
إحياء محور الممانعة.. من أرسل إسماعيل هنية إلى لبنان؟
شهدت زيارة إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الفلسطينية إلى لبنان العديد من المشاهد الاستثنائية التي ميزت هذه الزيارة عن مثيلاتها، سواء الاحتفاء الكبير بهنية في جنوب لبنان الذي يسيطر عليه حزب الله، أو رفع هنية على الأعناق وإدخاله المخيمات الفلسطينية خصوصًا مخيم عين الحلوة الذي يطلق عليه الفلسطينيون عاصمة الشتات الفلسطيني في لبنان.
زيارة هنية إلى لبنان هي الأولى منذ 30 عامًا، بينما مشهد احتفاء المخيمات الفلسطينية بمسؤول فلسطيني هو مشهد لم يحدث منذ خروج ياسر عرفات من لبنان عام 1982 وانتهاء سيطرته على المخيمات الفلسطينية في لبنان.
زيارة هنية إلى لبنان ولقاؤه حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله ونبيه بري رئيس حركة امل ورئيس مجلس النواب اللبناني هي أهم تفاصيل المحطة الرابعة في جولة وفد حزب الله والتي انطلقت من إيران وقطر مرورًا بـتركيا، وهي الزيارة التي أفضت إلى حصول 12 مسؤولًا في حماس على جوازات سفر تركية بحسب تقرير لوكالة رويترز، ما أثار غضب الإدارة الأمريكية التي نددت باستقبال أردوغان لهنية للمرة الثانية خلال أقل من عام.
حركة حماس.. ما بعد الربيع العربي
كانت حركة حماس طيلة سنوات إدارة بوش الابن (يناير 2001 – يناير 2009)، قد شكلت مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية والجمهورية العربية السورية وحزب الله اللبناني وقطر ما أطلقوا عليه محور الممانعة، وكان المقصود هو رفض التوجهات الامريكية والإسرائيلية في الشرق الأوسط. وصاغ اعلام قطر هذا المصطلح وصاغ المصطلح المضاد ألا وهو محور الاعتدال العربي متضمنًا بحسب قنوات الجزيرة القطرية الدول العربية المقربة من الإدارات الامريكية وعلى رأسها مصر والسعودية والأردن والامارات.
المحور السياسي لم يكن يهدف لممانعة أو مقاومة الأجندة الغربية بقدر ما كان يسعى إلى مفاوضة الغرب والحصول على مكاسب إقليمية، سواء قطر التي تضم أكبر قاعدة أمريكية عسكرية خارج الأراضي الأمريكية، أو النظام الإسلامي الإيراني الذي يمتلك خط اتصال دائم بالإدارات الأمريكية ما يعرف بقناة جنيف، وقد نسق الإيرانيين مع الامريكان عبر قناة جنيف ذلك الهدوء الذي حظي به الاحتلال الأمريكي في مناطق نفوذ شيعة أفغانستان والعراق يوم دخلت أمريكا كابول عام 2001 وبغداد عام 2003.
وقد انضم لمحور الممانعة تركيا عقب صعود تيار العثمانيين الجدد للحكم، كما أن الرئيس السوداني عمر البشير لم ينس أن يثبت له مقعد وسط الحضور إذا ما دعت الحاجة. ولكن اختلف الأمر في سنوات إدارة أوباما (يناير 2009 – يناير 2017)، حيث انقسم محور الممانعة في الصراع على كعكة الثورة السورية، إذ أيدت تركيا وحركة حماس وقطر التمرد العسكري الذي جرى في سوريا تحت مسميات الثورة، كما دعمت أنقرة والدوحة وحماس بعض الأنشطة المناهضة للهيمنة الإيرانية على سوريا، وكان ذلك رغبة من تلك القوى في تأسيس محور إسلامي منفصل عن المحور الإيراني، والظفر بـ سوريا كاملة والعراق بعيدًا عن الهيمنة الإيرانية، واستغلال رغبة الغرب في تغيير الأنظمة في دمشق وبغداد.
وقد وصل الأمر إلى أن خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس قد رفع علم الاستقلال السوري المعروف إعلاميًا بعلم الثورة السورية، وذلك في الاحتفال بمرور ربع قرن على تأسيس حركة حماس.
وللمفارقة فإن عناصر حركة حماس قد انقسموا في سنوات الحرب السورية ما بين مؤيد لما سمى المعارضة السورية وبين مؤيد للنظام البعثي، وسجلت التحقيقات الصحفية وجود مقاتلين لحماس على الجبهتين، ولكن دون أن يكون لهذا التواجد عامل مؤثر على كلا الفريقين.
ولكن مع مجيء إدارة ترامب في يناير 2017، أدركت القوى المحلية والإقليمية التي تتخذ من الإسلام السياسي شعارًا لها أن شهر العسل مع واشنطن قد انتهي، وأن الإدارة الأمريكية الجديدة تفضل تفكيك الارتباط بين الأجندة الامريكية والحركات الإسلامية في الشرق الأوسط، بل والتخلص من الحركات والأنظمة الإسلامية.
وعلى ضوء هذا التغير الأمريكي، جرى تفاهم بين تركيا وإيران لطي صفحة الخلافات التي جرت في الملف السوري طيلة ست سنوات، وفى مايو 2017 جرت حركة تصحيح وتطهير داخل حركة حماس؛ حيث تخلصت الحركة من الجناح المؤيد للثورة السورية وذلك بإخراج خالد مشعل مدير المكتب السياسي منذ عام 1996 إلى التقاعد وتسمية إسماعيل هنية رئيسًا لهذا المكتب الذي يعتبر القيادة العملية للحركة.
هكذا في مايو 2017 أعادت حركة حماس التموضع مرة أخرى في أحضان المحور الإيراني، ولكن أتت المقاطعة العربية لقطر في يونيو 2017 لتعرقل العمل المشترك بين أعضاء محور الممانعة.
عودة محور الممانعة
مع اندلاع “ملحق الربيع العربي” أو “الربيع العربي الثاني” عبر انتفاضات شعبية في إيران والعراق ولبنان والسودان ضد النفوذ الإيراني في المقام الأول وضد حكم الإسلاميين في طهران والخرطوم أو هيمنة القوى الإيرانية في بغداد وبيروت، تفهمت تلك القوي الإقليمية أهمية العمل السياسي المشترك وإحياء محور الممانعة بعد عشر سنوات من الاقتتال المباشر ما بين مارس 2011 ويناير 2017، ثم الفتور في العلاقات أو التنسيق الثنائي دون العمل الجمعي منذ منتصف 2017 لليوم.
وزيارات إسماعيل هنية ما هي إلا رحلات مكوكية بين أطراف “محور الممانعة” من أجل إنهاء الاتفاق على ملامح التحرك في الفترة المقبلة، لذا دخل هنية إلى مناطق في لبنان لا يدخلها مسؤول لبناني أو غير لبناني إلا بأوامر مباشرة من طهران، مثل مخيم عين الحلوة أو الجنوب اللبناني، في إشارة علنية من طهران لعودة الذراع الفلسطيني لتنظيم الإخوان إلى أحضان الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
أجندة سياسية تحت قناع المقاومة
إن مفهوم المشروع الإقليمي لدى إيران وتركيا في المقام الأول وسوريا وقطر سابقًا هو الحصول على اعتراف من الدول الكبرى بالنفوذ الإقليمي، وما مناوأة تلك الحكومات أو الحركات للمشروع الإسرائيلي إلا منافسة معه على الظفر باعتراف الدول الكبرى بالزعامة الإقليمية وليس رفضًا للمشروع الإسرائيلي، بل أن المشروع التركي والإيراني والقطري وحتى التنظيم الدولي للإخوان هو ذاته المشروع التوسعي الإسرائيلي وتدمير الدول العربية والسيطرة عليها.
وبالتالي فإن المشروع التركي هو المشروع الإيراني وهو أيضًا المشروع الإسرائيلي وكذا المشروع الإخواني أو الإسلامي، والمنافسة بينهم هي مارثون الحصول على الاعتراف الدولي بالزعامة ولعب دور “شرطي الغرب” في الشرق الأوسط.
وفى هذا المضمار استغلت ما يسمى بقوى الممانعة القضية الفلسطينية والقضية اللبنانية، وتمت مصادرة البندقية الفلسطينية والبندقية اللبنانية لصالح المشروع التركي والإيراني، وبدلًا من أن تكون المقاومة بمرجعية وطنية لبنانية أو فلسطينية أصبحت المقاومة تحت طلب المشاريع الإقليمية التي لا تراعي القضية الفلسطينية واللبنانية، والنتيجة جمود في حقوق الشعبين بل وفى حق الشعبين في الحياة الكريمة بعيدًا عن حروب المحاور السياسية والطموحات الإقليمية.
يدرك أركان محور الممانعة “القديم” أن عشر سنوات غيرت الكثير، خسروا السودان، وأصبحت الحكومة السورية تابعة للنفوذ الإيراني الذي يقاوم النفوذ الروسي الصاعد في مناطق النظام السوري، ولكن النفوذ الإيراني في العراق ولبنان تضخم وكذا اليمن، وعلى صعيد آخر تضخم أيضًا الدور التركي من ضيف شرف في المحور القديم إلى شريك لإيران في المحور الجديد.
ملامح المحور الجديد هو شراكة بين إيران وتركيا والتنظيم الدولي للإخوان وقطر، على ان يلعب الأدوار المساعدة كلٌ من حزب الله وحماس والحكومات الموالية لإيران في اليمن الحوثي وسوريا البعثية إلى جانب أن لإيران اليد الطولى على الأرض في العراق ولبنان، ونفوذ إيراني ناعم في باكستان وأفغانستان أجهض العام الماضي اتفاقًا تاريخيًا للسلام بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان. بينما تمتلك تركيا اتصالات واسعة النطاق مع أغلب حركات الإسلام السياسي المسلحة عالميًا، كذا قطر ذات النفوذ القوي داخل التنظيم الدولي للإخوان وأذرعه في برلين ولندن.
لماذا الآن؟
لماذا جرت عملية “لم الشمل” الإسلامية اليوم بين فرقاء حركات وحكومات الإسلام السياسي؟ يرجع ذلك إلى اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الامريكية في ظل معركة صفرية مقبلة بين التيار القومي الرافض للتعاون الغربي مع الإسلاميين ويمثله دونالد ترامب وتيار العولمة الذي يرى في الإسلاميين حليفًا وثق فيه خلال سنوات الربيع العربي ويمثله جو بايدن.
يدرك الإسلاميون اللحظة الفارقة اليوم، أنه لو فاز ترامب فإن وعيده بالتصعيد حيال إيران وتاليًا تركيا يجبر أنقرة وطهران وباقي الأذرع الإسلامية على التجمع ومقاومة التحركات الأمريكية المستقبلية، فمن سوف يبدأ بتقليم أظافر طهران لن يتوقف في أنقرة والدوحة، بل سوف يكمل على كل شاكلة الإسلام السياسي.
أما لو فاز جو بايدن، فإن الإسلاميين يدركون أن الأخير سوف يقوم باستدعاء تفاهمات واشنطن مع الإسلام السياسي مرة أخرى، وأن ثمة ربيعًا ثانيًا للإسلاميين في الشرق الأوسط على يد بايدن النائب المقرب من باراك أوباما ونهجه.
والعامل الثالث هو الفراغ الذي جرى في الإسلام السياسي عقب تأكد عواصم القرار الإقليمي من تفكيك التنظيم المحلي للإخوان في مصر، وتخشى أنقرة والدوحة انفراط عقد التنظيم الدولي للإخوان أو السيطرة على الحركات الإسلامية الفلسطينية مثل حركتي حماس والجهاد، وأن ضبط الاتصال بين الدول الثلاث والتنظيم الدولي وتسمية مرشد جديد ومكتب إرشاد جديد بدلًا من التنظيم المحلي المنحل عمليًا في مصر أمر مهم للغاية لبقاء تماسك تنظيمات الإسلام السياسي.
والعامل الثالث هو “تحلل القيادة الفلسطينية” على ضوء إفلاس الرئيس محمود عباس “أبو مازن” وعدم قدرة حركة فتح أو منظمة التحرير الفلسطينية على إنتاج زعامة بديلة، وترى أنقرة والدوحة وطهران أهمية ان تملأ حماس “فراغ الزعامة الفلسطينية” لذا كانت مشاهد إسماعيل هنية في مخيم عين الحلوة التي لا يجرؤ مسؤول من فتح زيارته رغم أن لفتح بعض التشكيلات العسكرية داخل المخيم ولكن أصبحت شرفية أمام تنامي نفوذ حماس داخل المخيم.
ما بين الاستعداد لتبعات نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية على إيران وتركيا والإسلام السياسي برمته، وإعادة هيكلة تنظيم الإخوان عالميًا عقب سقوط التنظيم في بلد المنشأ والاستعداد لجولة جديدة من مصادرة القضية الفلسطينية لصالح الاجندات الإقليمية بترتيب استعداد حماس للانتخابات الرئاسية والبرلمانية الفلسطينية، تلك هي فلسفة إعادة ابتكار محور الممانعة صيف 2020.
وسوف يكون القناع الرئيس لهذا التحالف هو رفض الاتفاق السياسي المقرر توقيعه بين الإمارات وإسرائيل لبدء العلاقات الدبلوماسية رسميًا بين تل أبيب وأبو ظبي، ولكن في ثنايا هذا القناع تستكمل تلك القوى والحركات منافستها الإقليمية مع مصر والسعودية، وإن كان هناك توجه إعلامي وسياسي بين تلك الدول والحركات على عدم ذكر أو استفزاز مصر في المرحلة الأولى من “عودة محور الممانعة”، على ضوء الصعود الإقليمي القوي لمصر عقب ثورة 30 يونيو 2013.
خلافات داخل محور الممانعة
ورغم أن محور الممانعة يكاد يكون محورًا إخوانيًا ينتمي إلى الإسلام السياسي، سواء تنظيم الحمدين في الدوحة أو العثمانيين الجدد في أنقرة أو التيار الخميني في طهران المعروف بأنه الجناح الشيعي للتنظيم الدولي للإخوان، ولكن سنوات الربيع العربي خلفت إرهاصات لشقاق مستقبلي بين محور الممانعة الجديد.
إن الصراع داخل قوى الممانعة يكمن ما بين المحور الإيراني والمحور الإسلامي، كما اطلق عليه إعلام قناة الجزيرة أيضًا، وهو الصراع الذى جرى في سنوات الربيع العربي بين فريقين، المحور الفارسي يتضمن إيران والحكومات الموالية لها في العراق وسوريا ولبنان، إضافة إلى تنظيمات الحوثيين في اليمن وتنظيم فاطميون الافغاني وتنظيم زينبيون الباكستاني وبعض الإسلاميين في ليبيا، أما المحور الإسلامي فضم تركيا وقطر وحماس والتنظيم الدولي للإخوان ذي الاتصال بتنظيمات داعش والقاعدة وباقي التنظيمات الإرهابية التي عملت في صفوف ما يسمى بالثورة السورية والليبية والعراقية.
الخلاف بين سنة وشيعة محور الممانعة لم يكن خلافًا طائفيًا، بل هو أيضًا صراع نفوذ تدثر بالعباءة الطائفية كما تدثر الاثنان معًا بعباءة المقاومة يومًا ما، لذا حرص الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على إعطاء القيادات الحمساوية جوازات سفر تركية كما فعل من قبل مع الناشطة اليمنية توكل كرمان، في محاولة من تركيا لـتتريك ومصادرة الإسلام السياسي بكل أفرعه لصالح المشروع التركي وأفكار تنظيم العثمانيين الجدد.
ورغم أن عواصم القرار الإسلامي منشغلة بهذا المحور الجديد أنقرة والدوحة وطهران وأتباعهم في لندن وبرلين ودمشق وبيروت وصنعاء وطرابلس وبغداد، إلا أن الأجندة الحقيقية والتحرك الحقيقي لن يحدث – كما الحال مع الإسلام السياسي منذ نشأته – إلا على يد توجهات الغرب الجديدة التي سوف يتم تكليف بها حكومات وحركات الإسلاميين عقب انجلاء الضباب في واشنطن وتسمية الفائز بالانتخابات الرئاسية الأمريكية نوفمبر 2020.
باحث سياسي