
د. محمد حسين أبو الحسن يكتب :كيف تفكر إثيوبيا؟!
يكشف الجمود الحالي في مفاوضات سد النهضة عن أن مطلب الأمن المائي لمصر والسودان غير مقبول، من إثيوبيا التي تواصل التعنت والمماطلة، لكسب الوقت وفرض أمر واقع على دولتي المصب، ناهيك عن التلاعب بأطراف الوساطات المختلفة، سواء الولايات المتحدة، أو الاتحاد الإفريقى راهنا, لدرجة تدفع إلى الشك بجدية الوسطاء، في ظل صمتهم على السلوك الإثيوبي المهدد للسلم الإقليمي والدولي، نعم أعلنت واشنطن فرض عقوبات على إثيوبيا، لكن الأخيرة سادرة في غيها، مع أن مجرد إيماءة من وزير الخزانة الأمريكي كافية لخنق اقتصادها، وليس الدفع باتفاق حول السد فحسب.
تتجاهل أديس أبابا ما قدمته القاهرة للوصول إلى حل، فالحل لم يكن هدفا لإثيوبيا، بل التحكم في مياه النيل الأزرق وتسليعها، وفى مقدرات الدولة المصرية. تتحسب القاهرة للألاعيب الإثيوبية، أكد الرئيس السيسي، في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قلق مصر لعدم الوصول إلى اتفاق حول السد، يوازن بين متطلبات التنمية للإثيوبيين وضمان حق الحياة للمصريين، مشددا على أن النيل ليس حكرا لطرف، وأن التفاوض ينبغي ألا يمتد إلى ما لا نهاية، ودعا المجتمع الدولي لتحمل مسئوليته، في دفع إثيوبيا إلى اتفاق يحقق مصالح الجميع.
وبالنظر إلى أنها دولة فيدرالية متعددة الأديان والأعراق – 80 عرقية – تبنى إثيوبيا استراتيجيتها للأمن القومي، على مقاربة صناعة «عدو»، كي تحفظ التماسك الداخلي، يشد مكونات الدولة إلى بعضها، ويحميها من الانفراط، بالتلويح بخطر خارجي متوهم، لاسيما الدول غير القابلة للإخضاع، مصر بالأخص.. كان لافتا أن آبى أحمد قام بتجفيف المشكلات الحدودية مع معظم دول الجوار، بينما ازداد صلفا ومراوغة «كذبا»، فى ملف سد النهضة، جرّ الشعوب الإثيوبية لمتطلبات مواجهة مصطنعة مع مصر؛ فذلك أيسر من مواجهة تحديات الداخل، فى بلد يعانى موجات احتجاجية واضطرابات داخلية، يكاد يسقط بفخ الحرب الأهلية، في ظل تنامى ديكتاتورية حامل نوبل للسلام!، والذى رفض إجراء الانتخابات العامة، مما اضطر جبهة تيجراى لإجرائها في الإقليم الخاضع لها، كل ذلك وغيره عكس نزاعا على السلطة بين الحكومة والمعارضة، انتقل للشارع فأراق الدماء ولاتزال كرة اللهب تتدحرج. لذلك حوّل آبى أحمد «السد» قضية شرف وطنى لا تراجع فيها، بينما كان وزير الخارجية الإثيوبية أشد وضوحا فى الكشف عن نيات بلاده، إذ قال، عقب الملء الأول «الأحادي»: إن النيل صار بحيرة إثيوبية. هذا معناه شطب كل المعاهدات حول النيل، خاصة 1902 التي وقعتها إثيوبيا وانتزعت بموجبها منطقة بنى شنقول، مقابل التعهد بعدم إعاقة مياه النهر عن دولتي المصب. إنها تريد أن تصبح بنك مياه وأي نقطة تتسرب منه تكون بمثابة منة أو سلعة لمصر أو تكرهها على دفع أثمان سياسية لمصلحة أطراف ثالثة.
وهذا يقودنا إلى أن المراوغة ركيزة لاستراتيجية إثيوبيا، ولأنها مصدر أنهار تتدفق إلى دول الجوار، دأبت على أن تفاجئ تلك الدول بإقامة سدود بقرارات منفردة، ثم تستهلك الوقت فى تفاوض عبثي، فعلت ذلك مع كينيا والصومال وإريتريا وجنوب السودان والسودان ومصر.. الركن الآخر لعقيدتها الاستراتيجية ربط مصالحها بمصالح قوى إقليمية ودولية. أيضا لا يمكن إنكار نجاح إثيوبيا ببسط نفوذها فى القرن الإفريقي، حتى إنها تتحكم ببعض عواصم المنطقة، من خلال لوبيهات أو مصالح، على سبيل المثال تحدثت وسائل إعلام سودانية، الأيام الماضية، عن أن أحد مستشاري وزير الري السوداني هو «خبير إثيوبي»، ومن ثمّ فلا غرابة فى غياب الحسم عن الموقف السوداني تجاه السد الإثيوبي، برغم أخطاره الوجودية على دولتي المصب.
على مدى التاريخ، لعبت المياه دورا فى تشكيل السياسات، لكن المشهد الجيوسياسي اليوم أشد قتامة، وإذا كانت إثيوبيا قادرة على الإفلات بالسد، فإنها لن تستطيع نهب حقوق مصر المائية. موطن العطب فى الاستراتيجية الإثيوبية، أنها ناجحة مع الضعفاء لا الأقوياء، موازين القوى ليست فى مصلحتها، وبرغم ذلك تنخرط مصر إيجابيا لتجاوز المنعطف الخطير الحالي، وقد لا يكون هناك مفر من تصعيد الموقف لمجلس الأمن أو محكمة العدل الدولية, لتسوية الملف بشكل عادل والتفرغ للتنمية والتعاون، عبر خطة لاستقطاب الفواقد، وتأمين الفوائد لجميع الدول المشاطئة للنيل، كما هوالحال في وادى تينيسي.. نعيش فى عالم لا يرتدع إلا بالقوّة، لكن ذلك لا يمنعنا من التفاؤل؛ عملا بمقولة تشرشل: أنا متفائل لأن كل ما عدا التفاؤل لا نفع منه!.


