
الخلفيات والدوافع.. جبهة إقليمية جديدة في ناجورنو كاراباخ
أطلق صباح اليوم الجيش الأذري، بدعم من الجيش التركي، هجومًا واسع النطاق على مواقع الجيش الأرميني في إقليم ناجورنو كاراباخ المتنازع عليه بين البلدين، فيما يبدو ظاهريًا كأنه اشتباك جديد بين الجانبين، لكنه فعليًا أقرب إلى أن يكون نافذة جديدة تفتحها أنقرة، لنشر الفوضى والتوترات العسكرية والأمنية، في محاولة جديدة لابتزاز دولة أخرى ماليًا بحجة تزويدها بالأسلحة والذخائر، بعد أن نضبت خزائن طرابلس الليبية، وبات الوضع في ليبيا يمثل عبئًا إضافيًا وفشلًا جديدًا لأنقرة في الإقليم.

هجوم اليوم كان مباغتًا إلى حد ما، واستخدمت فيه القوات الأذرية كافة الأسلحة المتوفرة، بما فيها الدبابات وراجمات (سميرتش) الصاروخية من عيار 300 ملم، وتركزت العمليات حتى الآن في القطاع الجنوبي من خط التماس بين الجانبين، وتحديدًا القرى الواقعة حول منطقتي (فوزولي) و(جابرالي)، حيث هاجمت الوحدات المدرعة الأذرية ست قرى في هذا النطاق، مدعومة بقصف صاروخي ومدفعي مكثف طال معظم المناطق المحاذية لخط التماس.
الهجوم الأذري تزامن مع ضربة للدفاعات الجوية الأرمينية، خاصة وحدات الدفاع الجوي ذاتية الحركة (أوسا)، حيث تمت مهاجمتها بتشكيلات من الدرونز الهجومية التركية (بيرقدار تي بي 2)، ودرونز الاستطلاع الإسرائيلية الصنع (ثاندر – بي)، التي قامت بتصحيح نيران المدفعية والمدفعية الصاروخية الأذرية، والدرونز الانتحارية إسرائيلية الصنع (هاروب).
رغم الهجوم المباغت، إلا أن الوحدات المدرعة الأذرية، تلقت خلال الساعات الأولى لبدء المعارك، خسائر كبيرة، نتيجة لوقوعها في كمائن المدفعية الأرمينية، التي سددت ضربات دقيقة للأرتال الأذرية المدرعة، خاصة عربات القتال من نوع (بي أم بي 3)، ودبابات القتال (تي 72)، وألحقت بها خسائر مباشرة، يضاف إلى ذلك أسقاط عدد يتراوح بين 15 و20 طائرة دون طيار، بجانب مروحية واحدة على الأقل تابعة لسلاح الجو الأذري من نوع (مي 8).
أزمة قديمة متجددة

لفهم طبيعة هذا الاشتباك، لابد من العودة قليلًا بالذاكرة إلى خلفيات هذه الأزمة. يقع إقليم ناجورنو كاراباخ داخل حدود أذربيجان التي تحده من الشمال والشرق، وتبعد عاصمته (سيتباناكيرت) عن العاصمة الأذرية باكو نحو 270 كم، وتجاوره غربًا أرمينيا وجنوبًا إيران وتبلغ مساحته نحو 4.800 كيلو متر مربع، بدأ هذا الصراع التاريخي في التشكل تدريجيًا منذ أوائل عشرينيات القرن الماضي، حين قامت السلطات السوفيتية في حقبة جوزيف ستالين، بضم هذا الإقليم إلى داخل الحدود الإدارية لأذربيجان رغمًا عن سكانه، وفي نفس الوقت ضم إقليم (ناختشيفان) ذا الأغلبية الأذرية إلى الحدود الأرمينية، وذلك ضمن استراتيجية عامة كانت متبعة في هذا الوقت لمنع أي إقليم من محاولة الانفصال عن الاتحاد السوفيتي، وذلك بإشغال القوميات المختلفة بالصراعات الداخلية في ما بينها.
مهدت هذه الاستراتيجية لصراعات عديدة حدثت داخل أقاليم الاتحاد السوفيتي السابق عمومًا، وخصوصًا إقليم كاراباخ الذي عانى سكانه من التمييز العرقي والديني والحصار الاقتصادي في بعض الأحيان. ظل هذا الإقليم الذي كان خلال الحقبة السوفيتية متمتعَا بأحد أشكال الحكم الذاتي منتظرًا فرصة مواتية للانفصال عن أذربيجان، إلى أن حانت الفرصة عام 1988 حين قدم المجلس المشرف على الإقليم طلباَ للمجلس السوفيتي الأعلى لإلحاقه بأرمينيا، وهو ما لاقى اعتراضًا من جانب أذربيجان التي اشتبكت قواتها مع سكان الإقليم في محاولة لمنعهم من الانفصال.
استمر التوتر العسكري والسياسي بين الجانبين في التصاعد إلى أن أعلنت أذربيجان وأرمينيا استقلالهما عن الاتحاد السوفيتي عام 1991، فقام برلمان الإقليم في مطلع عام 1992 بالتصويت بالموافقة على الانفصال عن أذربيجان. بعد عدة أشهر من هذا التحرك، اندلعت حرب واسعة بين أذربيجان من جهة والإقليم مدعومًا من أرمينيا من جهة أخرى، وحققت قوات الإقليم خلال هذه الحرب التي استمرت حتى منتصف عام 1994 نصرًا كبيرًا على المستوى الميداني حيث سيطرت على ما بين 9 إلى 20 بالمائة من أراضي أذربيجان من بينها كامل أراضي الإقليم نفسه والشريط الاستراتيجي الفاصل بينه وبين أراضي أرمينيا المسمى (ممر لاتشين)، وكذلك أراضي 6 مقاطعات أخرى شرق وجنوب الإقليم.
ترتب على هذا الموقف إعلان الفصائل الأرمنية في الإقليم قيام (جمهورية ناجورنو كاراباخ)، وتوقفت العمليات العسكرية التي حصدت ما يناهز 35 ألف قتيل بعد التوقيع على اتفاق لوقف إطلاق النار في مايو 1994 في العاصمة البيلاروسية مينسك برعاية منظمة الأمن والتعاون في أوروبا بجانب روسيا. وعلى الرغم من هذا الاتفاق إلا أن حالة الحرب بين البلدين ظلت قائمة بشكل ضمني في ظل تجدد دوري للاشتباكات الحدودية المحدودة بين أذربيجان والجمهورية التي لم تعترف بها أي دولة لكنها تحظى برعاية ودعم عدة دول على رأسها روسيا وأرمينيا التي تتعامل معها كجزء من أراضيها. وقد تم عام 2006 التصديق على دستور جمهورية مرتفعات كاراباخ الذي نص على أنها جمهورية تتخذ النظام الرئاسي.
تجدد الدور التركي في أزمة ناجورنو كاراباخ

تعد تركيا من الأطراف الرئيسية في هذا النزاع نظرًا لأنها كانت تساند أذربيجان منذ استقلالها عن الاتحاد السوفيتي، وقد كانت أول دولة تعترف باستقلال أذربيجان، وانضمت عام 1993 إلى الحصار الاقتصادي الجوي والبري الذي فرضته باكو على الأراضي الأرمينية، وفيه منعت وصول السلع والبضائع عبر السكك الحديدية إليها. أيضًا لا يمكن إغفال الجانب التاريخي من العداء بين تركيا وأرمينيا اللتين دارت بينهما حرب عنيفة على خلفية الغزو التركي للأراضي الأرمينية خلال عشرينيات القرن الماضي والتي حدثت قبلها مجازر كبيرة ارتكبتها القوات العثمانية ضد الأرمن.
العلاقات بين الجانبين تطورت أكثر بشكل عام، منذ عام 2016، حينها اتخذت تركيا موقفًا حاسمًا مؤيدًا لباكو، خلال الاشتباكات بينها وبين أرمينيا، وتطور هذا الموقف ليصبح دعمًا عسكريًا تركيًا كاملًا، تمثل في مناورات مشتركة بين الجيشين التركي والأذري، تمت على مدار ثلاثة عشر يومًا في يوليو الماضي، تم خلالها الاتفاق على تزويد تركيا أذربيجان بمجموعة مختلفة من المنظومات القتالية، بدأت بالفعل في الظهور خلال معارك اليوم، مثل درونز (بيرقدار).
يضاف إلى ذلك، ما كشف عنه المرصد السوري لحقوق الإنسان، عن إرسال تركيا لنحو 300 مرتزق سوري، من مدينة عفرين شمال غرب محافظة حلب السورية، نحو جبهات القتال على طول خط التماس في إقليم ناجورنو كارباخ، وقد ظهر بعض هؤلاء بالفعل خلال معارك اليوم.

يعد الجانب الاقتصادي من أهم محددات الدور التركي في هذه الأزمة، حيث ترتبط تركيا مع أذربيجان بمشروع خط الغاز العابر للأناضول، تبلغ تكلفته نحو تسعة مليارات دولار، وهو يرتبط بخط أخر وهو خط جنوب القوقاز، الذي يضخ الغاز من حقل شاه دنيز 2 الأذري في بحر قزوين، عبر أذربيجان وجورجيا إلى تركيا. ويستهدف هذا المشروع نقل الغاز من بحر قزوين إلى أوروبا، بمسافة تتعدى ثلاثة آلاف كيلو متر، وهذا يضاف إلى استثمارات تركية أخرى في أذربيجان، تتعدى قيمتها عشرة مليارات دولار، أبرزها مشروع خط السكك الحديدية الاستراتيجي (باكو – تبليسي – قارص) الرابط بين تركيا وأذربيجان وجورجيا، بطول 826 كيلومترا.
باحث أول بالمرصد المصري