العراق

الانتخابات العراقية.. نحو فهم مغاير لتحولات الخريطة السياسية في بلاد الرافدين

قدمت تفاعلات ونتائج الانتخابات البرلمانية العراقية العديد من الإجابات على أسئلة بشأن الوضع السياسي في بلاد الرافدين. وشهدت هذه الانتخابات المبكرة زخمًا إعلامياً عربياً ودولياً في مقابل حالة من اللامبالاة وسط مجموعات كبيرة من العراقيين وخاصة الشباب الذي قاد احتجاجات أكتوبر 2019.
حملت الانتخابات العراقية مؤشرات رئيسة لمستقبل البلاد سياسيًا ومقدمات لتفاعلات قد تعيد تشكيل خريطة توازن القوى الداخلية. ومن أبرز تلك المؤشرات: تراجع المشاركة وعزوف الشباب عن التصويت، صعود تيار الزعيم مقتدى الصدر على حساب التكتلات الأخرى في “البيت الشيعي”، تراجع تيار القوى المدعومة من إيران وخاصة تكتل “الفتح” الجناح السياسي لميليشيا “الحشد الشعبي” و”حزب الله”، وأخيراً تبلور حزب “سني” قائد بقيادة محمد الحلبوسي.
مشهد اليوم التالي للانتخابات يطرح عديدا من الإجابات ولكن وضع هذه النتائج معًا في صورة كلية قد يعيد صياغتها، بمعنى أدق فإن رسم الصورة الكلية للمشهد قد تقود لصياغات مغايرة لعدد من الإجابات السائدة في تحليل المشهد السياسي العراقي.

عزوف أم مشاركة “عقلانية”؟

بالأرقام سجلت نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية العراقية النسبة الأقل منذ 2005 بنحو 41% من الناخبين مقابل 44.5% لانتخابات 2018 وأكثر من 64% في 2014. وهو ما دفع المراقبين للحديث على أن الإقبال المنخفض بشكل غير مسبوق على الانتخابات كان بمثابة تعبيراً عن الإحباط وفقدان الثقة في النخبة السياسية والنظام الديمقراطي وعزوف الشباب عن المشاركة، إلى جانب التعبير عن خيبة أمل من النظام الحاكم القائم على أسس المحاصصة الطائفية واستشراء الفساد والنفوذ المتنامي للفصائل المسلحة.
الإجابة السابقة هيمنت على حديث المشاركة في الانتخابات البرلمانية العراقية على قاعدة الفرضية الكلاسيكية وهي أن تراجع نسب التصويت تعني تراجع الثقة في النظام السياسي وهي الفرضية التي تهيمن على مدارس المشاركة السياسية. ولكن في المقابل، فإن البعض يطرح فرضيات مغايرة تقوم على أن “تراجع التصويت في الدول التي يهيمن عليها الشباب بسبب انخفاض رغبة الفئات الأصغر سناً في المشاركة السياسية الكلاسيكية”، إلى جانب طرح فرضية أخرى هي إن “تراجع معدل المخاطر من عدم التصويت يدفع إلى عزوف كتل ضخمة عن الذهاب لصندوق الانتخابات”، واخيرًأ أن انخفاض معدلات المشاركة يحمل معه هيمنة “المشاركة العقلانية” لمن هم أكثر قدرة على تحديد الاختيار على قاعدة “التصويت العقلاني” على حساب المجموعات التي تقودها نزعات عاطفية أو تحدد توجهاتها في اللحظة الأخيرة من التصويت.
إن المشاركة في الانتخابات البرلمانية العراقية تحمل معها الجدل بشأن هذه الفرضيات الخاصة بنسب التصويت. فلا يمكن لأحد أن يغفل غياب الشباب الذي مثل وقود احتجاجات “تشرين” عن المشهد الانتخابي ووجود حالة من الإحباط من النخب السياسية في بلاد الرافدين وفشل النظام الانتخابي الجديد في نزع سطوة الأحزاب والتكتلاات الطائفية والعرقية على المشهد. ولكن فإن العراق يمثل حالة مثالية لتطبيق فرضية تراجع نسب المشاركة مع ارتفاع وزن الشباب في الهيئة الناخبة. فوفقاً للبيانات فإن الشباب (18 – 29 عامًا) نحو 18% من إجمالي السكان وحوالي 30% من الكتلة الانتخابية. وترى مدارس للمشاركة الانتخابية أن فرصة مشاركة الناخب للمرة الأولى تنخفض بشدة وربما تنعدم في أول عملية انتخابية. والناخب للمرة الأولى هو الشاب الذي تجاوز عمر 18 عاماً في السنوات بين الانتخابات السابقة والانتخابات الراهنة. وهي كتلة يصل عددها في العراق نحو 5% من الكتلة الانتخابية وتعد من أكبر النسب العالمية بسبب مرور المجتمع العراقي بما يطلق عليه ديموجرافياً “الطفرة الشبابية”.
وبحسب هذه الفرضية فإن المشهد الانتخابي في العالم يهيمن عليه اليوم كبار السن ومن هم فوق 50 عاماً على حساب الأصغر سنًا. وهي كتلة لا تزيد عن 12.5% من الهيئة الانتخابية بالعراق.
وبالتوازي، فإن الانتخابات شهدت تراجع المشاركة في أغلب المناطق وليس عزوفًا في مناطق بعينها كما كان الوضع في الحيز “السني” في 2014 و2018. وشهدت الانتخابات أيضًا مؤشرات لفرضية “المشاركة العقلانية”، حيث لم يتحدث المراقبين في المناطق التي يهيمن عليها الفصائل المسلحة “الشيعية” وخاصة “الحشد الشعبي” عن عمليات تصويت جماعي إلى جانب تراجع مشاهد الحشد قرب مراكز الاقتراع. وهنا يجب الالتفات إلى أن الإجراءات الجديدة لعملية التصويت الإلكتروني والحيلولة لمنع التزوير على نطاق واسع يخفض في بلدان العالم النامي نسب المشاركة تقليدياً، حيث تتراجع قدرات الأكثر نفوذاً وسطوة ومالاً في الدفع بأصوات “غير حقيقية” في صناديق الانتخابات.
القول إن نسبة مشاركة 41% في الانتخابات البرلمانية العراقية يمثل تعبيرًا عن “حالة اللامبالاة” ورفض العملية السياسية والنخب الحالية بمثابة مبالغات لها “صبغة إعلامية” هيمنت على الحديث بشأن هذه الانتخابات. ويجب التوقف قليلًا عند التعاطي معها كـ”مطلق” أو “ثابت” للفرضيات الخاصة بالحالة السياسية العراقية. فلم نصل بعد إلى حالة الانقطاع بين “الشارع” و”القصر” في الوضع العراقي كما هو في العديد من بلدان العالم النامي. وبالتالي استنتاجات من قبيل أننا أمام نخب لا تستحوذ على ثقة الجماهير وأننا امام سلطة تواجه أزمة شرعية ما هي إلا تعبير عن قفزات خارج الواقع السياسي لصالح صورة ذهنية يحاول البعض فرضها “قسراً” على الواقع في بلاد الرافدين.

صعود الصدر: التوافق السياسي الممكن

“العراق أمام مرحلة من عدم التوافق والانقسامات السياسية”، هذه الفرضية هيمنت على التحليلات الخاصة بنتائج الانتخابات البرلمانية. في المقابل، فإن الصورة الكلية تدعم افتراض أن النتائج تصب في صالح عودة التوافق السياسي، وربما كان محور هذا التوافق هو صعود تيار الزعيم الشيعي مقتدى الصدر “سائرون” وحصوله على 73 مقعداً (22%) من إجمالي المقاعد الـ 329 مقابل 54 مقعداً في برلمان 2018.
إن الصدر الذي أعلن عن “النصر للإصلاح” في الانتخابات، يبدو شخصية سياسية جدلية في الساحة العراقية، فهو يحمل مواقف واضحة ضد النفوذ الإيراني والأميركي في البلاد ورغم أنه كان من الداعين لـ”المقاومة المسلحة” ودفع نحو تشكيل الميليشيات في العقد الأول من القرن الحالي، إلا أنه أصبح أحد أبرز المعارضين للتشكيلات المسلحة في البلاد ويمثل “الخصم الرئيسي” لميليشيا “الحشد الشعبي” وتيار “الفتح” المقرب من إيران.
إن تحولات الصدر السياسية خلال السنوات العشر الماضية تمثل تعبيراً عن تغيرات في الشارع “الشيعي”، الذي بدأ يدرك صعوبة فرض سيناريو “الهيمنة ” و”القيادة المنفردة” لعراق ما بعد صدام حسين. وهو ما دفع الصدر ومعه المرجعية السيستانية في تبني خطابًا تصالحياً يدافع عن الدولة الوطنية ورفض “الفعل المنفلت” للميليشيات الشيعية المدعومة من إيران وخاصة “الحشد الشعبي” و”حزب الله”.
إن هذا التيار الشيعي التوافقي برز بقوة منذ 2012، ولكن هذا الصعود عرقله ظهور “داعش” ودور ميليشيات “الحشد” في هزيمة التنظيم المتطرف عام 2017، مما أفرز تقارب بين “سائرون” و”الفتح” في انتخابات 2018. ولكن مع نهاية تهديد “داعش” وعلى خلفية احتجاجات تشرين وانتهاكات الميليشيات الشيعية في حق المتظاهرين والنشطاء، فإن التيار “الصدري” استعاد نفوذه في “الشارع الشيعي” الباحث عن معادلة “القيادة والتعايش”.
صعود تيار الصدر جاء على حساب “الفتح” والذي جعل الثاني متمثلاً في زعيمه الهادي العامري يتحدث عن “فبركة” في نتائج العملية الانتخابية بل أن “حزب الله” المتشدد خارج تماماً عن الخريطة البرلمانية. وبالتالي فإن الصدر أصبح لديه الكلمة العليا في اختيار رئيس الحكومة الجديد وتبدو قدراته على التفاض مع الكتلة الثانية في “البيت الشيعي” وهي تحالف “دولة القانون” بقيادة رئيس الحكومة السابق نوري المالكي (37 مقعداً). فرغم قرب المالكي من إيران إلا أنه خبراته البيروقراطية وقيادته للحكومة في وقت سابق تجعله مؤهلاً للاقتراب من الخطاب الصدري بغية الحصول على مكتسبات داخل الحكومة وفي الشارع العراقي وتبدو عقلانية المالكي عاملاً مرجحاً دون الاحتشاد بتحالفه البرلماني خلف خطاب تحالف “الفتح” المتشدد.
إلى جانب سهولة التوافقات نسبياً داخل “البيت الشيعي”، فغن صعود تحالف “تقدم” النسي بقيادة رئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي وحصوله على 40 مقعداً بمثابة متغير إيجابي، حيث يدفع نحو تقليص معامل “التفتت” دخل الكتلة السنية نحو صناعة كتلة كبرى لا ترى إشكالية كبرى في التوافق مع الصدر حول تشكيل الحكومة.
إن فرضية إمكانية التوافق السياسي تدعمها استقرار الكتلة الكردية بهيمنة الحزب الديمقراطي الكردستاني الذيي عزز موقعه بالحصول على 32 مقعداً واستمرار معادلة الحزب الكبير ومعه الحزب الأصغر وهو الاتحاد الوطني الكردستاني الذي حصل على 15 مقعداً، وهو ما سيفرز استمرارية للتوزيعة الحالية من المناصب دون ارباك للخريطة بطرح سيناريو “الرئيس السني” أو مواجهة صعوبات مع الانقسامات الكردية “الحادة”، كما تحدث البعض قبل الانتخابات.
إجمالًا، فإن نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية قد لا تصب في صالح “أوهام” البعض بشأن تغير الخرطية السياسية وصعود التيار المدني على حساب النخب التقليدية والمحاصصة الطائفية. ولكنها تبدو مقدمة لخريطة سياسية أكثر توازناً تحمل أغلبية واضحة تدافع عن الدولة الوطنية وترفض انفلات الميليشيات المسلحة. ولكن قدرة التركيبة الجديدة على النجاح ستعتمد بالأساس على نجاحها في صناعة مشروع اقتصادي وتنموي للعراق قادر على خلق الوظائف ومحاربة الفساد وكبح جموح التدخلات الإيرانية في الساحة الداخلية مع الاحتفاظ بمساحة من المناورة. فالبعض هنا قد يطالب الحكومة العراقية الجديدة فوق طاقتها فهي لن تقطع الخيط مع الجار الإيراني كما أنها لن تكون تحت الضغوط الأمريكية. وبالتالي فإن التعامل مع “الممكن” الجديد في العراق قد يدفع نحو البدء في طريق مازال طويلاً لبناء قاعدة للاستقرار والتنمية والحيلولة دون العودة للمربع صفر بسيناريوهات “الحرب الأهلية” والتقسيم على أساس طائفي وعودة “داعش”.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى