” قد أدلى بتصريحات مؤخرًا عقب زياته للصين تضرب فرضية توحد الرأي الأوروبي بعرض الحائط، إذ طالب من أوروبا انتهاج “سياسة مستقلة” عن الولايات المتحدة، والتخلص من سياسة الإملاءات التي تفرضها واشنطن لتحقيق مصالحها الخاصة من وراء معادة بكين، وعدم انجرار القارة الأوروبية لمواجهة بين بكين وواشنطن بشأن أزمة تايوان، هذا بجانب ضرورة اعتماد أوروبا على السلاح ومصادر الطاقة الأمريكية.
وقد لاقت هذه التصريحات ترحيبًا حارًا من بكين، وتساؤلات من بروكسل حول التعقيدات التي تحول دون تطبيق رؤية ماكرون، خاصة وأن الحضور الفرنسي في المحيطين الهندي والهادئ كبير، ولا يمكن لفرنسا أن تتعامل مع هذا الملف باستخفاف، فالمساس بتايوان سيكون كارثيًا لها. وعلى كلٍ رأي الكثيرون في الاتحاد الأوروبي أن تصريحات ماكرون تمثل فرنسا ومصالحها الخاصة مع بكين ولا تجسد الموقف الأوروبي، وإن أراد ماكرون ذلك. وربما قريبًا ومع تصاعد الأحداث تتوحد الآراء في النهاية، ويعتمد الاتحاد الأوروبي استراتيجية موحدة بشأن الصين، وقد تكون الاستراتيجية الألمانية مرجعًا لها.
وبالعودة إلى الاستراتيجيات الألمانية، لا شك أن أفكار برلين قد تغيرت بعد الحرب في أوكرانيا، وأنها أيقنت أخيرًا أن المصالح الاقتصادية لا يمكن أن تساعد بالضرورة في الحفاظ على السلام أو العلاقات مع دول معينة، ولهذا تحاول أن تكون أكثر “عقلانية وجدية” في سياستها الخارجية، من خلال التركيز على حماية أمنها القومي، وحماية نفسها من التبعات الزلزالية لهذه الحرب، حتى لا تجد نفسها واقعة في أخطاء جيوسياسية. وكل ما سبق هو أمر طال انتظاره من قبل واشنطن وبروكسل، ولكن هل سيستمر التغير الألماني وسيكون طويل الأمد كما تزعم، أم هو تغيير قصير المدى محاطًا فقط بضباب الحرب قد يتغير بانتهائها؟
باحثة بالمرصد المصري