
د. محمد حسين أبو الحسن يكتب : مصر وسوء النية الإثيوبية!
إن هذا السلوك الفج لا يعكس فقط انعدام المسئولية لدى الجانب الإثيوبي، وعدم المبالاة تجاه الضرر الذى قد يلحقه ملء هذا السد على مصر والسودان، ولكنه يجسد أيضا سوء النية الإثيوبية، والجنوح لفرض الأمر الواقع على دولتى المصب
كانت تلك كلمات سامح شكري وزير الخارجية أمام جلسة مجلس الأمن حول السد الإثيوبي، وبعدها بنحو ثلاثة أشهر، تمخض «المجلس» فولد «بيانا رئاسيا»؛ بعدما عجز عن إصدار قرار، جاء البيان فضفاضا مائعا أراد أن يرضى جميع الأطراف، وكاد يتنصل من المسئولية التى تليق بخطورة قضية السد على الأمن والسلم الإقليمي والدولي، مشيرا إلى أن قضايا المياه تقع خارج نطاق صلاحياته!.
كشف البيان عن أن قوى نافذة فى المجتمع الدولي، ترى أن انخفاض حصة مصر المائية أهون من انفراط عقد الدولة الإثيوبية وتمزقها، دون أن تدرك أن السبب واحد فى الكارثتين: تعطيش مصر أو تشظى إثيوبيا. ألا وهو تعنت حكومة آبى أحمد ومن ورائه زمرة الأمهرة الحاكمة فى أديس أبابا، وإصرارها على انتزاع حقوق مصر والسودان فى النيل، بموازاة إقصاء وتهميش- وتقتيل إذا لزم الأمر- بقية القوميات المكونة للنسيج الإثيوبي الذى أوشك على الاهتراء تماما، فى ظل الحرب الأهلية العاصفة، تدعم أطراف إقليمية ودولية آبى أحمد، فى إطار لعبة الأمم الراهنة، على رقعة الشطرنج العالمية، لتفكيك الصفائح التكتونية لخريطة التوازنات الاستراتيجية فى القرن الإفريقى لمصلحة أطراف بعينها، وعلى غير مصلحة شعوبها.
يحاول حكام إثيوبيا تربيع الدائرة، وهو تعبير يشير إلى الاستحالة الكلاسيكية فى الرياضيات، ويطلق على من يستمر فى محاولة فعل المستحيل بلا جدوي، على الرغم من أن الحقائق الواقعية تدل على العكس، لكن فى الرياضيات، يتم تحويل الاستحالات إلى افتراضات قابلة للتحقق، من خلال تغيير السياق أو طرح احتمالات، أما مفاوضات سد النهضة فقد سلكت مسارا عقيما، كمباراة كرة بلا قوانين، طوال عشر سنوات، ولا يمكن القبول بتكراره على ذات النهج والصورة، وإلا وصلنا إلى نفس النتائج، ووجدنا أنفسنا أمام الملء الثالث، برعاية الاتحاد الإفريقى الأصم، ومن ثمّ لا مفر من تغيير السياق، وتعديل المجريات وفقا لموازين القوى بين الأطراف، وبحثا عن التعاون، دون تفريط فى الحقوق، كيف؟.. هذا وقت أسئلة كيبلينج الستة: من وأين وكيف ومتى ماذا ولماذا؟، بغية تربيع الدائرة حول السد الإثيوبي أو إغلاقها إذا تعذر الأمر.
لقد اعتبرت إثيوبيا بيان مجلس الأمن انتصارا لها، لأنه أعاد التفاوض تحت مظلة الاتحاد الإفريقى الذى كان فشله الذريع سببا مباشرا فى لجوء دولتي المصب إلى مجلس الأمن، وكعادتها فى اللوع والاستفزاز أكدت إثيوبيا أنها لن تعترف بأى مطالب قد تثار على أساس البيان، وقفزت إلى الأمام محرضة بقية دول حوض النيل على القاهرة والخرطوم، بهدف تشعيب القضايا واستهلاك الوقت، وصولا إلى الملء الثالث، وهى استراتيجية أثبتت نجاعتها بالنسبة لأديس أبابا، لكن ستائر الدخان الكثيفة لم تخف هشاشة موقفها ورفضها المشاركة فى تشغيل السد أو تقديم دراسات عن سلامته وتأثيراته البيئية والاقتصادية والاجتماعية. بينما اعتبر السودان البيان ثمرة لتحركات دبلوماسية ناجحة، خاصة أنه يعطى للمراقبين دورا أكبر فى تيسير التفاوض، مشيرا إلى أن المعلومات الإثيوبية الخاطئة سببت له أضرارا فادحة. بينما رحبت مصر بالبيان؛ بوصفه دعوة لاتفاق ملزم حول ملء وتشغيل السد، فى إطار زمنى معقول.
يصعب عليّ تصور الترحيب المصري، بالبيان، دون وجود تطمينات دولية، حول الوصول لاتفاق مرض لجميع الأطراف، دون إضرار بالآخرين. لاتزال القاهرة تعتمد بكثافة على الدبلوماسية، لإبقاء القضية حية على سطح الاهتمام الدولي، دون استبعاد الخيارات الأخرى، حال فشل الدبلوماسية، لكن الأمر يحتاج حتما لصوغ استراتيجيات جديدة، عما سبق، بحثا عن الثقة المفقودة بين الأطراف الثلاثة، واستثمارالتباين التكاملى بين مصالح إثيوبيا ودولتى المصب، ليكون محركا أو مفتاحا لحل الأزمة، بأن يستشف كل طرف أين تكمن مصالح الطرف الآخر، ثم ينسجها فى صلب مصالحه؛ وصولا إلى اتفاق متوازن، فمثلا يمكن إعطاء حصة مياه لإثيوبيا عن طريق مشروعات استقطاب فواقد المياه بتمويل إقليمى ودولي، وهكذا، مع وضع كل الخيارات الأخرى فوق الطاولة بوضوح أشد.
نقلا عن صحيفة الأهرام