مقالات رأي

العوائق الحاكمة أمام الجيش الإسرائيلي

رئيسة مجموعة الأزمات الدولية “كومفورت إيرو”؛ وصفت على هامش منتدى الدوحة الذي عقد خلال الأيام الماضية، العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بكلمات قصيرة دالة “لم نر أبدًا مشهد لصراع في العالم، بهذا القدر من الكآبة والكارثية”. كما وصفت النظام الدولي الحالي متعدد الأطراف، بأنه يعجز عن التعامل مع هذه النزاعات، مطلقة دعوة جديدة بـ”الحاجة إلى التفكير في طرق مبتكرة من أجل إنهاء المعاناة الإنسانية”. السيدة إيرو تتحدث من خلال خبرة المجموعة ( International Crisis Group) التي تمتد لنحو ثلاثة عقود، انتشر فيه المركز البحثي الشهير في 55 دولة حول العالم، أغلبها شهد صراعات وأزمات عملت عليها المجموعة بوصفها منظمة مستقلة غير هادفة للربح، تعتمد في مواردها المالية على الحكومات التي تهتم بالسلام ومنها بعض الحكومات الأوروبية ومؤسسات العمل المدني وكذلك الأفراد.

مجموعة الأزمات تضع ما يجري في قطاع غزة باعتباره “كارثة إنسانية”، تحمل قدر من المعاناة البشرية في مداها الزمني القصير ـ شهرين ـ لم يرها العالم منذ الحرب العالمية الثانية، ربما باستثناء “الإبادة الجماعية” في رواندا. لهذا كانت مجموعة الأزمات من أوائل المؤسسات المدنية ذات الثقل، التي طالبت بضرورة وقف إطلاق النار فورًا، فضلًا عن عديد من الإشارات حول الحصار والتضييق الخانق لقضية المساعدات الإنسانية ووصلها لسكان القطاع. ويبدو أن تقارير أخيرة أصدرتها المجموعة وأهمها إحاطة بعنوان “طريقة للخروج من غزة”، كانت سببا رئيسًا في تعديل وتوازن الموقف الأوروبي مما يجري في القطاع، فهي وإن سلمت فيه بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها وعن أراضيها والصدمة التي كان على إسرائيل مواجهتها. إلا أنها أعربت في المقابل عن قلق بالغ بشأن درجة الانتقام التي تجري عبر العمليات العسكرية، ودفعها لهذا العدد الضخم من السكان (يتجاوز مليون نسمة) للنزوح وترك مدنهم وقراهم، والانتقال للعيش في مخيمات غير مجهزة على الإطلاق.

هذا نموذج مهم للعوائق الأخلاقية والسياسية التي باتت إسرائيل في مواجهتها مؤخرًا، وهي ليست بالهينة فقد ساهمت بشكل مباشر في عديد من تبدلات الموقف الأوروبي، الذي تشكل حكوماته مواقفها السياسية عادة استنادا إلى مثل الرؤى والتقارير، شبه الصادرة عن مجموعة الأزمات الدولية، طالما تأكدت أنها تحوي قدر من التوازن والمصداقية. وهذا التبدل الأوروبي لصالح الحق الفلسطيني؛ عكس نفسه في مواقف دول رئيسية عدة منها إسبانيا وبلجيكا، كما ظهر على نحو لافت في أكثر من تصويت بالأمم المتحدة بمجلس الأمن والجمعية العامة مؤخرا. لكن هناك عوائق ميدانية باتت هي الأخرى تمثل عامل ضغط مؤثر على إسرائيل، فقد أقر الجيش الإسرائيلي على نحو مفاجئ فجر الأربعاء، بمقتل (10 عسكريين) وإصابة 7 آخرين بجراح في المعارك الدائرة شمال قطاع غزة، ويبدو أن جميعهم يحملون رتب الضباط فبينهم قائد فرقة وقائد فصيلة في “لواء جولاني”. تلك المجموعة سقطت في “كمين مسلح” أعقبه اشتباك مخطط من قبل عناصر “كتائب القسام”، كما أعقبه اشتباك آخر في محيط تلك العملية بعد ساعات أعلن عن مقتل عسكريين إضافيين فيه، أحدهما أيضا رتبة قيادية في “لواء يفتاح” في معارك دارت بحي الشجاعية شرق قطاع غزة.

معارك الشجاعية الأخيرة التي امتدت لحي الشيخ رضوان والتوام، من الواضح أنها تكبد الجيش الإسرائيلي خسائر مؤثرة، خاصة بعد أن استخدمت الفصائل الفلسطينية منظومة الصواريخ “رجوم” قصرة المدى في مواجهتها، باستهداف متتالي لمقرات القيادة الميدانية للجيش الإسرائيلي في المحور الجنوبي لمدينة غزة. لذلك خرجت التقارير العسكرية الإسرائيلية؛ لتؤكد أن السيطرة على حي الشجاعية بالخصوص لم يتحقق بعد، وأن الخسائر الأخيرة أثناء محاولة الاستيلاء على منطقة “القصبة” تدل أن وحدات الجيش بعيدة كل البعد عن السيطرة على الحي. فهناك وضع ميداني معقد على ما يبدو من سير العمليات، وحدات لواء الجولاني تجد نفسها مضطرة لتقدم بطيء للغاية، فضلا أن جزءا كبيرا من الوقت تمضيه القوات بانتظار استلام أوامر لاحتلال مناطق إضافية. أثناء تلك الفترات تجد نفسها مضطرة لمواجهة قتال شرس من مسافات قريبة للغاية، في مناطق مزدحمة بالمباني ولا تخلوا من فتحات لأنفاق مموهة بشكل جيد، تسمح للفصائل الفلسطينية بمباغتتها على النحو الذي جرى مساء الثلاثاء وامتد لفجر الأربعاء، في نمط حرب “مدن وشوارع” نموذجية ينخفض معها التفوق النيراني للجيش الإسرائيلي، فضلا عن المعلومات الاستخباراتية التكنولوجية.

هذا النمط العملياتي الذي بدا الجيش الإسرائيلي مضطرًا له طالما هناك إصرار من جانبه، على تنفيذ الأهداف السابق الإعلان عنها المتمثلة في القضاء على قدرات حماس العسكرية وتحرير المحتجزين داخل القطاع بالقوة العسكرية. يدفعه إلى مواجهة عوائق عديدة غير مخطط لها، فهناك تقارير استخباراتية لم تؤكدها بيانات حماس بعد تتعلق بأن عثور الجيش الإسرائيلي على جثتي الرقيب أول “زئيف دادو” والشابة “عيدان زكريا”، ليس بعملية تحرير مبرمجة وإنما هي جثتين سقطتا جراء القصف الإسرائيلي لأحد المواقع السكنية، وأن الفصائل الفلسطينية نفذت إخلاء سريع للمكان لحماية عناصرها وتركت خلفها القتلى الإسرائيليين. القيادة الإسرائيلية في الوقت الذي تبدو فيه غير متعجلة للتوصل إلى صفقة تبادل مع حماس، فهي تخشى طوال الوقت الانتقادات المحتملة التي قد يوجهها إليها الجناح اليميني من الائتلاف، في حال قبل “الكابينت” صفقة أخرى تظهر أنها تنازل لحماس بأي صورة، أو أن تعرقل استمرار التوغل البري الذي يلقى حماسا وتأييدا كاملا من هذا الجناح طوال الوقت. فقد فسر هذا الأخير صفقات الهدن الإنسانية السابقة؛ بأن التبادل كان مصيريا لحماس التي كانت بحاجة إلى بعض الوقت، من أجل إعادة تنظيم صفوفها وتوزيع مقاتليها بخريطة جديدة تمكنها من مواجهة التوغل البري. لهذا ينظر الإسرائيليون إلى أنه في الوقت الذي أصبح شمال قطاع غزة غالبيته تقريبًا تحت سيطرة الجيش، وبعد انسحاب تكتيكي آمن لعدد كبير من مسلحي حماس، فلا تبدو الحركة تعاني جراء ضغط مماثل لما عاشته في بداية الزحف البري.

الذي يؤكد القراءة الإسرائيلية في هذا الأمر؛ وهو أيضًا يشكل أحد العوائق المهمة التي تواجهها، هو ما أكدت عليه حماس مؤخرا من أنه لن يتم إطلاق سراح مخطوفين آخرين إلا في إطار صفقة شاملة، يتم فيها إطلاق سراح جميع الأسرى الفلسطينيين المسجونين في إسرائيل. وباتت الآن متفرغة بشكل كامل؛ لتحسين أوضاعها الميدانية حيث تدرك تمامًا أنها هي الورقة الأهم في تحريك صفقات التبادل، ووزنها على مائدة عمليات التبادل التي تبدو بعيدة كثيرا عن المرات السابقة.

د. خالد عكاشة

المدير العام للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى