
“الدرونز” الإثيوبية بين التأويلات والواقع الميداني
كثير من الجدل أثارته زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد إلى قاعدة “سيميرا” الجوية في إقليم عفر شمال شرق البلاد منذ يومين، فهذه الزيارة تأتي بالتزامن مع انتقال المعارك في إقليم تيجراي المجاور إلى إقليم أمهرا وإلى التخوم الغربية والجنوبية الغربي لإقليم عفر.
إلا أن النقطة الأكثر إثارة للجدل في هذه الزيارة، لم تكن مثلًا أنها تضمنت استعراضًا للقدرات القتالية الجوية لسلاح الجو الإثيوبي -بالنظر إلى أن الزيارة كانت لقاعدة جوية- لكنها تمثلت في ظهور طائرة دون طيار ضمن الصور التي تم التقاطها خلال الزيارة، وكذلك زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي لوحدة متنقلة يُعتقد أنها خاصة بالتحكم بالطائرات دون طيار. هذه الصور التي كان من الواضح أن الغرض الأساسي منها هو إثارة الجدل متعدد الأوجه، حول ماهية هذه الطائرة ونوعها وبلد منشأها، والإيحاء بأن أطرافًا دولية قد دخلت على خط دعم الجيش الإثيوبي في جبهات القتال المفتوحة في عدة أقاليم داخل البلاد، فما هي حقيقة الأمر، وما هي القدرات التي يمكن أن تقدمها الطائرات بدون طيار للجيش الإثيوبي المتراجع في الشمال؟
قصة “الدرونز” الإثيوبية
بدأ اهتمام أديس أبابا بامتلاك “درونز” للأغراض العسكرية عام 2011، وتحديدًا في شهر أبريل، حين عقد الجيش الإثيوبي مع إحدى الشركات الإسرائيلية المتخصصة في إنتاج “الدرونز” صغيرة الحجم المخصصة للاستخدامات المدنية والعسكرية، وهي شركة “بلوبيرد” للأنظمة الجوية، عقدًا تزود بموجبه بعدة “درونز” استطلاعية قصيرة المدى من نوعي “سباي لايت” و”بوميرنغ”، وقد تضمنت هذه الصفقة أيضًا بنودًا خاصة بإقامة منشأة لصيانة هذه الدرونز، وبنودًا أخرى خاصة بنقل تكنولوجيا التصنيع إلى المؤسسات الصناعية الإثيوبية.
تفاصيل هذا العقد، خاصة فيما يتعلق بأعداد “الدرونز” التي تم التعاقد عليها لم تتضح حتى الآن، وكان هناك حرص واضح من جانب الشركة الإسرائيلية على عدم الإفصاح عن هذه التفاصيل بشكل كامل، لكن بشكل عام يعد كلا النوعين اللذين تم التعاقد عليهما من فئة “الدرونز” التكتيكية قصيرة المدى، التي تقوم باستطلاع محيط القوات المتقدمة أثناء تحركها، ويصل مدى “درون” “سباي لايت” إلى 35 كيلو متر، وحمولتها القصوى 1 كجم، وتستطيع التحليق لمدة قصوى تصل إلى ثلاث ساعات ونصف، في حين تستطيع درون “بوميرنغ” حمل اثنين كيلو ونصف من المعدات، وتستطيع الطيران لمدة عشر ساعات، وكلا النوعين يتم إقلاعه يدويًا عن طريق منصة إطلاق.
دخول إثيوبيا مرحلة “استنساخ الدرونز”
منذ ذلك التوقيت، استعانت أديس أبابا بتكنولوجيا التصنيع التي زودتها بها الشركات الإسرائيلية، وبدأت في محاولة تصنيع “درونز” استطلاعية بناء على تصميمات تم تطبيقها سابقًا في “درونز” تصنعها دول أخرى. عمليات التطوير والتصنيع تمت في مصنع “ديجين” وهو مصنع متخصص بشكل أساسي في عمليات تعمير وصيانة طائرات سلاح الجو الإثيوبي، لكن خلال السنوات الأخيرة أضيف إلى نشاطه تصنيع بعض مكونات الدرونز، بحيث يتم استيراد بعض القطع ذات التكنولوجيا العالية من الشركات الصينية، ومن ثم إكمال تجميع هذه القطع على المكونات التي تم تصنيعها محليًا.
تم الكشف عن باكورة عمليات التصنيع هذه في فبراير 2013، حيث أعلنت السلطات الإثيوبية عن نجاح هذا المصنع في إنتاج أول درون مصنع محليًا تحت اسم “MDAV-1″، والذي هو في الحقيقة نسخة مصغرة من الدرون الإسرائيلية “فوربوست” التي تنتجها شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية. يعمل هذا النوع بمحرك كهربائي يعطي له حد أقصى ساعتين من التحليق المستمر، ويبلغ عرض جناحيه ثلاثة أمتار، وطوله الكلي نحو متر و20 سنتيمتر، ووزنه الكلي يصل إلى تسعة كيلو جرامات. يلاحظ هنا أن عمليات التطوير تضمنت في البداية تصميمًا لذيل “الدرون” مختلف عن التصميم الأخير الذي تم اعتماده، ويشبه إلى حد بعيد ذيل “الدرون” التركية “بيرقدار”.
هذه “الدرون” تنتمي إلى فئة “الطائرات الهدفية” أي التي تستخدم لأغراض تدريب وحدات الدفاع الجوي، ولا تمتلك أية قدرات استطلاعية أو قتالية، وهذا الواقع يعاكس ما أعلنته السلطات الإثيوبية حينها، عن أنها مجهزة بكاميرات حرارية وأجهزة استشعار، وعن أنها تمتلك إمكانيات كبيرة في مجال مراقبة الحدود والمسح الجيوفيزيائي، وقد ظهر بشكل واضح أن الإعلان عن هذا النوع من الدرون “الهدفي” كان بشكل أساسي مرتبط بملف سد النهضة، نظرًا لأن السلطات الإثيوبية أعلنت حينها أنها نفذت باستخدام هذه “الدرون” تحليقات تجريبية لإجراء مسوح جيوفيزيائية لمحيط السد.
في مارس 2014، كشف مصنع “ديجين” عن نموذج كبير الأبعاد لـ”درون” تم تجميعها محليًا، مزودة بحاضن أمامي للاستطلاع من إنتاج شركة “زيروتيك” الصينية، لكن لم تظهر هذه “الدرون” بعد ذلك على الإطلاق، ولم تتوفر أدلة واضحة على أن عمليات تجميعها قد انتهت، وأنها أصبحت صالحة للتحليق، لكن الملاحظة الأهم هنا أن تصميمها مطابق لتصميم “الدرون” الأمريكية “أم كيو-9 ريبر”.
في عام 2018، أعلنت وزارة العلوم والتكنولوجيا الإثيوبية، أنها نجحت في تطوير أول “درون” استطلاعية محلية الصنع، مزودة بتكنولوجيا صينية من خلالها يتم الإقلاع عموديًا بنفس طريق تحليق المروحيات، ومن ثم في الجو يتم تحويل طريقة التحليق لتصبح عن طريق مروحة توجيه أفقية، ويعد هذا النموذج هو الوحيد الذي توجد دلائل مصورة على نجاح تحليقه، لكنه كما النماذج السابقة، لم يكن مزودًا بأي حواضن للاستطلاع.
في نوفمبر 2020، وفي خضم العمليات العسكرية في إقليم تيجراي، ظهر في قاعدة “هرار ميدا” الجوية جنوبي شرق العاصمة الإثيوبية، خلال احتفال البلاد بـ “يوم قوات الدفاع الوطني”، نوعين من أنواع “الدرونز” الاستطلاعية صينية الصنع، التي تعتمد على تقنية “الإقلاع العمودي”، وكليهما من إنتاج شركة “زيروتيك” الصينية، التي تعتبر المورد الأول للتقنيات المسيرة إلى إثيوبيا. النوع الأول هو “الدرون” “ZT-3V”، الذي يستطيع التحليق بشكل متواصل لمدة ساعة واحدة، ويستطيع التحليق حتى ارتفاعات تصل إلى أربعة كيلو مترات، في حين النوع الثاني هو “الدرون” “ZT-30V”، وهو يتميز بمدة تحليق أطول تصل إلى سبع ساعات، وحمولة أكبر من المعدات الاستطلاعية تصل زنتها إلى 25 كيلو جرام.
في ذلك التوقيت، صرح اللواء يلما ميدراس قائد سلاح الجو الإثيوبي بأن إثيوبيا بدأت بالفعل في الاستخدام القتالي “لدرونز” مصنعة محليًا، وحقيقة الأمر أن عرض “الدرونز” الصينية في القاعدة الجوية الإثيوبية كان محاولة للإيحاء أنها مصنعة محليًا، علمًا بأنه لم يتم تسجيل أو رصد تحليق أي “درون” خلال المعارك في إقليم تيجراي، خاصة وان أداء سلاح الجو الإثيوبي بصفة عامة خلال هذه المعارك كان متواضعًا، وخسر خلالها مروحية وقاذفة، بجانب طائرة نقل مدنية.
بالعودة إلى زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي إلى إقليم عفر، نستطيع أن نقول -بالنظر إلى المعطيات السابقة- أن ظهور وحدة التحكم و”الدرون” في هذه الزيارة يمثل جانبًا آخر من جوانب الدعاية الإثيوبية، والتقديرات تشير إلى أن هذه “الدرون” الظاهرة في الصورة قد تكون “الدرون” التي ظهرت صورتها سابقًا عام 2014 في مصنع “ديجين”، لكن الأكيد أن إثيوبيا تفتقر حتى الآن للموارد والقاعدة الصناعية التي يمكن أن تسمح لها بامتلاك “درونز هجومية” قادرة على شن هجمات مؤثرة على أهداف أرضية

بالتالي الاحتمالية الوحيدة لحصولها على “درونز” من هذه الفئة ستكون من دول خارجية مثل الصين أو إسرائيل، لكن حتى الآن لا توجد أية مؤشرات على هذا، رغم أن شائعات سابقة أشارت إلى امتلاك إثيوبيا “للدرون” الصينية الهجومية “CH-4″، لكن لم يتم تأييد هذه الشائعات بأية أدلة مادية أو ملموسة. من الاحتمالات القوية في هذا الصدد، أن يكون منشأ الدرون الذي ظهر في صور زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي منشأ إيراني، نظراً لعدة عوامل، منها تشابه منصة التحكم التي ظهرت في الصور، مع منصة التحكم المتنقلة الخاصة بدرونز “مهاجر-6” الإيرانية، وكذلك تشابه المكونات الداخلية لهذه المنصة مع منتجات شركة “ساريان” للصناعات الألكترونية، وكذا الشاحنة الناقلة لهذه المنصة وهي إيطالية المنشأ من نوع “أفيكو”. هذا التشابه في حالة تأكيده عبر صور واضحة للدرون الإثيوبي، قد يعيد إلى الأذهان ظهور نفس هذا النوع من الدرونز الإيرانية في فنزويلا مؤخراً، وهو ما يشير إلى بدء طهران في تصدير تقنياتها العسكرية إلى الدول التي تواجه مشاكل في استيراد الأسلحة الغربية.
امتلاك “الدرونز” القتالية قد يعطي للجيش الإثيوبي ميزة إضافية ميدانيًا، لكنها لن تكون كافية بالشكل المطلوب لتحقيق هيمنة على مجريات العمل الميداني، وذلك يعود لحقيقة أن سلاح الجو الإثيوبي قد فشل في تحقيق السيادة الجوية على المنطقة الشمالية، رغم انه الطرف الوحيد الذي يمتلك طائرات مقاتلة، وربما يمكن أن نعتبر امتلاك عناصر جبهة تحرير شعب تيجراي، وسائط مختلفة للدفاع الجوي، عنصرًا أساسيًا من عناصر تحجيم الأثر العملياتي لسلاح الجو الإثيوبي، على مسار المعارك المستمرة حاليًا في المنطقة الشمالية للبلاد، وهي معارك سنعرض لآخر تفاصيلها في مواد مقبلة.
باحث أول بالمرصد المصري



