الأزمة الأوكرانية

المساعي الروسية للمفاوضات: رغبة في السلام أم هدنة مؤقتة؟

وسط عالم تتصارع أطرافه المتلهفة للانغماس في إراقة المزيد من الدماء عبر حرب لا يمكن لأحد التكهن بملامح نهايتها، كتب عراب السياسة الأمريكية “هنري كيسنجر” وزير الخارجية الأمريكي الأسبق في 17 ديسمبر مقالًا في مجلة “ذا.سبيكتاتور” البريطانية، يشرح فيه للعالم عواقب الاستمرار في الحرب ويدعو إلى ضرورة التوقف للمفاوضات التي ستكون أول الطريق للوصول للسلام. أوضح “كيسنجر” في مقاله، أن الوقت يقترب للبناء على التغييرات الاستراتيجية التي شهدها العالم بالفعل، ودمجها في هيكل جديد لتحقيق السلام من خلال المفاوضات. داعيًا إلى عقد السلام ووقف الأعمال العدائية، وإقامة خط لوقف إطلاق النار على طول الحدود التي كانت قائمة بين روسيا وأوكرانيا حتى تاريخ 24 فبراير، كشرط مبدئي لإطلاق الحوار.

في حين تذهب معظم التقديرات الغربية إلى عدم جدوى المفاوضات، إذا تم عقدها في الوقت الراهن. مثال دامغ على ذلك، تصريحات المتحدث باسم البيت الأبيض، “جون كيربي”، 14 ديسمبر، والتي قال من خلالها إن إدارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” ترغب في إنهاء الحرب قبل نهاية العام لكنها تتفهم أن هذا أمر غير مرجح. مشيرًا إلى أنه، وعلى الرغم من برد الشتاء، فمن غير المرجح أن يتوقف القتال خلال الأشهر المقبلة. من ناحية أخرى، رددت دولة الاتحاد الروسي خلال الآونة الأخيرة، سواء على لسان رئيسها أو كبار مسؤوليها، الكثير من العبارات التي تطالب بالجلوس إلى طاولة المفاوضات. بشكل يجعل معه من الضروري البحث عن أجوبة بشأن نية موسكو الحقيقة إزاء المفاوضات. 

موسكو والمفاوضات: نداءات متكررة

تواتر الحديث خلال الأسابيع الأخيرة على لسان المسؤولين الروس عن الرغبة في عقد مفاوضات مع الدول الغربية أو أوكرانيا حول مستقبل الحرب. ففي 6 أكتوبر، اقترحت رئيسة مجلس الاتحاد، “فالنتينا مافتينكو”، أن تبدأ السلطات الأوكرانية اليوم مفاوضات حول التسوية السلمية، ولكن وفقًا للشروط التي ستعرضها روسيا. وفي 14 أكتوبر، صرح رئيس المخابرات الخارجية الروسية، “سيرجي ناريشكين”، قائلًا إن المفاوضات ممكنة ولكن فقط في ظل “ظروف محددة”. وفي منتصف شهر سبتمبر 2022، تحدث “بوتين”، بدوره عن المفاوضات ووقف الحرب فقال، “سنبذل قصارى جهدنا لضمان توقف ذلك في أسرع وقت ممكن.” مضيفًا، أن أوكرانيا أعلنت رفضها لعملية التفاوض، ومعلنًا في الوقت نفسه أنه يريد تحقيق أهدافه بالوسائل العسكرية وفي ساحة المعركة. 

وبتاريخ 9 نوفمبر 2022، صرحت المتحدثة الرسمية باسم الخارجية الروسية “ماريا زاخاروفا” إن الاتحاد الروسي مستعد للتفاوض مع أوكرانيا، مع مراعاة الحقائق الناشئة في الوقت الحالي. مؤكدة: “مازلنا منفتحين على المفاوضات. نحن لم نتخل عنها أبدًا”. فيما صرح، وزير الخارجية الروسي، “سيرجي لافروف”، بتاريخ 1 ديسمبر، “لم نطلب أبدًا أي مفاوضات، لكننا قلنا دائمًا إنه إذا كان لأحدهم مصلحة في حل تفاوضي، فنحن مستعدون للاستماع”.

قراءة في المساعي الروسية للمفاوضات

تُشير معظم التحليلات الغربية إلى أن روسيا، في حقيقة الأمر، لا تسعى إلى السلام وإنما تحاول فقط تجميد مسار الحرب لإتاحة الفرصة لإعادة تجميع قواتها، وتجهيز المعبئين عسكريًا الجدد، وإعادة تسليح القوات قبل استئناف الهجوم الجديد على نطاق واسع. وهو الرأي الذي يتفق معه غالبية المسؤولين الغربيين وعلى رأسهم، “ينس ستولتنبرج”، الأمين العام لحلف الناتو، والذي صرح، في 23 ديسمبر، مبرهنًا على وجهة نظره بأن روسيا حشدت خلال الأشهر الأخيرة حوالي 200000 شخص جديد وضمّتهم للعمليات القتالية على الجبهة. مضيفًا أن الأحداث الجارية في الوقت الراهن تُظهر أن القيادة الروسية تأمل في تجميد الحرب بشكل مؤقت. فيما ذهبت معظم التقديرات العسكرية الغربية إلى أن هجومًا روسيا جديدًا على نطاق واسع من المقرر أن يتم شنه في الفترة ما بين “فبراير- مارس 2023″، ويجري التخطيط له في الوقت الراهن.

من ناحية أخرى، هناك أسباب ومبررات تدعم تفسيرات أخرى وراء تكرار المساعي الروسية للمفاوضات. وللوقوف على ذلك، ينبغي أولًا أن نعيد إلى الأذهان تصريحات سابقة للرئيس الروسي، “فلاديمير بوتين”، ترتبط جميعها بطبيعة التصريحات الصادرة، سواء عنه أو عن مسؤولين روس آخرون في السياق نفسه. 

● التقى الرئيس الروسي، “فلاديمير بوتين”، 9 يونيو 2022، مجموعة من رواد الأعمال الشباب في موسكو. وألقى خلال هذه الأمسية عددًا من التصريحات، نورد منها قوله “بيتر الأكبر شن حرب الشمال لمدة 21 عامًا، ويبدو أن هناك اعتقاد بأنه قاتل مع السويد واستولى على شيء ما منها، لكنه لم يستول على شيء، فهو استعاد الأرض فقط“. ويشار هنا إلى أن الرئيس الروسي سلط الضوء على الحرب طويلة الأمد التي خاضها “بيتر الأكبر” لاستعادة الأرض، في رسالة واضحة بإيمانه بفكرة النَفس الطويل وبعدم اكتراثه بطول أمد الحرب لأن العبرة في النهاية، من وجهة نظره، ستكون متعلقة بهوية الفائز. وهذه فكرة بحد ذاتها، تتنافى مع إمكانية أن تكون موسكو تدعو إلى مفاوضات قد تؤدي إلى سلام حقيقي. 

● تداولت صحف غربية، جنبًا إلى جنب مع صحف روسية، بتاريخ 22 ديسمبر 2022، عناوين حول اعتراف “بوتين” الصريح، ولأول مرة، بأن العملية الخاصة هي “حرب”. تتعلق هذه العناوين تحديدًا بتصريحاته خلال مؤتمر صحفي انعقد عقب اجتماع مجلس الدولة. عندما قال، “إن إنهاء هذه الحرب هو ما نسعى إليه، وسنواصل السعي من أجله“. وتنطوي هذه العناوين على مغالطة، إذ إن “بوتين” سبق وأن نعت العملية العسكرية الخاصة من قبل بكلمة “حرب”. نعود الآن بالأذهان إلى تصريحات “بوتين” خلال خطاب إعلان التعبئة العسكرية الجزئية في روسيا، 21 سبتمبر 2022؛ مثال على ذلك قوله “تحول الشعب الأوكراني نفسه إلى وقود للمدافع، وتم الدفع به إلى الحرب مع روسيا، بلادنا“. وفي موضع آخر من الخطاب نفسه، قال “هذه الحرب، أطلق العنان لها في العام 2014، باستخدام القوات المسلحة ضد السكان المدنيين، وتنظيم الإبادة الجماعية والحصار والإرهاب ضد الأشخاص الذين رفضوا الاعتراف بالقوة التي نشأت في أوكرانيا نتيجة للانقلاب“. وهو ما نفهم منه أن “بوتين” يعتمد كلمة “الحرب” ويستخدمها فقط عندما يتم وصف الأفعال التي ارتكبها الطرف العدو ومعاونوه. لكن في مفهومه الشخصي، فإن “العملية العسكرية الخاصة المحدودة”، هي الفعل الذي اضطرت روسيا إلى ارتكابه. 

● إذًا، نخلص مما ورد في النقطة السابقة، إلى أن الاعتراف بالحرب شيء ضروري بالنسبة لبوتين لإقناع الشعب الروسي بحتمية القرار الذي اتخذه في ختام فبراير 2022، ويدفع اليوم ثمنه الجميع. وهو ما يأخذنا لتفسير ذكره لكلمة “الحرب” في تصريحاته بـ 22 ديسمبر 2022، بأنه كان يخاطب شعبه في المقام الأول. وهو شيء “بوتين” في أمس الحاجة إليه الآن، لعدة أسباب يأتي على رأسها ما يعود بنا مجددًا إلى ذكرى خطاب التعبئة العسكرية الجزئية، حيث يحتاج الرئيس وبشدة إلى إقناع شعبه بعدة مفاهيم: أولًا الحرب الكبرى تجري الآن ونحن متورطون بها لأننا نُهاجم من قِبَل الغرب الجماعي، ثانيًا ما دمنا اعترفنا أننا نُهاجَم ونتعرض إلى حرب فلا مناص لنا إذًا من التكاتف لأجل مجابهة العدوان، ثالثًا هذا التكاتف ربما يعني أن الشائعات التي دارت في روسيا خلال الآونة الأخيرة بخصوص اقتراب قرار تعبئة عسكرية جديد يحتمل أن تكون صائبة، ولهذا السبب، كرر “بوتين” نعت العملية العسكرية الخاصة بكلمة “الحرب” في 22 ديسمبر 2022. 

● يُلاحظ أيضًا، أن “بوتين” كرر كلمة “حرب” خلال خطابه المسجل في 31 ديسمبر 2022، بمناسبة حلول العام الميلادي الجديد. عندما قال، “منذ عام 2014، بعد أحداث القرم، تعيش روسيا تحت وطأة العقوبات، لكننا أعلنا هذا العام حرب عقوبات حقيقية. أولئك الذين بدأوا ذلك توقعوا التدمير الكامل لصناعتنا، وأموالنا، ووسائل نقلنا”. حيث يشير في عبارته إلى “حرب العقوبات” التي سرعان ما يعاود التنويه الصريح إلى حقيقة أن الغرب هو من بدأها لأجل إضعاف روسيا. وهو ما يؤكد على نفس الفكرة؛ أن “بوتين” لا يذكر كلمة “حرب” إلا في المناسبات التي يقوم فيها بتوجيه الحديث إلى شعبه أملًا في استجداء تعاطفه. 

● على هذا الأساس، نفهم أن الرئيس الروسي ومن ورائه المسؤولين الروس بحاجة إلى تكرار النداءات المطالبة بالجلوس على طاولة المفاوضات؛ كي يفهم الشعب الروسي، بطبيعة الحال، أن السلطة في الكرملين ليست هي الراغبة في مواصلة هذا الطريق الوعر، بل على العكس، يرغب الرئيس في المفاوضات لإنهاء الحرب لكن بلا أي جدوى. لذلك تكتسب الحرب شرعيتها من فكرة اضطرارية الشعب للدفاع عن نفسه وأرضه. 

● نعود مرة أخرى لمحاولة استكشاف رؤية الرئيس الروسي لمستقبل الحرب التي تقول بلاده إنها ترغب في عقد مفاوضات لها. ونعاين هنا تصريحه في خطاب نهاية العام “لقد كان حقًا عامًا من الأحداث المحورية والمصيرية. لقد أصبحوا الحدود التي تُرسي الأساس لمستقبلنا المشترك، واستقلالنا الحقيقي”. وتابع، “هذا ما نناضل من أجله اليوم، نحمي شعبنا في أراضينا التاريخية في الكيانات الجديدة المكونة للاتحاد الروسي”. وهذه جميعها عبارات، تتصل بما سبقها من تصريحات على نفس الشاكلة صدرت عن الرئيس الروسي من قبل ولا زالت تصدر عنه. ففي حين نرى أن كييف تصر على عدم التفاوض قبل الانسحاب الروسي من جميع الأراضي الأوكرانية بما في ذلك شبه جزيرة القرم، نرى أن “بوتين” يدعو إلى المفاوضات وهو متمسك بالأراضي التي ضمها لروسيا، بل أنه يؤكد على استمرار الدفاع عن هذه الأراضي مع ملاحظة خسارة روسيا لخيرسون. وهو شيء لا يمكن تأويله إلا في إطار أن موسكو –وإن صدقت نداءاتها للمفاوضات- تسعى بالفعل إلى الحصول على هدنة مؤقتة لإعادة تجميع صفوفها قبل تجديد الهجوم مرة أخرى. 

وختامًا، إن مطالبة موسكو المتكررة للجلوس إلى طاولة المفاوضات رغم معرفتهم أن طلباتها سُتقابل على الأغلب بالرفض، تُفهم أنها ورقة رابحة من الجانبين. فمن ناحية، إذا تمت الموافقة على العودة للمفاوضات فستكسب موسكو المزيد من الوقت لإعادة ترتيب أوراقها قبل شن هجوم جديد لاستعادة خيرسون الضائعة على الأقل. ومن الناحية الأخرى، إذا قوبلت نداءات المفاوضات بالرفض فهذا يعني أن الشعب الروسي سيعي ويفهم أن الحرب حتمية، وسيتم تثمين مساهمات مواطني روسيا من حيث الأرواح، ومن حيث معاناتهم المعيشية مع تداعيات العقوبات الاقتصادية. وبناءً عليه سيتم استقبال أي قرار جديد بخصوص التعبئة العسكرية بحفاوة وترحيب بدلًا من الغضب والهرب كما حدث في القرار الأول، وسترتفع شعبية الرئيس الروسي، الذي يرغب الآن الكرملين في تصويره أمام شعبه بصفته بطلًا اتخذ قرار الحرب استجابة للهجوم على أرضه، وليس رجلًا اتخذ قرارًا باهظًا دفع ثمنه المواطنون بالجهد والعرق. فضلًا عن أن “بوتين” ليس رجلًا من شأنه أن يضجر من طول أمد الحرب، وجميع تصريحاته وقراراته السابقة تعد خير دليل على ذلك. 

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

داليا يسري

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى