روسيا

الموقف الروسي من قضية المناخ.. ما بين الثبات والتغير

في الوقت الذي يئن فيه العالم من تفشي الأوبئة، فضلاً عن اجتياح الحرائق والفيضانات والأعاصير والجفاف لأجزاء كبيرة منه؛ جاءت قمة “جلاسكو” للتغير المناخي بهدف خلق حلول لكل الأزمات المناخية، والمساعدة في خلق حالة من الزخم الدولي بشأن أزمات التغير المناخي. كما كانت القمة بمثابة منصة جيدة لمناقشة تطلعات الدول وأهدافها من أجل التصدي للتغيرات المناخية، ومناقشة القضايا الخلافية في هذا الصدد من أجل الوصول إلى حلول توافقية في نهاية المطاف بين الدول النامية والمتقدمة.

ورغم التوقعات المتشائمة من قِبل البعض –التي سبقت عقد قمة جلاسكو- باحتمالية فشل تلك القمة؛ إلى أن الأمر الإيجابي من تلك القمة يتمثل في الوعي العالي من قبل المسؤولين والسياسيين بمخاطر التغير المناخي، كما أصبحت دبلوماسية المناخ أكثر كثافة وفعًّالية.

على الرغم من ذلك لم يكن التعويل على هذه القمة كبيرًا، إذ أن الإشكالية تكمن في أن سقف الطموحات مرتفع فيما يتعلق بنتائج تلك القمة؛ بينما الواقع أن تحقيق النجاح في المفاوضات لن يكون أمرًا سهلاً، بالنظر إلى عدد من التحديات، من بينها عدم موافقة روسيا بسهولة على الالتزامات الجديدة، واحتمالية تراجع الهند في الاعتماد على الطاقة المتجددة في ظل موجة أزمة الكهرباء وانقطاع التيار الكهربائي بشكل مُستمر في الاّونة الأخيرة، ومن ثم استعداد نيودلهي للتخلص التدريجي من الفحم، وأخيرًا، عدم كفاية تعهدات الصين بشأن الوفاء بالتزاماتها تجاه مكافحة التغيرات المناخية.

وتساءل البعض حول غياب الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” عن حضور قمة تغير المناخ للأمم المتحدة (COP26) في جلاسكو، على الرغم من تأكيد روسيا باستمرار على أن تغير المناخ يعد أحد أهم أولويات سياستها الخارجية. فغياب بوتين عن الوفد الروسي يوضح أن أولوية روسيا ليست مكافحة التغير المناخي بقدر ما تتعلق بتغيير السرد حول السرعة، أو إلى أي مدى يجب أن تقلل الدول من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.

وعلى الرغم من أن روسيا لا تزال رابع أكبر مصدر للغازات المسببة للاحتباس الحراري في العالم، إلا أن مشاركة وفد منها لقمة جلاسكو –رغم غياب بوتين- رأه البعض بمثابة تعبير عن رفضها السابق للمشاركة في قضية تغير المناخ، خاصة بعدما تعهدت مؤخرًا بتحقيق صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2060.

ولكن حتى مع اهتمام الكرملين غير المسبوق بخفض الانبعاثات واستياء الجمهور الروسي من ارتفاع درجة حرارة المناخ بشكل ملموس وما يصاحب ذلك من كوارث طبيعية ، تظل هناك أسئلة جدية حول كيف يمكن لروسيا نزع الكربون عن اقتصادها في الوقت الذي يعتمد فيه الاقتصاد الروسي بشدة على الوقود الأحفوري.

الموقف الروسي من قضية التغير المناخي

في السابق كان النهج الروسي يتجاهل قضية التغير المناخي لعدد من الأسباب من بينها:

  • اعتماد الاقتصاد الروسي بشكل كبير على النفط والغاز الطبيعي والفحم، كما تٌعتبر روسيا أكبر مصدر للغاز الطبيعي في العالم، كما تُمثل مبيعات الوقود الأحفوري 36٪ من ميزانية الدولة. 
  • التحول العالمي بعيدًا عن استخدام الوقود الاحفوري، سُيمثل لروسيا “تهديدًا وجوديًا” وهي التي طالما اعتبرت المنتج الرائد للوقود الأحفوري في العالم.
  • يستورد الاتحاد الأوروبي أكثر من ثلث إمدادته من الغاز الطبيعي من روسيا، ما يُعطي الأخيرة ميزة جيوسياسية كبيرة.
  • لدى الروس استراتيجية اقتصادية واضحة حتى عام 2030، تتمثل في زيادة ضخ الوقود الأحفوري. وبالتالي سيحاولون استخدام كل نفوذهم السياسي والاقتصادي كأداة لإبطاء الانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة من أجل كسب المزيد من الوقت. 
  • تواجه روسيا وضعًا صعبًا في إزالة الكربون، حيث تُعد صناعات استغلال الفحم والغاز والنفط مصدرًا رئيسيًا للوظائف في روسيا، ولم تستثمر الدولة سوى القليل في مصادر الطاقة المتجددة التي يمكن أن توفر أشكالًا بديلة من فرص العمل. كما لا تملك روسيا نفس الدوافع الابتكارية التي جعلت دولاً أخرى مثل الصين تتحول للاعتماد على السيارات الكهربائية والألواح الشمسية.
  • أما السبب الأخير، فيرتبط بالجغرافيا والمناخ. الأمر الذي يزيد من تعقيد هذه القضية، فالطقس الروسي شديد البرودة، وتعتمد روسيا على عشرات الآلاف من الأميال من خطوط الأنابيب لتوصيل غاز التدفئة لسكانها في المناطق النائية، وبالتالي فإن روسيا تحافظ على تدفئة 140 مليون شخص في الشتاء باستخدام الفحم، وبالتالي لن يكون التخلي عن ذلك أمرًا سهلاً.
Russia unveils plan to ′use the advantages′ of climate change | News | DW |  06.01.2020

لكن، في الوقت الراهن، انخرطت روسيا في الجهود العالمية لمكافحة تغير المناخ بعد سنوات من الإنكار. وهذه خطوة مهمة من دولة تُعد أكبر منتجي الوقود الأحفوري في العالم. كما يرى الكرملين أن قضايا المناخ من بين المجالات القليلة للتعاون المحتمل مع الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا بعد سنوات من تدهور العلاقات.

فسر البعض هذا التحول في موقف روسيا حول المناخ بأنه مدفوعًا بالضغط من قِبل أعضاء الدائرة الداخلية في نظام الرئيس “بوتين”، لعدة أسباب منها:

  • السبب الأول: يُنظر لبعض الشخصيات في دائرة بوتين كالسيد “جيرمان جريف” الرئيس التنفيذي لمصرف سبيربنك الحكومي الروسي، والسيد “أناتولي تشوبايس” الرئيس السابق لشركة “روس نانو” الحكومية لتكنولوجيا النانو. على أنهم من أشد أنصار التحول السريع للطاقة الروسية، وذلك بسبب تخوفهم من اعتماد روسيا على الوقود الحفري، فصادرات الوقود تجعله عرضة للتحولات في أسواق الطاقة العالمية.  
  • السبب الثاني: يتمثل التخوف الروسي بشأن تعريفات الكربون التي سيفرضها الاتحاد الأوروبي، والتي من المقرر أن تدخل حيز التنفيذ في عام 2026، ومع اعتماد عمالقة السلع الأساسية الروسية كثيفة الكربون مثل “غازبروم” و “نورنيكل” بشكل كبير على الأسواق الأوروبية، أدى احتمال فرض رسوم جمركية على المناخ إلى تعميق الشعور بالإلحاح الاقتصادي في موسكو، والتحول نحو الطاقة النظيفة.
  • السبب الثالث: يتمثل في التداعيات السلبية من ظاهرة التغير المناخي على موسكو التي شهدت حرائق كثيفة للغابات في سيبيريا والفيضانات الكارثية على ساحل البحر الأسود وذوبان التربة الصقيعية في القطب الشمالي، كل ذلك دفع الرأي العام الروسي لإيلاء اهتمام أكبر والضغط على النخبة الحاكمة من أجل ضرورة التحول نحو الطاقة الخضراء، وهذا الأمر دفع الكرملين للتعامل مع تغير المناخ على محمل الجد.

الجهود الروسية

على الرغم من الجهود العالمية المبذولة للتخلص من انبعاثات الكربون بحلول عام 2050، لمنع درجات الحرارة من الارتفاع لأكثر من 1.5 درجة مئوية؛ حددت روسيا عام  2060 موعدًا للتخلص من الانبعاثات الكربونية. وذلك عندما أعلن الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” على هامش قمة مجموعة العشرين التي انعقدت في مدينة روما بنهاية أكتوبر 2021؛ إن روسيا تخفض انبعاثاتها من الغازات المسببة للاحتباس الحراري بوتيرة أسرع من مجموعة دول مجموعة السبع.

حيث تدرك روسيا المخاطر المترتبة على قضية التغير المناخي، فخلال العقد الماضي ارتفع متوسط درجة الحرارة السنوية في روسيا بنحو 0.5 درجة مئوية، ما جعل روسيا تواجه تهديدات متعددة كالتصحر وتاّكل التربة وذوبان الجليد.

نتيجة لذلك، لعبت روسيا ومازالت دورًا نشطًا في الجهود الدولية فيما يتعلق بمواجهة التغيرات المناخية، فروسيا تُعد إحدى الدول الرائدة في عملية إزالة الكربون في العالم، وعلى مدار العشرين عامًا الماضية، انخفضت كثافة الكربون في عمليات الاقتصاد الروسي بمتوسط ​​2.7٪ سنويًا، وهي نسبة تتفوق بها روسيا على كثير من دول العالم بما فيها الدول السبع الصناعية.

كما تلتزم روسيا باتفاقية باريس للمناخ لعام 2015 وتحرز تقدمًا في خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، وتعمل على تحديث شبكتها وتعزيز كفاءة أكبر في استخدام الطاقة. ووضعت روسيا خطة لخفض انبعاثات الكربون إلى ما دون مستوى الاتحاد الأوروبي بحلول عام 2050. وفي يوليو 2021، وقع الرئيس الروسي تشريعًا يلزم أكبر الشركات في البلاد بالإبلاغ عن انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، كخطوة أولى نحو تنظيم الكربون.

وفي سبتمبر 2021، تم إطلاق ميزانية استراتيجية لإزالة الكربون لمدة عامين. أخيرًا، وعلى هامش قمة العشرين في روما أكتوبر 2021، فاجأ بوتين المراقبين بإلزامه روسيا بهدف الوصول إلى صافي “صفر” من الانبعاثات بحلول عام 2060.

لماذا غاب بوتين عن مؤتمر COP26 ؟

انضم بوتين إلى الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس البرازيلي جايير بولسونارو كزعماء مجموعة العشرين الوحيدين الذين لم يحضروا قمة مجموعة العشرين في روما أو مؤتمر (COP26) في جلاسكو. وأعلن الكرملين أن السبب في عدم حضور الرئيس “بوتين” يتمثل في المخاوف بشأن فيروس كورونا المُستجد.

البعض اعتبر أن مؤتمر ((COP26 أهم مؤتمر للدول الاطراف منذ مؤتمر باريس في عام 2015، وبالتالي فإن إعلان بوتين عدم حضوره المؤتمر دفع البعض الي القول بأن روسيا تبدو غير جادة في التحول نحو الطاقة النظيفة. 

فسر البعض عدم حضور الرئيس “بوتين” مؤتمر جلاسكو، كجزء من استراتيجية الكرملين للضغط على الغرب لرفع العقوبات التي تضر بالتحول الأخضر والاقتصاد الروسي. على سبيل المثال، لا تزال شركة الغاز الروسية المملوكة للدولة “غازبروم” ذات الأغلبية، تخضع لعقوبات بسبب ضم روسيا لشبه جزيرة القرم ودعمها للحرب في أوكرانيا.

انتقادات لروسيا

كان هناك شك واسع النطاق بشأن تغير الموقف الروسي، على الرغم من التزام بوتين في قمة مجموعة العشرين بخفض صافي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في روسيا إلى الصفر بحلول عام 2060.

على الرغم من الجهود الروسية لمواجهة التغير المناخي، إلى أن روسيا تتعرض للعديد من الانتقادات التي تتهمها بالقصور في أخذ هذه القضية على محمل الجد، منها:

  • أن استراتيجية الطاقة الروسية حتى عام 2035، والتي تم تبنيها في عام 2021، تركز على تعزيز استخراج الوقود الأحفوري واستهلاكه، والتصدير إلى بقية العالم. مثل هذا التركيز القوي على زيادة الاعتماد على عائدات الوقود الأحفوري يشكل خطرًا كبيرًا، وهو ما يتعارض مع اتفاقية باريس، التي تنص على خفض درجة الحرارة إلى 1.5 درجة مئوية. وإذا اتبعت جميع الدول نهج روسيا، فقد يصل الاحترار إلى أكثر من 3 درجات مئوية وتصل إلى 4 درجات مئوية.
  • لم توقع موسكو على التعهد العالمي بشأن غاز الميثان، وهي مبادرة تقودها الولايات المتحدة وأوروبا وتهدف إلى تقليل انبعاثات الميثان بنحو الثلث بحلول عام 2030. كما أثارت روسيا اعتراضات على مقترحات الاتحاد الأوروبي الخاصة بفرض ضريبة على حدود الكربون، والتي من شأنها أن تفرض ضريبة على واردات الصلب والألومنيوم والأسمنت والأسمدة والكهرباء كثيفة الكربون. وانتقدها بوتين ووصفها بأنها محاولة لاستخدام “وسائل منافسة غير عادلة”.
  • كما إن سياسة الانبعاثات القائمة على زيادة امتصاص الغابات سوف تتطلب استثمارات ضخمة في حماية وتوسيع 800 مليون هكتار من أراضي الغابات في روسيا، وهي أكبر مساحة من أي بلد آخر. وفي الوقت الحاضر، فإن هذا الاستثمار غائب إلى حد كبير. وما زالت روسيا في مرحلة المساومة لقبول تغير المناخ. إذ أن فرص اتخاذ إجراءات مناخية ذات مغزى من جانب الشركات الروسية لا تزال بعيدة المنال.
  • قامت روسيا العام الماضي  بتوسيع مرافق إنتاج البتروكيماويات، وأطلقت مشروع خط أنابيب جديد وشبكة نقل ستشهد مضاعفة صادرات الفحم والغاز إلى الصين. 
  • لم تصدق روسيا على اتفاق “كيوتيو”لعام 1997، إلا في عام 2004، كما لم تصدق على اتفاقيتي “باريس ” لعام 2015، إلا في عام 2019، وذلك لكسب المزيد من الوقت.

على الرغم من ذلك لا يزال موقف روسيا بشأن المناخ موقفًا حذرًا للغاية، وعلى الرغم من التقدم الذي أحرزته موسكو في هذا المضمار، كان من المتوقع عدم تعهد روسيا بالتزامات جديدة في قمة “جلاسكو” بخلاف ما تم الإعلان عنه من قبل.

وفي الوقت الذي يتوقع أن تتحول روسيا نحو الطاقة النووية والطاقة الكهرومائية على نطاق واسع، مع زيادة التركيز على كفاءة الطاقة والانتقال السريع من الفحم إلى الغاز في قطاعات الطاقة. لكن لن يتخلى لوبي صناعة الوقود الأحفوري في روسيا عن دعم الدولة بين عشية وضحاه.

في كل الأحوال لا يمكن استبعاد روسيا من أي ترتيبات خاصة بقضايا المناخ، إذ سيفوت المجتمع الدولي فرصة كبيرة إذا فشل في الترحيب بروسيا على طاولة المفاوضات وأخذ مواقفها على محمل الجد، فروسيا تمتلك مساحات شاسعة من الغابات، وهي وسيلة مهمة لعزل الكربون.

في الأخير، يُمكن القول إن التغيرات المناخية تلقي بظلالها على دول العالم أجمع –المتقدمة والنامية على حد سواء- ومن ثم، فإن التصدي لتلك التغيرات واحتواء تأثيراتها الكارثية يتطلًّب حلولاً جماعية، وتعاون المجتمع الدولي بأكمله؛ وذلك لأن الجميع سيخسر إذا لم تُبذل الجهود الكافية لمواجهة تداعيات التغيرات المناخية، وفي طليعتها ظاهرة “الاحتباس الحراري”.

+ posts

باحث أول بوحدة الدراسات الأسيوية

أحمد السيد

باحث أول بوحدة الدراسات الأسيوية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى