مقالات رأي

ثورة الوعي.. وإعادة بناء المجتمع

الحروب الإعلامية وعمليات تزييف الوعي ونشر الشائعات وإضعاف الحالة المعنوية للشعوب والخصوم ليست وليدة القرن الحادي والعشرين، بل موجودة ومتعارف عليها منذ فجر التاريخ، وأخذت أشكالًا وأنماطًا مختلفة وفقًا لمعطيات وأدوات كل عصر.

في الحربين العالميتين الأولى والثانية وفى الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي التي انتهت بانهيار الاتحاد وتقسيمه لعدة دول، كانت الأدوات الإعلامية والصحفية والثقافية والإذاعات الموجهة والمنشورات وتشويه الخصوم وماكينة نشر الشائعات من أهم الأسباب التي جعلت المعسكر الغربي الذى تتزعمه أمريكا ينتصر في هذه الحروب؛ فسكان ألمانيا الشرقية حين حطموا في نوفمبر ١٩٨٩ “جدار برلين” الذى كان يسمى “الستار الحديدي”، كانوا مدفوعين بكره شديد للشيوعية، وهو ما يعنى أن المعارك الثقافية وحرب الكلمات التي وجهت من الغرب للاتحاد السوفيتي كانت أقوى من القنابل النووية، لأنها أحدثت انفجارًا اجتماعيًا من الداخل أفضى في النهاية إلى الانهيار والتقسيم.

الدول والمجتمعات في عصرنا الحالي، أصبح لديها إدراك بخطورة هذا النوع من الحروب على مصالحها وحتى وجودها خاصة في عصر ثورة الاتصالات والمعلومات وتكنولوجيا التواصل التي خلقت لدول وشركات وجماعات، وحتى شخصيات، قدرات للتأثير المعنوي وتزييف الوعي لمجتمعات وتأليبها على بعضها البعض في أي مكان على سطح الأرض.

مصر بالتأكيد لم تكن بعيدة عن هذا النوع من الحروب، فلو أخذنا على سبيل المثال الفترة من ثورة الثلاثين من يونيو ٢٠١٣ إلى اليوم، سنجد أن حروب تزييف الوعي ونشر الشائعات أخذت أشكالًا مختلفة، لكن في نفس الوقت ستكتشف أن الدولة المصرية تعاملت أيضًا مع هذه الحروب بشكل استراتيجي مدروس، نتج عنه في النهاية انتصارها في معركة الوعي ونجاحها في إضعاف وكسر من كانوا يقومون على هذه العدائيات أو تحييدهم، سواء كانوا في الخارج أو الداخل.

خلال مرحلة تثبيت أركان الدولة التي استمرت ثلاث سنوات من ٢٠١٣ إلى ٢٠١٦ ومنعها من السقوط، واجهت مصر، حكومة وشعبًا، حرب شائعات وتزييف وعي لم نشهدها في تاريخنا، كانت مئات الشاشات والميكروفونات والمنصات الرقمية تعمل ليلًا ونهارًا على تزييف الوعي الجمعي عن حقيقة ما حدث في مصر، من أنه انقلاب وليس ثورة، ونشر قصص وتقارير مدفوعة ومظلوميات كاذبة عن تنظيم الإخوان الإرهابي، وحرب شائعات طاحنة أنفقت عليها ملايين الدولارات لإضعاف ثقة المصريين في قياداتهم وفى مؤسساتهم خاصة حملات التشويه التي كانت تستهدف، عن عمد، المؤسسة العسكرية ووزارة الداخلية المصرية.

كان رد فعل الإدارة المصرية خلال هذه المرحلة من تثبيت أركان الدولة، العمل بهدوء وبذكاء لإعادة بناء المؤسسات وتعظيم قدراتها، واسترجاع قوة أدوات التأثير المصري في الإعلام والصحافة والفن، وهي وسائل فاعلة في عملية تشكيل «الوعي المجتمعي» وتحصينه ضد حروب التزييف والشائعات. ومع شراسة الحروب المعلوماتية التي كنا نواجهها لم يكن أمام الدولة حل سوى الدخول بكل ثقلها في عملية الإشراف على إعادة تطوير المؤسسات الإعلامية والصحفية والإنتاج الدرامي والسينمائي، وتعظيم وجود الوزارات والهيئات والشخصيات الرسمية على المنصات الرقمية، لتوفير كل المعلومات عن أي نشاط تقوم به الدولة، وعدم ترك المجال العام لأي فراغ يدفع الإعلام والخطاب المعادي لملئه.

الرئيس السيسي، منذ توليه السلطة، كانت له أحاديث وتصريحات كثيرة حول أهمية معركة بناء الوعي الجمعي للمصريين وتحصينه، فخلال كلمة له في أكتوبر ٢٠١٨ في الندوة التثقيفية الـ٢٩ للقوات المسلحة، أكد خلالها أن «الوعي المنقوص والمزيف هو العدو الحقيقي، وإذا كنا مهتمين بحفظ البلد وحمايته يجب أن ندرك الصورة الكلية للواقع الذي نعيشه». السيسي لديه إدراك حقيقي بخطورة معركة الوعي، أي نعم إننا نجحنا بالفعل في «استعادة الدولة المصرية»، لكن الأهم حاليًا هو ضمان وعي مستدام للجبهة الداخلية من أي اختراقات خارجية مرة أخرى، والوعي المستدام هنا سيكون مقرونًا، كما أكد السيسي خلال مداخلته الهاتفية في منتصف سبتمبر الجاري مع التليفزيون المصري، بتعزيز «العقلية النقدية» للمصريين، وتحقيق ذلك لن يكون سوى بالبناء العملي في المدارس والجامعات والإعلام والأسرة والمسجد والكنيسة والمعبد، المنوط بها جميعًا تخريج وتربية أجيال قادرة على التفكير السليم والموضوعي في أي قضايا وملفات تخص حاضرهم ومستقبلهم.

+ posts

مدير المرصد المصري

محمد مرعي

مدير المرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى