
هل تجاوزت ديون مصر الحدود الآمنة وستعجز عن السداد؟
تُتداول شائعات كثيرة للغاية عن الوضع الاقتصادي لمصر، وخاصة فيما يتعلق بحجم الديون، مع الحديث عن أن مصر تجاوزت الحدود الآمنة للاقتراض، وأنها ستتجه إلى العجز عن سداد هذه الديون مثلما حدث في عدة دول ومنها لبنان. فهل يمثل هذا الأمر حقيقة الوضع الاقتصادي المصري؟ وهل باتت مصر على شفا الانهيار الاقتصادي؟
تلجأ حكومات كافة دول العالم إلى الاستدانة من الداخل والخارج؛ لتغطية العجز في الموازنة العامة. وعلى الرغم من أن عملية الاستدانة لتمويل موازنات الحكومات هي عملية طبيعية تتجه إليها كافة الدول المتقدمة والنامية، فإنه مع اختلاف الاوضاع الاقتصادية التي يشهدها الاقتصاد العالمي واختلاف حدة تأثيرها بين الدول وبعضها البعض يؤدي ذلك إلى اختلاف الفرص والمخاطر المرتبطة بعملية الاستدانة من دولة لأخرى ومن فترة زمنية لأخرى داخل الدول الواحدة.
وفي ظل ما تشهده الساحة الدولية من حروب وأوبئة انعكست تبعاتها على الاقتصاديات المختلفة الأمر الذي دفع الحكومات إلى إقرار حزم التحفيز والتوسع في برامج الحماية الاجتماعية، أصبحت هناك حاجة إلى اللجوء للمؤسسات الدولية للتفاوض حول الحصول على قروض وتمويلات جديدة، بما يزيد من حدة أزمة الديون بصفة خاصة في الدول النامية والأسواق الناشئة.
معدلات الديون العالمية
وفقا لبيانات صندوق النقد الدولي، فقد اتخذ معدل الدين العالمي اتجاهًا تصاعديًا؛ إذ ارتفع من 195% عام 2007 ليسجل 351% عام 2021؛ وذلك نتيجة تأزم الأوضاع الاقتصادية الدولية منذ أواخر عام 2019 مع بدء ظهور فيرس كورونا، ثم ما شهدته الساحة الدولية من اضطرابات اقتصادية خلال فترة التعافي من الجائحة، فضلًا عن الانعكاسات الاقتصادية للصراع الروسي الأوكراني الدائر حاليًا.
وقد ترتب على تلك الأحداث اضطرابات بسلاسل الإمداد والتوريد العالمية، وموجات تضخمية شديدة في كافة السلع خاصة السلع الاستراتيجية ومنتجات الطاقة، وتراجع عام بمعدلات نمو الاقتصاد العالمي والدخول في مرحلة الركود التضخمي، وانتهاج سياسات نقدية تشدديه في كافة الدول من خلال سياسات رفع أسعار الفائدة للسيطرة على معدلات التضخم لتزداد حدة أزمة الديون في عدد كبير من الدول، وبصفة خاصة الدول النامية والناشئة.
تطور عجز الموازنة العامة للدولة
وفي سياق الحديث عند الاقتصاد المصري، يلاحظ تراجع تدريجي لمستويات عجز الموازنة العامة للدولة من 12% عام 2013/2014 إلى ما يقدر بنحو 6% في موازنة العام المالي الماضي 2021/2022، وهو ما يرجع إلى السياسات المالية التي اتخذتها الدولة لزيادة الإيرادات العامة وترشيد النفقات العامة من خلال إصلاح منظومة الدعم السلعي، والتحرير التدريجي لأسعار الطاقة، وتوسيع القاعدة الضريبية، وميكنة منظومة الضرائب والجمارك.
الديون السيادية المصرية
دفعت الظروف الداخلية والخارجية إلى تبني الدولة لسياسات من شأنها التأثير على معدلات الدين الحكومي، فعلى مستوى الأوضاع الداخلية، تولت الدولة القيام بعدد كبير من المشروعات القومية الكبرى، وتطوير البنية الأساسية للبلاد وإنشاء عدد من المدن والجامعات الجديدة، فضلًا عن تطوير شبكة الطرق والكباري لتسهيل الوصول الى تلك المدن وتوفير الحياة بها، بما يساعد على جذب الاستثمارات الخاصة وتشجيع القطاع الخاص للقيام بدوره في الحياة الاقتصادية بما يسمح للدولة بالانسحاب من عدد كبير من القطاعات الإنتاجية. وقد حصلت الدولة على قرض من صندوق النقد الدولي لتنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي عام 2016 بقيمة إجمالية تصل إلى 12 مليار دولار وانتهت منه في عام 2019.
وعلى مستوى الأوضاع الخارجية، فقد أدى تتابع الاحداث الدولية غير المواتية الى زيادة حاجة الدولة إلى الاستدانة من المؤسسات الدولية؛ فمع تفشي جائحة كورونا حصلت مصر على 2.8 مليار دولار في إطار أداة التمويل السريع في عام 2020 التي أقرها الصندوق لدعم جهود الدول في مكافحة الجائحة، ثم تلا ذلك تمويل آخر بقيمة 5.2 مليار دولار بموجب اتفاق استعداد ائتماني، ويشهد الوقت الحالي التفاوض مع صندوق النقد الدولي لتجاوز التداعيات السلبية التي خلّفتها الأزمة الاقتصادية العالمية عقب اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا.
وتلجأ الدولة لتمويل العجز في موازناتها من مصادر مالية محلية وأجنبية يأتي على رأسها طرح السندات الحكومية بالسوق المصرية أو طرح السندات الدولارية بالأسواق الدولية. ويوضح الشكل التالي تطور نسبة كل من الدين المحلي والأجنبي من الناتج المحلي الإجمالي وفقًا لبيانات وزارة المالية.
وقد اتخذ معدل الدين الحكومي اتجاهًا تصاعديًا حتى عام 2016/2017، ثم تراجع تدريجيًا حتى سجل 87.2% عام 2021/2022 وفقًا للبيانات الأولية لوزارة المالية. وتستهدف الدولة تحقيق مسار تنازلي لنسبة المديونية الحكومية إلى الناتج المحلي مع استهداف خفض المديونية إلى نحو 82.5% من الناتج المحلي بنهاية يونيو 2025. وتستهدف موازنة العام المالي الجاري تنويع مصادر التمويل لخفض تكلفة التنمية، وإطالة عمر الدين، من خلال استمرار التوسع في إصدار السندات الحكومية متوسطة وطويلة الأجل، واستهداف أدوات دين جديدة لتوسعة قاعدة المستثمرين وجذب سيولة إضافية لسوق الأوراق المالية الحكومية.
وعلى الرغم من تسجيل الدين الحكومي نحو 82.5% من الناتج المحلي الإجمالي، فإنه عند تقييم مدى خطورة تلك النسبة يلاحظ انخفاض نسب الدين الخارجي (الأعلى خطورة) بالمقارنة بالدين الداخلي؛ إذ يقدر إجمالي الدين الخارجي في مصر كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي بنحو 34.6% وهو وما زال في حدوده الآمنة وفقًا لتصنيف صندوق النقد الدولي. ومع تقسيم الديون السيادية وفقًا لأجل استحقاقها يلاحظ أن الديون السيادية قصيرة الأجل (الأعلى خطورة) تتراوح نسبتها بين 26% و30%.
الوضع النسبي للديون الخارجية المصرية بين الاقتصادات الناشئة
ومن جهة أخرى، فعند مقارنة وضع مصر النسبي بين مجموعة من الدول النامية والأسواق الناشئة، يتبين أن الدين الخارجي لمصر ضمن الأفضل مقارنة بأبرز الأسواق الناشئة.
وختاما، فإنه يلاحظ انعكاس الظروف الاقتصادية المحلية والعالمية على مستويات الديون المصرية، إلا إنها ما زالت في حدودها الآمنة وفقا لتصنيفها بين ديون محلية وأجنبية، وكذلك عند تصنيفها وفقًا لأجل استحقاقها، أو عند وضعها في سياقها ضمن مثيلتها من الأسواق الناشئة.
باحثة ببرنامج السياسات العامة