إيران

هزلية السردية الإيرانية بين الخيال والهزلية.. هل يقوم الذكاء الاصطناعي بمهام الاغتيالات والتصفية؟

أعلنت وزارة الدفاع الإيرانية في حوالي الساعة السادسة بتوقيت طهران، يوم الجمعة الماضية، 25 نوفمبر، اغتيال “محسن فخري زاده”، رئيس منظمة البحث والتطوير التابعة لها، والتي تجري أبحاثاً تتعلق بالبرنامج النووي الإيراني. وحتى ذلك التاريخ، لم يكن يعرف غالبية الإيرانيون من هو “محسن فخري زاده”، وإلى مدى تصل أهميته داخل أروقة نظام الملالي. حتى تواردت التقارير والنعي من أرفع الدوائر الأمنية والسياسية في طهران. فالرجل كان يتوارى عن الأنظار ويقود في الظل أكثر برامج إيران سرية وإثارة للجدل، “البرنامج النووي”. 

عمل “محسن فخري زاده” محاضرًا للفيزياء النووية بجماعة “الإمام الحسين” في العاصمة الإيرانية طهران، وانضم للحرس الثوري الإيراني مبكرًا بعد سقوط الشاه، وظل يحتفظ برتبة رفيعة داخله بالرغم من انخراطه وظيفيًا وعمليًا مع وزارة الدفاع الإيرانية، وضمن فرق البحث والتطور بالبرنامج النووي. كما حدد تقرير هام للوكالة الدولية للطاقة الذرية في عام 2011 فخري زادة باعتباره شخصية محورية في البرنامج الإيراني السري لتطوير التكنولوجيا والمهارات اللازمة لصنع القنابل الذرية. وأُدرج فخري زاده في قائمة مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية عام 2013 كواحد من أقوى 500 شخصية على مستوى العالم. وحينما أجرت كوريا الشمالية تجربتها النووية الثالثة في العام 2013، كان فخري زاده ضمن ممن حضروا تنفيذ هذه التجربة عمليًا، حتى ترددت حينها عبر عدة تقارير استخباراتية أن هذه التجربة بالتحديد لم تكن خاصة بكوريا الشمالية، وإنما أجريت لإيران. في العام 2018، ذكر رئيس الوزراء الإسرائيلي اسم “فخري زاده” أثناء عرض تلفزيوني خصصه لكشف مستندات عن البرنامج النووي الإيراني، وقال نصاً: “تذكروا هذا الاسم”.

وكان بيان طهران الرسمي حول واقعة الاغتيال التي وقعت على طريق سريع يبعد 70 كم عن طهران؛ قد تضمن مصطلحات كـ “اندلاع معركة بالأسلحة النارية”، حتى اجتمعت روايات واقعة الاغتيال لمقاربة نقلتها وكالة أنباء فارس الرسمية، التي أفادت بأن طريقة الاغتيال تمت دون تدخل بشري، حيث أفادت بأن السيارة التي تقل فخري زاده وزوجته كانت مضادة للرصاص، وكانت بمعية 3 سيارات من فريق الحماية، حيث كان فخري زاده يتوجه من مدينة رستمكلاي بمحافظة مازندران، نحو مدينة ابسرد بمنطقة دماوند. وفور أن انفصلت السيارة الرائدة لفريق الحماية عن الموكب على بعد كيلومترات من موقع الحادث، بهدف التحقق وتأمين وجهة فخري زاده وزوجته، في هذه اللحظة بدأت عملية الاغتيال التي لم تستغرق سوي 3 دقائق، حيث تسبب صوت بعض رصاصات استهدفت السيارة التي تقل فخري زاده في توقيفه السيارة وترجله منها للتأكد من مصدر الصوت، فتم تصفيته في الحال من خلال مدفع رشاش آلي يجري التحكم فيه عن بعد، وكان منصوب على سيارة نيسان كانت متوقفة على بُعد 150 مترا من سيارة. فيما ذكرت مصادر إعلامية إيرانية بأن إدارة إطلاق النيران ومجمل عملية الاغتيال تمت من خلال قمر اصطناعي.

وفي هذا السياق، أعلن أمين مجلس الأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، الإثنين الماضي، أن إيران كانت على علم باحتمال تعرض العالم فخري زادة لمحاولة الاغتيال في ذات الموقع الذي اغتيل فيه. وقال شمخاني للتلفزيون الإيراني: “الأجهزة الأمنية الإيرانية كانت على علم باحتمال تعرض العالم فخري زادة لمحاولة الاغتيال، في ذات الموقع الذي اغتيل فيه”. وأضاف: “لكنها لم تأخذ الأمر على محمل الجد، بسبب تواتر الأنباء لديها طيلة السنوات العشرين الماضية عن مخططات لاغتياله”. وقال شمخاني: “عملنا على تعزيز حماية فخري زادة، ولكن العدو نفذ الاغتيال عبر طريقة جديدة، وحرفية، وتخصصية”.

أثار تضارب التصريحات الحكومية، واعتراف شامخاني بأن إيران على علم باحتمال تعرض فخري زاده لمحاولة اغتيال، العديد من التساؤلات ليس فقط حول صدقية السردية الإيرانية التي تبدوا أقرب لخيال الذكاء الاصطناعي منها للواقع، وإنما أثارت أيضا تساؤلات حول مدى فعالية أجهزة الاستخبارات الإيرانية والمنظومة الأمنية التي لطالما استخدمها القادة الإيرانيون على سبيل الفخر والاستعراض، بكونهم ينشطون في مناطق تمتد من أفغانستان لعمق أفريقيا. 

هل لدي الذكاء الاصطناعي القدرة على تنفيذ مثل هذه العمليات المُحكمة من الاغتيالات التي لا تستغرق سوى دقائق معدودة؟

بأبسط العبارات، يشير مصطلح الذكاء الاصطناعي إلى الأنظمة أو الأجهزة التي تحاكي الذكاء البشري لأداء المهام والتي يمكنها أن تحسن من نفسها استنادًا إلى المعلومات التي تجمعها، وقد نال المضمار العسكري نصيبًا كبيرًا فيما قدمته تطورات علوم الذكاء الاصطناعي، ولاسيما في نظم التحليل وجمع المعلومات وإدارة النيران، ونظم القيادة والاستطلاع والاستخبار الإلكتروني، إلا أن تطويع الماكينات العسكرية المجنزرة ضمن هذه التقنيات الحديثة مازال يأخذ مزيدًا من الوقت في مهام محددة، على الرغم من بدء المحاولة الأولى خلال الحرب العالمية الثانية حين ابتكر علماء النازيين مجنزرات تعمل عن بُعد وتقوم بحمل المتفجرات والمؤن.

وتطور الأمر على صعيد القوة “الجوية – البحرية” بشكل لافت في صناعة الطيران المسير والقطع البحرية المسيرة عن بعد (Unmanned aerial vehicles, Unmanned naval vehicles).

وفيما يختص بالمعدات البرية، تملك العديد من الدول روبوتات عسكرية على شكل آليات مجنزرة محدودة الحركة والحمولة وتعمل ضمن مهام الدعم اللوجيستي، عدا تطوير روسيا لمركبة “Uran9” الهجومية، حيث ظهرت في سوريا مؤخراً ورصدتها التقارير الاستخباراتية، بيد أن هذه المركبة مخصصة لإسناد القوات وأعمال الدعم وتطوير الهجوم في معركة مفتوحة، تعمل فيها الأسلحة المتوسطة والثقيلة وخاصة تلك المضادة للدروع والأفراد. وفي حالة اغتيال فخري زاده، تتضح عدة نقاط هامة:

  1. هجوم الاغتيال لم يدفع بسيارة فخري زاده بالانحراف عن الطريق، ما يعطي مؤشرًا على سرعة عملية التنفيذ ومحدودية تفجير السيارة التي كانت أمامه وبها المدفع الرشاش الآلي.
  1. تعرضت سيارة فخري زاده لعد طلقات نارية وثقوب في الجانب الأيمن من السيارة، وهو ما يتعارض مع الرواية الرسمية الإيرانية القائلة بآن الاشتباك كان مع مدفع رشاش آلي، كان مصوب فقط نحو مقدمة سيارة فخري زاده، وما يعزز السردية الرائجة حول طريقة التنفيذ التقليدية التي يتبعها في العادة عملاء الموساد الإسرائيلي، بتوجيه طلقات نافذة للهدف بعد الاقتراب منه على متن دراجة بخارية.
  2. المدفع الآلي الرشاش، الذي يُدار أتوماتيكيًا، ما كان ليطلق ثلاث رصاصات فقط على الهدف، وخاصة إن كان زجاج السيارة المستهدفة مضاداً للرصاص.

تزامن لافت .. واغتيالات سهلة

في نوفمبر الماضي، ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” أن المسؤول الثاني في تنظيم القاعدة عبد الله أحمد عبد لله المكنى “أبو محمد المصري”، قد اغتيل سرا في إيران في أغسطس الماضي، وتحديدًا في نفس يوم ذكرى الاعتداءين اللذين استهدفا سفارتي أمريكا في نيروبي بكينيا ودار السلام بتنزانيا العام 1998، وفق مسؤولين استخباريين.

وأفادت نيويورك تايمز أن الرجل المتهم في الولايات المتحدة بشنّ هجمات على سفارات أميركية في شرق إفريقيا العام 1998، والمدرج اسمه على لائحة الإرهابيّين المطلوبين لدى مكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي، “قُتِل بالرّصاص في شوارع طهران” على يد شخصين كانا على درّاجة ناريّة.

وبالرغم من نفي إيران رسميًا لما أوردته النيويورك تايمز، إلا أن مسؤولون أمريكيون حاليون وسابقون قد أكدوا مقتل الرجل الثاني في القاعدة

فيما قتل قيادي بالحرس الثوري الإيراني في ضربة جوية بمنطقة بين الحدود السورية والعراقية بعد اغتيال فخري زاده بيوم واحد فقط، حسبما أعلن مسؤولون عراقيون لرويترز. وبدا لافتاً سياقات الاستهدافات والاغتيالات كونها تجئ في:

  1.  فترة انتقال الجهاز البيروقراطي الجديد للبيت الأبيض، واتساع دائرة الاشتباك والضربات الوقائية الإسرائيلية لأهداف البنية التحتية الإيرانية في جنوب سوريا ولبنان.
  2. تجدد الآمال الإيرانية والأوروبية بإحياء خطة العمل المشتركة الشاملة مع إيران، وتخفيف سياسة الضغوط القصوى التي تتبعها إدارة ترامب في التعامل مع الملف الإيراني.
  3. استهداف إيران لمنشأة تابعة لأرامكو في جدة بصواريخ كروز بالتزامن مع عقد زيارة وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو للسعودية.

وعليه، فإن قدوم إدارة بايدن للبيت الأبيض في يناير القادم يمثل تحديًا تكتيكيًا مضافًا لكل من إسرائيل وإيران، فالأولى تريد الإبقاء على سياسات الضغط القصوى وإدامة حالات عدم الاستقرار الممتد لاتفاقية العمل المشترك، واستمرار الحصار الاقتصادي على صناعة النفط الإيرانية، فيما تريد الثانية الاستثمار بفوز جو بايدن، بالرجوع لنهج الرئيس الأسبق باراك أوباما، والمساومة بملفي النووي والصواريخ الباليستية لحصد مكاسب اقتصادية تسهم في ترسيخ إيران لتواجدها العسكري خارج حدودها وتثبيت رأس جسر لها على البحر المتوسط من خلال الطريق البري الواصل بين طهران وبغداد ودمشق وبيروت.

وعليه فأن سيناريوهات الرد الإيراني، تتراوح بين أربعة مسارات:

  1. توجيه ضربة لأهدف البني التحتية الأمريكية في العراق عن طريق وكيل.
  2. استهداف عناصر حرس الحدود الإسرائيلي من خلال وكيل على غرار مقتل عماد مغنية.
  3. أعمال تخريبية بسفن الشركات الغربية بمسرحي الخليج العربي وبحر العرب وخليج عدن.
  4. تأجيل الرد لوقت يجيء بعد دخول بايدن للبيت الأبيض، لئلا تخلق موقفاً أمريكيا متصلباً حيالها منذ البداية.
  5. عدم الرد، والاكتفاء بتوجيه الخطابات الرنانة لتحسين الصورة والإبقاء على حالة الشحن الديني والقومي.

كشفت العمليات الأخيرة التي تمت في إيران منذ يونيو الماضي، بتفجيرات غامضة طالت منشآت حكومية وأخرى نووية حساسة، وبعدها اغتيال الرجل الثاني في القاعدة، واغتيال الرجل الأول في البرنامج النووي، وقبلهم، اغتيال ثاني أقوى رجل في إيران قاسم سليماني؛ كشفت عن اهتراء المنظومة الأمنية والاستخباراتية لإيران على حد جسيم، فطبيعة العمليات التي تمت وإطارها الزمني الضيق، وتأثيرها الكبير يشير بأن قادة طهران الذين تفاخروا بالسيطرة على أربعة عواصم عربية، لا يسيطرون بشكل كامل على طهران.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى