إيران

قيادة نسوية لثورة مجتمعية في إيران؟: ارتدادات الثيوقراطية “2”

تستمر المظاهرات في الجمهورية الإسلامية الإيرانية لأسبوعها الرابع على التوالي، مما استدعى تحركات مختلفة من السلطة الإيرانية لاحتواء ما وصفته بالفوضى المنظمة، وتضمن ذلك ظهور المرشد الأعلى علي خامنئي في توقيت انتشر فيه الكثير من الشائعات التي حملت جانبًا من الحقيقة لتدهور حالته الصحية. واستدعى استمرار المظاهرات والقمع الذي مورس ضدها ردود أفعال عالمية كانت أكثر صرامة من تلك التي شهدناها في الأسابيع الأولى لتفجر المظاهرات. 

وقد خلقت المظاهرات الحالية تحديًا للجمهورية الإسلامية ومبادئها التأسيسية التي بنيت على أساس تصدير الثورة؛ ذلك أن ما يحدث اليوم يشكل قطيعة واضحة للثورة الإسلامية ومرجعيتها، وهو ما يمكن وصفه بالاحتجاجات الهوياتية وليس الاحتجاجات السياسية؛ لأن مطالبها تنخر مباشرة في الأدلجة الدينية للنظام الإيراني وفي طريق إعادة إحياء القومية الإيرانية بعيدًا عن أي هوية عرقية أو دينية.

ومن هنا فقد خلفت هذه الحالة الإيرانية الكثير من علامات الاستفهام بهدف تفسير ارتدادات هذه المظاهرات سواء على الأوضاع الداخلية في إيران والتي ذهب بعضها إلى حد التبشير بسقوط النظام الإيراني، فيما استهدفت أطروحات أخرى تفسير ردود فعل النظام الإيراني على المستوى الخارجي والتي لم تبدُ في أفضل طرح لها أكثر من مجرد محاولة هروب للأمام.

وعلى المستوى الداخلي، يمكننا النظر إلى رد الفعل المتمثل في ظهور المرشد الأعلى للثورة الإسلامية الإيرانية بعد حوالي 18 يومًا من استمرار التمرد بوصفه نقطة التحول التي بني وسيبنى عليها الكثير من الأمور مستقبلًا، وقد كان لظهوره عدد من الانعكاسات على المستوى الداخلي على النحو التالي:

انعكاسات ظهور المرشد الأعلى

خرج المرشد الأعلى في كلمة حملت تطمينات في بداية الأمر ولكنها ما لبثت أن حملت كل مظاهر الاستفزاز للمواطنين، فقد حرص خامنئي على عدم تفويت الفرصة لوصف المتظاهرين بالمدفوعين من جهات خارجية لإشعال الأمور في إيران، الأمر الذي أدى إلى تزايد المتظاهرين وشمول التحركات الشعبية والنسوية لحوالي 22 مدينة إيرانية، ما يعني أن الحراك ليس كرديًا كما حاولت السلطة في إيران تبريره، وبما يدل كذلك على أن المجتمع الإيراني استطاع تجاوز حالة العنصرية الهوياتية التي حاول النظام فرضها على الإيرانيين من خلال اللعب على نغمة الأكراد تارة والأحواز تارة أخرى.

ومن الناحية الأمنية، فإن ظهور المرشد الأعلى، إضافة إلى الأوصاف التي استخدمها، مثّل حالة من تغير التعامل الأمني مع المتظاهرين؛ فبعد أن كان هناك اتفاق في الأسبوع الأول للمظاهرات على عدم إسقاط قتلى، تغير الوضع ومورس العنف ضد المتظاهرين من قبل قوات الأمن، وهو الأمر الذي عكس حالة من التخوف والبطش داخل النظام الإيراني في آن واحد. 

ولكن البطش لا يعني القدرة على احتواء المظاهرات لأنها ببساطة ليس لها قائد وبالتالي فإن رفاهية القبض على محرك للأحداث لإنهاء الأمور لم تعد تتوافر حتى لقوات الباسيج، فضلًا عن أن القبض على عدد لا نهائي لن يكون مجديًا من الناحية المنطقية، وبالتالي فإن الخيار الوحيد حتى الآن هو استمرار المظاهرات واستمرار القمع. ورغم أن النظام الإيراني الحالي ابن للثورة الإسلامية التي نشبت في 1979 أو نتاج لها، فإن استمرار المظاهرات أربك حتى المرشد الأعلى.

من ناحية أخرى، فإن الخلافات التي تعالت أصداؤها حول من يخلف المرشد الأعلى في ظل حديث عن تدهور حالته الصحية أفرزت مناخًا آخر من الفوضوية وصعوبة توحيد التوجهات داخل أروقة النظام الإيراني؛ في ظل انقسام حاد للنخبة الإيرانية حول شخص المرشد القادم بين الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي وابن المرشد الحالي مجتبي خامنئي، مع الأخذ بالحسبان أن كلا الشخصيتين تعاني فراغًا شعبويًا على مستوى الشارع الإيراني.

وعلى مستوى الشارع الإيراني أيضًا، يمكننا أن نرصد بسهولة التحركات الشبابية والنسوية بل وحتى على مستوى طلبة المدارس  للمظاهرات الحالية بطريقة ينعكس عنها وجود فجوة بين الانتماءات الثقافية والدينية في السلطة الإيرانية والشارع الإيراني؛ فقد ظهرت الطالبات في المدارس الإعدادية والثانوية من خلال مقاطع فيديو غزت مواقع التواصل الاجتماعي وهن يكشفن عن شعورهن، مع التركيز على وصف المرشد الأعلى بالديكتاتور خلال المظاهرات، إضافة إلى تجرؤ المتظاهرين على الاعتداء بالضرب على قوات الباسيج وعناصر شرطة الأخلاق، ممثلين حالة من الرفض للهوية الدينية التي تحاول السلطات منذ 1979 صبغ الشعب الإيراني عنوة بها.

ولذلك، فإن أفضل السيناريوهات بالنسبة للنظام الإيراني يمكن أن يتضمن إلغاء قوانين تفرض الحجاب الإلزامي؛ لاحتواء المتظاهرين، ولو حدث ذلك فإن ذلك سيمثل ضربًا في أحد الأسس التي قام عليها نظام ولاية الفقيه، وهو القائم على مرجعية دينية، منبئًا ببدء سقوط المزيد من الأعمدة. وعلى تلك الخلفية، خرجت تحليلات كثيرة تؤكد أن سقوط النظام الإيراني حالًا لن يحدث ببساطة لأنه يمتلك قاعدة شعبية من التنفيذيين التي ستحافظ على بقائه حتى بإراقة الدماء، ولكن فكرة استمراره على هويته ومرجعيته أمر صعب في المستقبل.

ولكن حتى هذا السيناريو لا ينبغي النظر له بالكثير من التفاؤل؛ لأن المعارضة الإيرانية منقسمة بين هتافات تطالب بعودة نظام الشاه -وإن كان حتى على مستوى علمانيته لأنه من الاستحالة السياسية الرجوع بأي دولة من الجمهورية للملكية- ومجاهدي خلق الذين سيفتك النظام الإيراني بهم حتى ولو كان في الرمق الأخير من باب تصفية الحسابات على أقل تقدير.

ردود أفعال خارجية

بعد ازدياد وتيرة ممارسة العنف ضد المتظاهرين، نشر البيت الأبيض بيانًا للرئيس الأمريكي جو بايدن قال فيه إن بلاده ستفرض عقوباتٍ على مسؤولين إيرانيين ممن ارتكبوا أعمالَ العنف ضد المتظاهرين السلميين. وصرح بايدن بأن هؤلاء المتظاهرين يطالبون بمبادئ عادلة وشاملة، وستقف الولايات المتحدة مع الإيرانيات اللواتي يلهمن العالم بشجاعتهن.

وانتقدت كل من بريطانيا وألمانيا وفرنسا وكندا الجمهوريةَ الإسلامية في قمع الإيرانيين، وقامت الحكومة الكندية بفرض عقوبات على مسؤولين في وزارة الاستخبارات والحرس الثوري وشرطة الأخلاق. فيما أعلنت فرنسا أنها تعمل داخل الاتحاد الأوروبي لتبني عقوبات تنص على تجميد أصول وحظر سفر ضد المسؤولين عن أعمال القمع في إيران.

وقالت وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا إن “تلك الإجراءات تهدف إلى الرد على القمع من خلال استهداف المسؤولين عنه، ويمكن أن يكون لها تأثير على صانعي القرار في النظام الإيراني”. وكانت ألمانيا قد طالبت الأسبوع الماضي بفرض عقوبات من جانب الاتحاد الأوروبي على إيران، بسبب اتهامات بأن سلطات إيران تمارس شكلًا عنيفًا من قمع مظاهرات أشعلتها وفاة الشابة مهسا أميني بعدما أوقفتها شرطة الأخلاق لعدم ارتدائها الحجاب.

من جانب آخر، فقد حرص النظام الإيراني على القيام بردات فعل خارجية؛ ربما لصرف النظر عما يحدث في الداخل أو في محاولة لردع أي جهة خارجية ترى السلطة في إيران أنها وراء تحريك المظاهرات. وفي هذا السياق، فقد قصف الحرس الثوري الإيراني عدة مواقع للأكراد في مدينة السليمانية شمال العراق، في انعكاس لحالة التخوف الإيراني من انتشار الفوضى على أساس عرقي.

ولا يمكن فهم التطورات التي أخذت منحى استخدام العنف في مدن جنوب العراق وعلى رأسها البصرة بمعزل عن الأيادي الإيرانية التي لا يستبعد أن تكون قد أوعزت إلى ميليشيات من الحشد الشعبي التي يقودها قيس الخزعلي وتتميز بولاءات ميليشاوية لإيران للاحتكاك بسرايا السلام التابعة للتيار الصدري لتجديد حالة العنف في البلاد، في توقيت بدا فيه التصعيد العسكري داخل العراق غير منطقي خصوصًا مع حدوث انفراجة للأمور بعد موافقة مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري على الحوار. 

ولو كان التوقع صحيحًا، فإن النظام الإيراني يكون قد قرر معاقبة الشعب العراقي بأكمله على ما يصفه بأنه تحريض كردي على المظاهرات. وقد سبق ذلك من ظهور غير مبرر في التوقيت أو المضمون للأمين العام لحزب الله حسن نصر الله الذي تحدث في خطاب مقحم على أن بعض الأنظمة لا يمكن النظر إليها “بعين الود”، فيما تحدث عن صحة المرشد الإيراني علي خامنئي، وأدلى بتصريحات تلفزيونية بشأن الشابة الإيرانية مهسا أميني، قبل ان يتوجه بالنقد للعراقيين لإظهارهم العداء للجمهورية الإيرانية وتذكيرهم بالجهود الإيرانية في التخلص من داعش واستبدالهم بالحشد الشعبي!

وفي إشارة تفسر ما سبق، فإنه بعد ساعات من تهديد ميليشيا الحوثي للشركات الأجنبية في الداخل، خرج الناطق العسكري للميليشيات ليهدد الشركات النفطية في السعودية والإمارات. وتصريحات ناطق المليشيا تزامنت مع تحذيرات مماثلة أطلقتها ميليشيا إيران في العراق والتي تطلق على نفسها اسم “ألوية الوعد الحق”، التي سبق أن استهدفت منشآت حيوية في الإمارات، في شهر فبراير من العام الماضي بإطلاق 4 مسيّرات فجرًا نحو مصفح في الإمارات. وهي التهديدات التي أثرت فورًا على ارتفاع سعر برميل النفط إلى 90 دولار حتى قبل قرار أوبك التاريخي بخفض الإنتاج بوتيرة دراماتيكية.

وأقدم النظام في إيران على اعتقال “تسعة أوروبيين” بتهمة التجسس مع تواصل الاضطرابات، إضافة إلى استدعاء سفيري بريطانيا والنرويج احتجاجًا على “التدخل في شؤونها”، وهو ما يشير إلى أن طهران لا تخشى من اضطراب علاقاتها مع الأوروبيين في وقت يقترب فيه الاتفاق النووي إلى خانة الواقع؛ إيمانًا من السلطة في إيران بأن أوراق الملف النووي في أيدي واشنطن وليس الأوروبيين، وأنها إن ضمنت الموافقة الأمريكية فإن الأوروبيين لن يعرقلوا الأمور. 

أخيرًا، قد تكون الأمور في طهران قد وصلت إلى نقطة اللا عودة، وهو تحول خطير للأمور لا ينبغي أن يكون مأمولًا حتى من أكثر الأنظمة عداء لطهران؛ لما له من انعكاسات خطيرة على إقليم مضطرب من الأساس ، خصوصًا أن اغلب المتظاهرين اليوم من الشباب الذيم لم يعاصروا الثورة الإسلامية، وكل ما يرمون إليه هو حماية مستقبلهم من الوصاية والتسلط ليس رفضًا للمبادئ الدينية بقدر ما هو رفض لفرضها، كما كان الإيرانيون رافضين للثورة البيضاء التي أطلقها الشاه والتي كانت أساسًا لسقوط عرشه وهو جالس عليه عندما كانت أشرطة الخميني الملهبة للمشاعر تصل للإيرانيين من باريس بينما كان الشاه منكرًا لما يحدث. الدولة الإيرانية اليوم في لحظة قريبة الشبه بإرهاصات الثورة الإسلامية، ورغم أن المرشد في وقتها كان في صفوف الثوار فإن المرشد اليوم يبدو وقد جلس في مقعد الشاه منكرًا لما تشهده الجمهورية الإسلامية من تحول.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

نيرمين سعيد

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى