مقالات رأي

د. محمد حسين أبوالحسن يكتب : الجيش المصري.. و«التوازن الاستراتيجي»

ارتهن وجود مصر بقوة جيشها، منذ جمع الملك مينا بين نسر الوجه القبلى وثعبان الوجه البحري؛ مدّ ظلها فى الجغرافيا والتاريخ، بقوته تنامت وتفردت فى حضورها وإشعاعها- ونكباتها أحيانا- بوصفها أقدم دولة/حضارة فى العالم، أبرزت تلك المعادلة عبقرية شخصية مصر فى (الزمكان) الإنساني؛ وترسخ فى العقل والوجدان المصري أن لا قيام لدولة على أرض الكنانة ولا بقاء لقوامها، من دون مؤسسة عسكرية تحوز أسباب القوة. الشواهد كثيرة: منذ أحمس وتحتمس، مرورا بصلاح الدين وقطز، وصولا لبانى مصر الحديثة (الضابط الألبانى) محمد على باشا، ومؤسس جمهوريتها مع (الضباط الأحرار) الزعيم جمال عبدالناصر، وصولا إلى ملحمة العبور فى أكتوبر 1973، ثم نهوض القوات المسلحة بواجبها الدستوري والأخلاقي فى 30 يونيو 2013، حماية للوطن من الفوضى والانهيار.
مصر رمانة ميزان الشرق الأوسط وما حوله، قوتها الشاملة، سياسيا واقتصاديا وعسكريا (ضرورة) لاستقرار المنطقة؛ لكن أطرافا إقليمية ودولية تنزعج من تنامى قوة المحروسة، تحاول تهديد مصالحها وإشغالها بالأزمات من كل صوب، لإنهاك جيشها, حتى تنكفئ داخل حدودها، تجتر أوجاعها على مقاعد التبعية؛ مثلما أجهضت الأطماع الاستعمارية الغربية تجربتى محمد على وعبدالناصر النهضويتين، دون إغفال عوامل القصور الداخلية فى كلتا التجربتين.
إنها تيمة حزينة متكررة فى تاريخنا، كل الامبراطوريات سعت لاحتلال مصر, أو السيطرة على قرارها، ترى القوى الكبرى أن مصر أخطر من أن (تُترك للمصريين)، نظرة انتهازية تنبع من استعلاء تاريخى معرفي؛ تلخصها مقولة الفيلسوف الفرنسى رينان: مصر ليست أمة، إنها مدار رهان، تكون تارة مكافأة لعملية سيطرة (احتلال)، وتكون تارة أخرى عقابا على طموح لم يحسن تقدير قوته، وعندما يكون لبلد وأناس دور يطاول المصالح العامة للإنسانية؛ فإنه سيُضحى بهم؛ لهذا ستكون مصر محكومة على الدوام، من قبل مجموع الأمم المتحضرة!. بينما قال ريفرز ويلسون وزير المالية (الانجليزي) فى حكومة نوبار باشا: لقد كان ظهور الجيش المصرى المفاجئ على الساحة السياسية أسوأ ما حدث فى القرن التاسع عشر. إن العقل الاستعمارى يعتبر حضور جيش الكنانة، على مسرح الأحداث فى هذه المنطقة التى تمثل قلب العالم، تهديدا لا يمكن التسامح معه، ليس فى القرن التاسع عشر فحسب، بل فى العشرين والحادى والعشرين أيضا، انظر إلى الخريطة، تحيط الحرائق بمصر من كل اتجاه: إثيوبيا وفلسطين وليبيا وسوريا والعراق واليمن والصومال وغيرها، بفعل فاعل، ناهيك عن إرهاب تجار الدين بالداخل.
ليست القوى الكبرى وحدها من تفعل ذلك، أقامت إسرائيل، فى عام 1959، تحالفا سريا (الرمح الثلاثى)، ضم تركيا وإيران وإثيوبيا، بمباركة أمريكية، للهيمنة على الفضاء العربى وشد أطراف دوله وتمزيقها إذا لزم الأمر، كردة فعل على وجود مصر قوة مهيمنة عربيا ومؤثرة عالميا، ومازالت مفرزات هذا التحالف تتسع يوما بعد يوم، مستغلة حالة الوهن العربي.
إن مستقبل المنطقة مرهون بقدرة شعوبها على التصدى للأطماع الإقليمية والدولية، وهذا سبب كاف كى تواصل مصر تطوير قواتها المسلحة، دون ملل أو كلل أو سقف، قد نختلف مع بعض السياسات المتبعة حاليا فى بعض الملفات، لكن المؤكد أن المصريين يتفقون تماما مع توجهات الرئيس السيسى فى أمور، أهمها إعادة بناء الجيش وتحديث ترسانته، كما ونوعا، بأرقى نظم التسليح؛ حتى انتزع مرتبة متقدمة بين أقوى جيوش العالم؛ فأعاد التوازن الاستراتيجى بالمنطقة وسط تحديات قاسية، ولذلك أعتقد أن الطفرة الهائلة فى قوة نيران الجيش المصرى هى أهم مشروع قومى حاليا.
تشتعل المعارك وتخمد، وقد تترك خدوشا أو جروحا، لكن الشعوب فى أوان وعيها تلامس المعجزات، مثلما جرى فى أكتوبر أو المعركة الدائرة على الإرهاب أو فى الاصطفاف خلف القيادة السياسية، فى أزمة السد الإثيوبي. ذلك أن طموحات البشر للأمن والحرية والعدل والازدهار تصوغ للمجتمعات أهدافها الرئيسية، وتيارات التاريخ تعطى لأفراد بعينهم، فى لحظات حاسمة من عمر الأوطان، فرصة كى تتحول الأهداف إلى حقائق؛ لو امتلكوا كفاءة وشجاعة الإمساك باللحظة ولم يفلتوها. أما الدول التى تفتقر لوعى شعبها وقوة جيشها فإنها تعانى تبدلات مأساوية، يجرى تفكيكها من الداخل أو احتلالها من الخارج، ويخرج أهلها بقسوة الإكراه من مسرح التاريخ، مشردى الروح والعقل.
كل التحية لخير أجناد الأرض فى يوم النصر!.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى