العراق

الكاظمي في أربيل.. مصالح مشتركة ومحاولات للحل تعترضها صعوبات

يحظى الملف الكردي باهتمام خاص من رئيس الحكومة الانتقالية العراقية، مصطفي الكاظمي، ربما أكثر من أي رئيس حكومة سابق، ضمن مساعيه للتهدئة وخلق بيئة داخلية مناسبة لتنفيذ مشروعه الإصلاحي عبر إحداث اختراق حقيقي في عدد من قضايا الوضع الداخلي المعقد؛ كمكافحة الفساد، والانتخابات المبكرة، والمعتلقين، والاحتجاجات، والأزمة الاقتصادية التي ضاعفتها أزمة جائحة فيروس كورونا، ونزع سلاح الميليشيات.

ويُعد الكاظمي رئيس الحكومة الأكثر قربًا من إقليم كردستان، إذ عاش لفترة من الزمن بين أبناء الإقليم، ويحتفظ بعلاقات جيدة مع حكومته وشعبه، وهو ينظر إليهم باعتبارهم جزءًا أصيلًا من المجتمع العراقي الكبير، ودائمًا ما عبر عن نظرته تلك بقوله “الكرد أهلنا”. وقد أهلّه هذا ليكون الشخصية المفضلة لديهم في رئاسة الحكومة، حيث حظي بترشيح رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني وبدعم المكون الكردي في البرلمان، مدفوعين بحالة من التفاؤل الحذر بأن صعود الكاظمي إلى هذا المنصب المهم سيكون بداية لحلحلة قضيتهم.

لم يخيب الكاظمي آمال الأكراد، فلم تمر سوى أربعة شهور على توليه رئاسة الحكومة، حتى حطت طائرته في مطار أربيل (عاصمة الإقليم)، ليتتم أول زياره رسمية له للإقليم، لكنها هذه المرة تحمل طابعًا مختلفًا ورسائل مطمئنة تُنبئ بمساعٍ جادة لدى الجانبين لحل كافة القضايا العالقة باعتبار أن الإقليم –الذي يتمتع بالحكم الذاتي وفقًا للدستور- جزء لا يتجرأ من الدولة العراقية، وأنه خاضع للسيادة العراقية، ولا يجوز التعامل معه ككيان منفصل، بل إن همومه هي نفس هموم الشعب العراقي أجمع والتي تتلخص في بناء عراق مستقل يتمتع باقتصاد قوى، ونظام إداري قادر على مكافحة الفساد.

وتختلف زيارة الكاظمي للإقليم عن زيارات رؤساء الحكومات السابقين، حيث إنها الأولى التي استمرت يومين كاملين، وكانت في السابق لا تزيد عن يومًا واحدًا أو حتى بضع ساعات. كما أنها امتدت لتشمل معظم أراضي الإقليم،  وسط ارتياح وترحيب كردي، حيث لم تقتصر الزيارة على العاصمة أربيل، كحال سابقاتها، لكنها امتدت لتشمل دهوك والسليمانية وحلبجة، وأيضًا تفقد منفذي “إبراهيم خليل” و”باشماخ” الحدوديين، فضلًا عن زيارة المناطق ذات الدلالات التاريخية كالأنفال (قتل في معركة الأنفال نحو 182 ألف كردي)، والنصب التذكاري في حلبجة (شهدت البلدة هجومًا كميائيًا نفذه الجيش العراقي في الأيام الأخيرة من الحرب العراقية – الإيرانية)، ومخيم مخور (يشهد قصف جوي تركي متكرر تحت زعم ملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني)، ومخيمات النازحين في دهوك، وقبر الرئيس الأسبق الراحل جلال طالباني، الذي يحظى بمكانة خاصة لدى العراقيين لدوره في بناء العراق الجديد وترسيخ مبادئ الديمقراطية.

تقدم تلك الجولة ثلاث رسائل، الأولى تضامنية مع سكان الإقليم باعتبارهم جزءًا من الشعب العراقي تحت مظلة عراق موحد، والثانية أن بغداد لن تتفق مع أحد الحزبين الرئيسين هناك دون الآخر؛ فالقرار الكردستاني يتشكل في كل من أربيل حيث الحزب الديمقراطي الحاكم والسلمانية حيث حزب الاتحاد الوطني، أما الثالثة، فتتعلق بالتأكيد على السيادة العراقية على كافة أرجاء البلاد وهو ما تجلى في زيارة المعابر الحدودية.  

حاول الكاظمي طوال الزيارة تسليط الضوء على نقاط التوافق والتلاقي، والتأكيد مرارًا على مسألة “وحدة العراق”، وضرورة التكاتف والتكامل وتحقيق التفاهم الوطني وتوحيد المواقف وتجاوز المسائل الخلافية، ضاربًا المثل بنجاح التنسيق بين الجيش العراقي وقوات البشمركة (جيش إقليم كردستان) في تحقيق انتصارات على تنظيم داعش الإرهابي. 

ومع ذلك، لم تحظ هذه الخطوة بقبول العديد من الكتل والساسة العراقيين، وبخاصة الشيعية، الذين رأوا فيها أنها “شيك على بياض” قدمه الكاظمي للإقليم دون الحصول منهم على ضمانات كافية للوفاء بالتزاماتهم بموجب الدستور والاتفاقات السابقة في شأن الإدارة المشتركة للمنافذ الحدودية وإرسال عوائد نفط الإقليم للحكومة المركزية، معتبرين أن الوضع الاقتصادي الصعب في الإقليم يرجع إلى سوء إدارته وانتشار الفساد به، وأن حكومة بارزاني هي المسؤولة عن تحسين تلك الأوضاع. 

القضايا العالقة بين بغداد وأربيل

تأتي زيارة الكاظمي إلى كردستان في وقت تعاني فيه بغداد وأربيل –على حد سواء- من أزمات اقتصادية حادة جراء تراجع أسعار النفط العالمية كأحد التداعيات الاقتصادية لجائحة فيروس كورونا، ما مثّل ضغطًا مضاعفًا على اقتصاد البلاد الذي يرزح لعقود تحت وطأة الفساد والصراعات السياسية وسوء استغلال الموارد. فضلًا عن عدم قدرة الإقليم على دفع مرتبات الموظفين جراء الأزمة الناجمة عن عدم وفاء الطرفين بالتزاماتهما بموجب الاتفاقات السابقة القاضية بتسليم الإقليم للحكومة الاتحادية جزءًا محددًا من عائدات النفط والمنافذ الحدودية مقابل أن تحصل على حصة من الموازنة.

كانت تلك الأوضاع المتدهورة عاملًا محفزًا لدى الطرفين؛ الحكومي المركزي والكردي، للإسراع نحو حل القضايا العالقة، وبالأخص الاقتصادية منها. فكانت زيارة الكاظمي والالتقاء بعدد كبير من مسؤولي الإقليم على رأسهم، الرئيس نيجيرفان بارزاني، ورئيس الحكومة، مسرور بارزاني، ورئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني. 

وعلى الرغم من أن هذا اللقاء لم يكن الأول بين مسؤولي الجانبين، بل سبقه زيارات لمسؤولين أكراد إلى بغداد للتباحث بشأن الإشكاليات التقليدية التي لطالما أرقت العلاقات بينهما، إلا أنه كان مختلفًا عن سابقيه؛ إذ لُمست فيه رغبة جادة من الطرفين لحلحلة الوضع بينهما على أساس المرجعية الدستورية وما يتم التوصل إليه من خلال الحوار الثنائي. وشهدت المباحثات تقدمًا ملحوظًا، بعدما توصل الكاظمي مع نظيره الكردستاني مسرور بارزاني إلى تفاهمات بشأن قضايا النفط والمرتبات والمنافذ الحدودية. 

ومن المقرر أن يزور مسؤولون في الإقليم على رأسهم نائب رئيس الحكومة بغداد لمواصلة النقاشات وتثبيت الاتفاقات. وفيما يلي تفصيل لتلك القضايا: 

قضية النفط مقابل المرتبات: يمتلك إقليم كردستان احتياطات هائلة من النفط والغاز الطبيعي تجعله يحتل المرتبة الـ20 على العالم، باحتياطات تصل إلى 45 مليار برميل نفط، و177 تريليون متر مكعب غاز. ويؤمن النفط 70% من إيرادات الإقليم حيث ينتج حاليًا نحو 450 ألف برميل يوميًا نزولًا من 550 ألف برميل التزامًا باتفاق “أوبك+” لتخفيض الإنتاج، وتقوم بتصديرها بشكل مستقل منذ عام 2013 إلى أوروبا عبر ميناء جيهان التركي. 

خط نفط كركوك – جيهان

وقد كانت هذه الثروة مسار خلاف دائم بين حكومتي أربيل وبغداد، لكنهما فشلا على مدار 15 عامًا من التوصل إلى اتفاق دائم ومستقر بشأن إدارة عائدات نفط الإقليم، وظل الأمر مقتصرًا على اتفاقيات قصيرة الأجل تحت شعار “النفط مقابل المرتبات” لكنها تتغير بتغير الظروف السياسية والاقتصادية. وكان آخر تلك الاتفاقيات تلك الموقعة في عهد رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي، القاضية بتسليم الإقليم إيرادات 250 ألف برميل يوميًا مقابل دفع مرتبات الموظفين. لكن هذا الاتفاق لم يطبق وتغاضى عبد المهدي عن عدم وفاء أربيل به وظل مستمرًا في إرسال حصة الإقليم من الموازنة الاتحادية حتى جاءت أزمة النفط وعجزت الحكومة عن دفع مرتبات الموظفين، فاضطر إلى تعليق تسليم المرتبات، البالغة نحو نصف مليار دولار شهريًا، إلى حكومة الشمال في أبريل الماضي، وبعد تولي الكاظمي سمح بتسليم مرتبات أبريل ثم تعليق الأمر حتى التوصل إلى اتفاق. 

خريطة توضح مناطق إنتاج النفط في إقليم كردستان

وكان لتوقف دفع مرتبات الإقليم أثرًا بالغًا أدى إلى حالة من السخط الشعبي، إذ إن هذا يعني العودة إلى نظام الادخار، بحيث يدفع للفرد نصف راتب كل 3 شهور، وهو أمر لجأت إليه سلطات الإقليم خلال الأزمة المالية عام 2016، حيث جرى استقطاع جزء من الراتب تتراوح نسبته بين 15% إلى 75%. وفي 2018، تم تخفيض الجزء المستقطع إلى ما نسبته ببن  10% إلى 30%.

وقد أدت الانتكاسات المتتالية التي شهدتها اتفاقيات “النفط مقابل المرتبات” إلى تصاعد مطالب عدد من القوى السياسية، وبالأخص الشيعية، بتقليص حصة الإقليم من الموازنة الاتحادية، والتي تقدر بـ17%، بدعوى أنها لا تتناسب مع عدد سكانه بالنسبة لإجمالي السكان، ولأن الإقليم يحصل على دخل من جراء بيع النفط الواقع تحت سيطرته.

وقد حققت مباحثات الكاظمي في أربيل تقدمًا في هذا الملف حيث وافق رئيس الوزراء على تضمين موازنة الإقليم ضمن الموازنة الاتحادية للعام 2021، وهو ما أثار غضب التيارات الشيعية التي رأت أن الاتفاق يمثل تنازل من الكاظمي وأنه لم يحصل على ضمانات كافية لتسليم الإقليم الحصة المتفق عليها من عائدات النفط.

ملف المناطق المتنازع عليها: يمثل هذا الملف أحد قضايا النزاع المعقدة بين المركز والإقليم، وهو يتعلق بالأساس برغبة الإقليم في ضم محافظة كركوك وشريط طوله ألف كيلومتر يمتد من محافظة ديالي شرقًا إلى جنوب غرب محافظة نينوى مرورًا بمحافظة صلاح الدين بإجمالي مساحة 37 ألف متر مربع. لكن حتى الآن لم يشهد هذا الملف خطوات فعليه لحلته ويبدو أن زيارة الكاظمي لم تركز عليه بالقدر ذاته التي ركزت به على القضايا الاقتصادية، كالنفط والرواتب والمنافذ الحدودية.

خريطة توضح المناطق المتنازع عليها بين بغداد وأربيل

ويرجع ذلك إلى رفض رفض التيارات الشيعية عودة قوات البيشمركة إلى كركوك بعدما خرجت منها على يد الجيش العراقي عقب استفتاء الانفصال الفاشل في 2017، وقلق السنة والتركمان أيضًا من الأمر ذاته، فضلًا عن كون كركوك غنية بالنفط.

وحتى الآن لم تفلح أي ترتيبات أمنية مشتركة بين بغداد وأربيل بسبب الرفض السني الشيعي التركماني، حيث سبق وأن رفضوا مقترح قدمته حكومة الكاظمي في يوليو الماضي لتشكيل أربع مراكز أمنية مشتركة في المناطق المتنازع عليها في كركوك وديالى ومخمور والموصل، لتغطية المساحة الشاغرة على خط التماس بين الجيش والبيشمركة لمنع نشاطات تنظيم داعش الإرهابي، بدعوى أنه قد يكون خطوة لعودة البيشمركة إلى المناطق المتنازع عليها. كما رفضت حكومة أربيل اقتراحًا بنشر قوات من حرس الحدود العراقي عند حدود الإقليم لمنع توغل القوات التركية المشاركة في عملية “مخلب النسر” داخل الأراضي العراقية.

وتطالب أربيل بتنفيذ المادة 140 من الدستور التي تعالج قضية التعامل مع المناطق المتنازع عليها، حيث تنص على إعادة السكان المهجرين منذ زمن حكومة البعث، ثم إجراء استفتاء يحدد من خلاله السكان السلطة التي يرغبوا في الانضمام إليها.

• ملف المنافذ الحدودية: كانت قضية السيطرة الحكومية على المنافذ البرية كافة في الدولة على رأس أولويات الكاظمي، حيث إنها توفر 12% من إيرادات العراق، لكن العديد منها خاضع لسيطرة الميليشيات، وبالأخص الشيعية التابعة لإيران، ما يعني ضياع إيراداتها في وقت تعاني فيه البلاد من أزمة اقتصادية. وقد وجه الكاظمي بتنفيذ حملة لاستعادة سيطرة بغداد على منافذ الوسط والجنوب بما أدى إلى رفع قيمة الإيرادات إلى 52 مليون دولار عوضًا عن 30 مليون دولار. 

والآن يسعى الكاظمي إلى اتفاق بشأن منافذ الشمال، وكان هذا الملف حاضرًا بقوة على أجندة زيارته إلى إقليم كردستان، حيث تفقد معبري إبراهيم الخليل وباشماخ، حيث تسعى الحكومة المركزية إلى تطبيق ما نص عليه الدستور بشأن الإدارة المشتركة لمنافذ الشمال وضمان الحصول على 50% من إيراداتها (يوجد 11 منفذ تعترف الحكومة بـ6 منها و5 غير معترف بها)، وهو أمر امتنعت عنه حكومة الإقليم، وتم تقنين هذا الوضع في اتفاق وقعته حكومة الإقليم مع رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي، يقضي بإرسال الحكومة الاتحادية رواتب الموظفين مقابل حصولها على إيرادات 250 ألف برميل من النفط يوميًا والاحتفاظ بكافة إيرادات المنافذ الحدودية.

منفذ إبراهيم الخليل

لكن هذا الوضع أصبح غير مناسب في ظل توجه حكومي لتأسيس وضع داخلي جديد تكون فيه للحكومة السيطرة على كافة الأراضي العراقية ونزع سلاح الميليشيات، والالتزام بالدستور في إدارة العلاقات مع الشمال. كما أن هناك ضغط من قِبل القوى الشيعية لضم منافذ الشمال إسوة بالوسط والجنوب. وفي إشارة إلى حسن النوايا ورغبة الطرفين في تجاوز الخلافات، صرح المتحدث باسم حكومة الإقليم أنه تم التوصل إلى اتفاق بشأن المنافذ الحدودية. 

مصالح متقاطعة

لعل مساعي الكاظمي لتطبيع العلاقات بين الإقليم والدولة الأم، لا تنتهي عند فكرة وضع حد للمشكلات القادمة من الشمال عبر حل القضايا التقليدية بين بغداد وأربيل، بل تتجاوزها إلى ما هو أبعد، وبالتحديد فيما يتعلق بطموحات الكاظمي في لعب دور أوسع في المستقبل السياسي للبلاد، وتثبيت حكمه كقائد استطاع الوقوف في وجه الأطماع الخارجية، وفي المقابل، يضمن الإقليم الحفاظ على مكتسباته. وتتضح تلك المصالح المشتركة على النحو التالي: 

• تأمين الدعم المتبادل: يساهم التوافق بين بغداد وأربيل في تحقيق مكاسب سياسية للجانبين. فمن ناحية، سيظهر الكاظمي بمظهر الرجل القوي الذي استطاع بسط سيادة الدولة على كافة أرجائها. كما أنه يسعى إلى تثبيت تحالفه مع الأكراد لضمان الحصول على دعم الكتلة الكردية في البرلمان (58 مقعدًا) في ظل بوادر أزمة سياسية واقتصادية تلوح في الأفق تتجلى أبرز مظاهرها في نية البرلمان استجواب عدد من وزراء حكومته، والخلافات بشأن قانون الانتخابات، والخلافات المتوقعة عند طرح التصويت على الموازنة الجديدة مع احتمال أنها ستشهد الحصول على مزيد من القروض.  

أيضًا، تواترت بعض الأنباء بشأن سعي الكاظمي إلى تشكيل حزب سياسي يخوض من خلاله الانتخابات المقبلة في ظل حالة سخط شعبي على التحالفات القائمة حاليًا التي فقدت مصداقيتها لفشلها في إرساء تجربة سياسية ناجحة تعمل كمظلة جامعة لكافة مكونات المجتمع العراقي وتحظى من خلالها على فرص عادلة ومتساوية، وكذلك فشلها في حل المشكلات المعقدة التي تضرب الدولة العراقية على مدار 17 عامًا. ويحتاج الكاظمي في هذا إلى بناء تحالفات مع مكونات المجتمع العراقي كافة. لكن الحديث عن إمكانية حدوث هذا الأمر تشوبه الكثير من الأقاويل نظرًا لكون مشروع سياسي كهذا سوف يصتدم بالتحالفات التقليدية المستقرة على الساحة العراقية على مدار سنوات.

ومن ناحية أخرى، سيعني هذا التوافق وجود حليف لكردستان في بغداد بعد عادل عبد المهدي الذي كان ينظر إليه الإقليم على أنه الضامن لهم للحصول على مكتسباتهم. وسيؤدي التوافق مع السلطة المركزية في العاصمة إلى فك الخناق الاقتصادي الذي عانى منه الإقليم منذ التوقف عن دفع المرتبات وانخفاض أسعار النفط.

مواجهة التدخلات التركية والإيرانية: تقوم المعادلة السياسية في إقليم كردستان على قطبين رئيسيين هما؛ الحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم في أربيل، وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني في السليمانية، لكن تشهد العلاقة بينهما حالة من التوتر كانت ذروتها في العام 2017 حينما اتهم الحزب الديمقراطي الاتحاد الوطني بالتسبب في فشل استفتاء الانفصال والتواطئ مع حكومة بغداد في السيطرة على كركوك، وضاعف من هذا الجو المشحون المشكلات الاقتصادية الناتجة عن جائحة كورونا وتوقف السياحة وانخفاضات أسعار النفط والعجز عن دفع المرتبات وارتفاع معدلات البطالة.

هذا الخلاف بين قطبي الحياة السياسية في أربيل مثّل بيئة خصبة لأنقرة وطهران للتدخل عبر تنفيذ عمليات عسكرية في الإقليم مستغلة حالة الضعف والانقسام الداخلية. فضلًا عن أن هذا التوتر الداخلي يدفع كلا الجانبين إلى البحث عن حليف خارجي، إذ يعمل الحزب الديمقراطي على تعزيز علاقاته بأنقرة الحليف الأقرب له، فيما يتجه حزب الاتحاد الوطني إلى إيران. ويحدث هذا في وقت تسعى حكومة الكاظمي إلى إبعاد العراق عن سياسة المحاور التي أنهكته على مدار سنوات، والاتجاه نحو بناء علاقات متوازنة مع كافة الأطراف العربية والإقليمية والدولية بما يضمن استقرار العراق ووحدة أراضية.

وسيكون لتخفيف المشكلات الاقتصادية في الإقليم دور كبير في إنهاء حالة الانقسام تلك، وتقريب وجهات النظر بين قطبي السياسة الأساسيين –قد يكون للكاظمي دور في هذا التقارب المأمول- ويفضي هذا الوضع إلى تمتع الإقليم بمميزات الحكم الذاتي في إطار دولة اتحادية تبسط سيطرتها على كافة أراضيها وتراجع النزعة الإنفصالية لسكان المنطقة، بما ينهي ذريعة طهران وأنقرة لانتهاك سيادة المناطق الشمالية العراقية بحجة عدم قدرة الحكومة الاتحادية على فرض سيادتها وتأمين المناطق الحدودية من أي مهددات يعتقدون أنها تطال أمنهم (المقصود عناصر حزب العمال الكردستاني). 

ولا شك أن هذا التوجه يحظى بمباركة الولايات المتحدة التي تستعد لتنفيذ انسحاب تدريجي من العراق على مدار ثلاث سنوات، والحاجة إلى ضمان عدم استغلال إيران للفراغ الناتج عن هذا الانسحاب لترسيخ وجودها في العراق. كما يبدو أنه يحظى بدعم أوروبي عبر عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال زيارته الأخيرة لبغداد حيث أكد على ضرورة البعد عن التدخلات الخارجية. وهو تحرك يحظى بمباركة عربية وبالأخص خليجية كخطوة نحو تخلص العراق من السيطرة الإيرانية والعودة إلى الحضن العربي.

ختامًا، إن الطابع الذي أخذته زيارة الكاظمي إلى إقليم كردستان يمثل تحولًا نوعيًا في العلاقة بين المركز والإقليم، حرص فيها الجانبان على تنحية الخلافات ومحاولة التوصل إلى حلول حقيقة بشأن القضايا العالقة، مدركين أن استمرار الوضع كما هو عليه ليس في صالح الطرفين، ويفتح الباب أمام المطامع الإقليمية وبالأخص التركية والإيرانية لانتهاك سيادة العراق مستغلة حالة التناحر الداخلية. لكن الطريق لا يزال طويلًا أمام تحقيق الحسم الكامل والدائم للقضايا العالقة؛ لأن هذا يتطلب إصدار تشريعات تنظم العلاقات بين بغداد وأربيل، وهو أمر لا يُمكن تحقيقه في الوقت الراهن في ظل حكومة وبرلمان مؤقتين، فضلًا عن عدم وجود اتفاق بين الكتل السياسية في البرلمان بشأن حدوث تسوية غلى هذا النحو بين المركز والإقليم.

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

ماري ماهر

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى