
انتقاد الحوار الوطني قبل أن يبدأ
تبدو مسألة الحوار الوطني الذي أعلن عنه الرئيس عبد الفتاح السيسي وقد احتلت أولوية لدى القطاع الأكبر من الشعب، منذ إطلاقها في إفطار الأسرة المصرية وسط حزمة من القرارات والتكليفات الرئاسية المصاحبة. البعض منها يصح أن نعتبرها مكملة لفعل وآلية الحوار الوطني، وأخرى يمكن فهمها على أساس رغبة الدولة في تحقيق ترتيب منضبط لتلك القضايا والملفات، كي تأخذ مكانتها اللائقة داخل «الجمهورية الجديدة».
فوفق حديث الرئيس هي المستهدف العام من فتح وتطوير العمل على تلك الأصعدة، التي وردت بقائمة اشتملت على ثلاثة عشر محورًا. أولوية الاهتمام بدعوة الحوار التي تحققت على النحو الذي تابعناه جميعا، يعد مؤشرًا إيجابيا في كل الأحوال، ويعكس في الوقت ذاته أن إطلاق الدعوة الرئاسية جاءت متناغمة من حيث التوقيت والموضوع مع ما يشغل الرأي العام المصري، وتلبى كثيرًا من طموحات تطوير المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، من خلال رؤية الإطار العام والجامع لقضايا قائمة الثلاثة عشر.
المثير للدهشة أن هناك انتقادات سرعان ما انطلقت في تعجل غير مبرر، انحرفت بما هو مطلوب من حراك موضوعي وإيجابي إلى حالة أقرب للإثارة المقصودة للتشكك والتحفظ على أغلب ما يتم الإعلان عنه. في وقت كان ينتظر من أصحاب تلك الأصوات والمنشورات التفاعل مع القضايا ذات الأولوية، واستثمار هذه الفترة قبل البدء في الحوار، في طرح أهم جوانبها والنقاش حول ما تحقق منها وما يلزمنا من خطط مستقبلية لتعزيزها أو تصويب مساراتها.
على الأقل الوقوف على ما يعد مكملا للحوار الوطني فيما جاء بحديث الرئيس، ومنه على سبيل المثال في البند الثاني إطلاق مبادرة «دعم وتوطين الصناعات الوطنية»، وفى البند التاسع تكليف الحكومة بالإعلان عن خطة متكاملة تلتزم بها لخفض الدين العام كنسبة من الدخل القومي، وكذا عجز الموازنة على مدار الأربع سنوات القادمة. والبند العاشر تناول خطة لإصلاح البورصة ومضاعفة أحجام وأعداد الشركات المقيدة فيها، من أجل تنفيذ التكليف الثاني عشر الذي دعا الحكومة، إلى البدء في طرح حصص من الشركات المملوكة للدولة داخل البورصة المصرية في ثوبها الجديد.
يأتي ذلك في ظل حزمة من المحفزات وخطط الإصلاح والتطوير. لا يصح أن تترك مثل تلك العناوين الكبرى، والتي تحتاج إلى إسهام وإبداء الآراء من ذوي الاختصاص وأصحاب الخبرة، لصالح ما أثير في بيانات وأحاديث استباقية حول تولى الأكاديمية الوطنية للتدريب عملية تنظيم الحوار الوطني، ولعل أبرز تلك التحفظات تناولت عدة جوانب، الأول أنها جهة غير محايدة، والثاني أنها غير مؤهلة لإدارة الحوار، والثالث أنه كان من الأجدر تنظيم الحوار من جانب مؤسسة الرئاسة مباشرة. وهناك البعض ممن ذهب لأبعد من ذلك، معتبرا إسناد الأمر للأكاديمية يفرغ الحوار من مضمونه!
وربما للوهلة الأولى يبدو هناك إغفال متعمد إلى أن الإسناد على هذا النحو يؤكد أن مؤسسة الرئاسة هي التي تدير الحوار بشكل مباشر، فالأكاديمية أحد الكيانات التابعة لرئاسة الجمهورية، ومنذ قرار إنشائها تعمل بصورة راقية وعلى درجة عالية من الكفاءة، في تنفيذ أهم ما جاء في برنامج الرئيس. لذلك كيف يمكن تصور أن الحوار تم إفراغه من مضمونه، والرئيس تعهد بشكل مباشر بحضور عديد من مراحل الحوار، بل وكلف القائمين عليه بعرض مستخلصاته عليه شخصيًا، قبل عرض المخرجات على البرلمان من أجل استحداث التشريعات والقوانين اللازمة.
وليس بعيدًا عن الذاكرة أن الأكاديمية الوطنية هي الكيان الذي اضطلع بإطلاق أول حوار مجتمعي في المؤتمرات الوطنية للشباب، تناول جميع قضايا الدولة والمجتمع بشفافية وتعمق شهد لها الجميع. والمثال الأبرز لذلك أن لجنة العفو الرئاسي كانت من توصيات ومطالبات إحدى نسخ هذه المؤتمرات، وشهد ذلك تجاوبًا محمودًا من الرئيس ليشكل على إثره اللجنة قبل مغادرة الحضور مدينة شرم الشيخ.
والمثال الثاني للأدوار التي تلعبها الأكاديمية الوطنية ببراعة وبعيدًا عن الأضواء أنها بعد تطوير المؤتمر الوطني ليصبح له نسخة دولية هي منتدى شباب العالم، قامت وبتكليف رئاسي، باستحداث برنامج تأهيل الشباب الأفريقي، لتحقق للدولة المصرية قناة الاتصال المتطورة، عبر هذه الآلية التي نسجت الجسور بين مصر والشباب الأفريقي الذين تسابقوا للالتحاق بهذه البرامج.
والآن خلال سنوات معدودة صار للأكاديمية الوطنية المصرية خريجون بالمئات. بالطبع ليس هذا مجال عرض لكامل أدوار الأكاديمية الوطنية، وإن كانت كثيرة وجديرة بالفخر لكنها تظل بطبيعة رصانة الكيانات التابعة للرئاسة، تحرص في جميع مهامها على الوقوف خلف الحدث، وتترك الإنجاز وحده ملكًا للدولة، كما أعلنت بوضوح في بياناتها الخاصة بالحوار الوطني أنها مكلفة فقط بالتنظيم والإعداد دون التدخل في محتواه الذي تركته بشفافية كاملة -أكدتها- للمشاركين من جميع الأطياف.
ولهذا كانت الانتقادات المبكرة مثيرة للعجب، ولافتة للانتباه حول جدارة هؤلاء المشاركين الذين يضربون يمينًا ويسارًا، تاركين مهمة الاستعداد لإنتاج الأفكار والبرامج التي يمكنها أن تتفاعل مع ما تنشده الدولة، من مجابهة شاملة لحزمة التحديات المستحدثة التي يواجهها العالم، وتفتح لذلك الأبواب أمام الجميع بثقة وأقدام ثابتة كي نتشارك هموم صناعة المستقبل.
ويحسب للنظام أنه استبق تلك التحديات قبل جائحة كورونا وقبل احتدام الصراع العالمي في أوكرانيا، باعتماد نهج إصلاحي شامل، شاخصًا ببصره إلى أبعد مما كان ينظر الكثيرون. وبذل من التخطيط والجهد والمال في بناء المشروع الوطني، ما يجعل آفة التشكك وإطلاق سحب التغييب والإحباط لا محل لها من الإعراب، فما تم إنجازه سلفًا ماثل أمام أعيننا، يبقى بعض من الثقة بالنفس أننا قادرون على أن نصنع غدًا يليق بنا وجديرًا بوطننا الكبير.
المدير العام للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية