
لمصر والسودان معًا
في كل مرة أكتب فيها عن السودان في جريدة الأهرام أتحسس الكلمات خوفًا من إساءة تفسير هنا أو تأويل هناك، لأن البعض من الأشقاء مغرمون بالبحث عما وراء السطور وما بينها من معانٍ ملتبسة قبل النظر إلى ما هو واضح فيها، ولذلك لا تحبذ بعض وسائل الإعلام المصرية الافراط في الحديث عن الشأن السوداني المهم لنا والشائك سياسيًا، وهو دليل حرص واهتمام وتقدير للشعب ونخبته ومسؤوليه.
من الضروري كسر هذه القاعدة الآن لأجل الحفاظ على مصالح مصر والسودان معًا، والحديث بشكل أكثر شفافية ووضوح، فالأزمة التي نجمت عن مباراتي الأهلي والهلال في الخرطوم ثم في القاهرة جلبت معها ضجيجًا يصعب السكوت عليه طويلًا، فمع أنها أزمة عادية حدثت وسوف تحدث في كثير من الملاعب العربية والعالمية، غير أن النفخ السياسي فيها على مواقع التواصل الاجتماعي حولها إلى كرة لهب.
ما حدث عقب المباراة أبعد من كونه نتيجة طبيعية لمنافسة في كرة القدم، هو تعبير عن أزمة ثقة قديمة، خاصة من قبل بعض الأخوة في السودان الذين تعاملوا مع الأمر بحساسية مفرطة، وهي تتجاوز في مضمونها الدوائر الرسمية، فمع أن الحكومتين لم تتدخلا بأي صورة سلبية واقتصر التدخل على توفير سبل الراحة لكل فريق، غير أن التداعيات أكدت أن المشكلة ليست في جماهير الأهلي أو الهلال، بل في شريحة من المواطنين في البلدين تصر على تبني مواقف تتخطى حدود الروابط التاريخية، والروح الرياضة التي تحض على التسامح وتقبل الهزيمة من الآخر.
سمحت بعض التفسيرات الخاطئة لهتاف الجماهير في استاد القاهرة بنقل الخلاف بين ناديين إلى خلاف بين شعبين عندما تم التطرق إلى مفردات عنصرية مرفوضة ومدسوسة، فمن شاهدوا المباراة لم يتفوه بها أحد، لكن بسبب القابلية لهذا النوع من المفردات القاتمة تعامل معها البعض على أنها حقيقة، لأن كل المقدمات قالت إن الأجواء المشحونة سيتم توظيفها سياسيا، وهو ما يجب تفويت الفرصة عليه حاليًا.
ولأجل مصر والسودان علينا أن نعترف أن العلاقة مصيرية بين الشعبين، ولا يمكن لمباراة في كرة القدم أو خلاف سياسي أن يتسبب في أزمة تتدخل فيها أجهزة عديدة وقد يصعب فك شفراتها، فخطاب الكراهية الذي يتبناه البعض ويعملون على تكريسه يزيد المسألة اشتعالًا، ويجهض المحاولات التي تقوم بها جهات في البلدين لتعزيز العلاقات والبناء على القواسم المشتركة حفاظا على المصالح الحيوية.
ونشطت صفحات تابعة للحركة الإسلامية وفلول النظام السابق في السودان لها امتدادات خارجية مع بعض دول الجوار في الدفع نحو زيادة السخونة فيما خلفته مباراة الأهلي والهلال، والإيحاء بأن هناك مؤامرة، مع أن المباراة توافرت لها أجواء رياضية جماهيرية غابت طويلا عن القاهرة، جرى عمدا تجاهلها لهدف التركيز على عقدة تستدعى عند أول تعاون سياسي أو عسكري أو حتى منافسة رياضية.
مع أن السودان مشغول بتفكيك أزمته السياسية، إلا أنه يذخر بكثير من العقلاء الذين لعبوا دورًا مهمًا في اطفاء جذوة النار التي حاولت جهات يغضبها أي تقارب بين مصر والسودان اشعالها، وأسهم هؤلاء في تقديم جوانب أخرى من الصورة المبتورة التي وصلت لشريحة من الجمهور السوداني، ففي النهاية هي مباراة في كرة القدم ولن تكون الأخيرة وكل شحن يحدث الآن يعزف على مزاعم وجود هوة سوف تكون له ارتدادات في المستقبل عندما تلتقي فرقا مصرية مع نظيرتها السودانية.
يمكن أن يستفيد السودان من مصر في تفكيك بعض أزماته إذا أتاح لها فرصة للمشاركة في العملية السياسية، فمهما كانت مساحة الخلاف لن تؤثر على المصالح الاستراتيجية للبلدين، والتي من ثوابتها أن السودان بوابة مصر الجنوبية، وأي توتر أو خلل يصيبها على الفور، ومن مصلحة القاهرة أن يكون هذا البلد مستقرًا وموحدًا ويحقق شعبه ما يصبو إليه من دولة مدنية ديمقراطية تتناسب مع تطلعاته وأحلامه.
لمصر والسودان معًا أن يكون هناك تعاون وثيق في القضايا الإقليمية المشتركة، وفي مقدمتها سد النهضة الإثيوبي، والذي يؤدي التنسيق حياله إلى تخفيف حدة الأضرار المائية على البلدين لاحقا، ويسد الفراغات في خطاب أديس أبابا الذي يستغل أحيانا ما يبدو وكأنه تباعد في الرؤى بين القاهرة والخرطوم.
لمصر والسودان أن تقوم النخبة السياسية والثقافية والإعلامية بدور مهم في تجاوز سحابة الأهلي والهلال وتوابعها، باعتبارها بابا يمكن أن يثير غضب جماهير الناديين العريقين إذا تركت الأزمة في أيدي من يتلاعبون بالعقول لتحقيق أغراض سياسية من وراء قطع الطريق على أي تعاون في المستقبل بين الدولتين.
ليترك التحقيق للجهات القارية والدولية المعنية بالرياضة كي تطوى هذه الصفحة بعيدا عن الاتهامات المتبادلة، فهناك مؤسسات رياضية معنية بإدارة المشهد الكروي، بينما المزايدات والاتهامات التي تطلق جزافا سوف تكون لها مردودات سلبية، تزيد الأمر صعوبة أمام من يسعون إلى تصفية النفوس، فما تخلفه الرياضة من رواسب بغيضة قد يحتاج جهدًا سياسيًا كبيرًا ليتجاوزه كل طرف.
لمصر والسودان معًا أن يتم الانصات لصوت الحكمة وتخطي تعقيدات الماضي، والبعد عن استدعاء ملفات غامضة عند أول محك رياضي أو اجتماعي، فهناك جالية سودانية كبيرة تعيش في مصر تبلغ حوالي ستة ملايين منذ سنوات طويلة يتمتع أفرادها بخصوصية تحسدهم عليها بعض الجاليات العربية الأخرى.