أوروبا

استراتيجية موسكو في التعامل مع الازمات الدولية..بين الاستمرارية والتراجع

على مَحك الأزمات التي تُعاني منها منطقة الشرق الأوسط، تبلورت سياستان تجاه الأحداث الدامية فيها، أولى  داعمة للعمل العسكري وأخرى انتهجتها دول مثل روسيا ودول البريكس والصين وتؤمن بالحلول الدبلوماسية والتعامل مع المنطقة ككيان مُتكامل أمام محاولات إذابته في تسميات مثل شرق أوسط جديد وبين تقسيمات أخري. 

في خضم ذلك برزت روسيا على صعيد الساحة الدولية لتؤكد رفضها لنظام “الأحادية القطبية”، وانطلاقًا من هذا مثلت روسيا دورًا فاعلاً وُمهمًا في حلحلة العديد من الملفات الدولية من بينها مُكافحة الإرهاب، والأزمة السورية، إضافة لبرنامج إيران النووي، والأزمة في شبه الجزيرة الكورية، والأزمة الليبية،وعدد من الملفات الأخرى في مناطق مُختلفة من العالم. 

في هذا السياق، يُمكن تلخيص الاستراتيجة الروسية في التعامل مع الأزمات فيما يلي:

  1. تجريد أي تدخل خارجي من شرعيته.
  2. محاولة إقناع كل الأطراف باهمية الحوار، والجلوس علي طاولة التفاوض دون إقصاء لأحد.
  3. ابقاء مسافة واحدة تجمع موسكو بكل الأطراف، التي تُنادي بالحلول السلمية. 
  4. إطلاق النداءات المستمرة لتقويم عمل المؤسسات الدولية. وتشديد الانحراف عن مهامها في حماية السلم الدولي.

ومن بين الازمات الدولية التي لعبت موسكو دورًا هامًا في حلحلتها في السنوات الأخيرة:

الأزمة السورية: حيث كان لروسيا دورُا هام في إعادة الأمن إلي مناطق كبيرة في البلاد وتحقيق الاستقرار تدريجياً. حيث بذلت موسكو جهودًا منذ بداية الأزمة كان جانب منها من خلال مجلس الأمن الدولي الذي حالت فيه دون اتخاذ قرارات ضد النظام في سوريا. كما كانت المساعي الروسية في الإطار الأممي في جينيف أيضًا عبر إنشاء منصة أستانة التي كان لها الفضل في خلق مناطق خفض التصعيد، كما استضافت مؤتمر سوتشي الذي مهد الطريق للإصلاحات الدستورية، أيضًا عمل الكرملين من خلال إنشاء مركز المُصالحة على التوصل إلي تفاهمات مع مجموعات مُسلحة اختارت السلامة طريقًا لحقن الدماء في سوريا. كما ارسلت مئات الأطنان من المساعدات الإنسانية إلي سوريا، كما كان لها دور كبير وفاعل على الصعيد العسكري في القضاء على المجموعات الإرهابية ودعم نظام الرئيس السوري “بشار الأسد”.

البرنامج النووي الإيراني: لعبت روسيا دورًا محورياً في هذا الملف من خلال التوصل إلى حل بشأن برنامج إيران النووي، حيث عارضت موسكو منذ البداية الدعوات للعمل العسكري ضد طهران وتًوجَت جهودها ضمن مجموعة “5+1” بالتوصل إلي الاتفاق النووي الدولي، الذي ما يزال الكرملين مُلتزمُا به، في الوقت ذاته شجب الكرملين الانسحاب الأمريكي من الاتفاق، مُشيرًا إلي ما يُمكن أن يجلبه ذلك من اّثار سلبية علي منظومة العلاقات الدولية.

أزمة شبه الجزيرة الكورية: ساهمت روسيا في تخفيض التوتر في تلك المنطقة منذ عام 2003 ضمن المُباحثات السداسيةالتى شملت “الكوريتين الشمالية والجنوبية وأمريكا والصين واليابان وروسيا”، كما قدمت مُبادرات عِدة من بينها خريطة طريق وضعتها بالتعاون مع الصين لتحقيق سلام دائم في المنطقة،إضافة لترحيب موسكو بنتائج القمم “الكورية- الكورية” الأخيرة. 

أفغانستان: عززت روسيا من تعاونها مع الحكومة الأفغانية لمكافحة مخاطر الإرهاب وتهريب المُخدرات، مُقدمة الدعم الإنساني والتقني والعسكري للحكومة الأفغانية، وفي جهودها لمكافحة الإرهاب أنشأت موسكو بالتعاون مع طهران وبغداد ودمشق “المركز الرباعي المعلوماتي الأمني” لجمع المعلومات حول الإرهابيين.

الأزمة الليبية: باتت روسيا مؤخرًا إحدى أبرز القوى الدولية نشاطًا في الساحة الليبية، حيث دخلت سباق المساعي العديدة لفك رموز الأزمة التي تعصف بالبلاد منذ العام 2011. وألقت موسكو بكامل ثقلها في الفترة الأخيرة في الملف الليبي، مُستعينة في ذلك بمد اليد للاطراف المُتنافسة في ليبيا. مع إبداء استعدادها للمساهمة في عقد حوار بين أطراف الصراع. وترى موسكو أن تفكيك ليبيا سيؤدي إلي تنامي الإرهاب في القارة الأفريقية، ما سيؤثر بالسلب علي الأمن في الإقليم بشكل عام. كما شهدت روسيا زيارات عدة لمسؤولين ليبيين، بعضهم من حكومة الوفاق الوطني وأعضاء مجلس النواب وزيارات عدة قام بها القائد العام للجيش الليبي المشير خليفة حفتر إلى موسكو.ويمنح كل ذلك روسيا إمكانية لعب دور الوساطة للتقريب بين أطراف الأزمة الليبية. كما كثَفت موسكو  من اتصالاتها مع اللاعبين الإقليميين المؤثرين في الملف الليبي ومنهم “مصر وتركيا والجزائر….الخ”. في الوقت نفسه أكدت موسكو علي تقييمها الإيجابي للجهود الدبلوماسية المصرية وترحيبها بـ “إعلان القاهرة” الذي أصدره الرئيس المصري “عبدالفتاح السيسي” في السادس من يونيو الجاري، الداعي لوقف إطلاق النار، كما تضمنت المُبادرة استكمال مسار أعمال اللجنة العسكرية (5+5) التي ترعاها الأمم المتحدة وتضم خمسة مسؤولين عسكريين من كل طرف من طرفي النزاع.

القضية الفسطينية، كانت روسيا عضواً في الرباعية الدولية الساعية لدفع جهود السلام قُدماً، كما اعربت موسكو مراراً عن استعدادها لاحتضان مفاوضات “فلسطينية – إسرائيلية”.

استنادًا إلى ما سبق، يُمكننا القول إن روسيا لعبت وما زالت تلعب دورًا هامًا في المُحافظة علي تعددية الأقطاب في العالم، لما في ذلك من اّثاراّ إيجابية في تحقيق الأمن والسلم العالميين.

تراجع السياسة الخارجية الروسية..الأسباب والماّلات

لكن المُتتع للأوضاع الروسية في الاّونة الأخيرة، يلحظ تراجعاً أو بمعنى أدق استقرارًا في سياستها الخارجية. حيث طغت الأزمات الداخلية والتي تمثلت في انخفاض أسعار النفط، وتداعيات فيروس كورونا المُستجد علي سياسات موسكو الخارجية، وتراجعت شعبيةالرئيس فلاديمير بوتين بشكل ملحوظ وفقًا لما اظهرته استطلاعات رأي روسية. 

وفي الوقت الذي يعول فيه بوتين علي نجاح الاستفتاء علي التعديلات الدستوريةالجاري حالياًوالتي تسمح له – حال الموافقة عليه- بالبقاء في الحكم حتى عام 2036.  يتنامى عدم الرضا الداخلي من قبل المواطنين الرووس بشكل كبير.

فرغم الإجراءات التي اتخذها بوتين لدعم الشركات الناشئة كتأجيل مواعيد استحقاق القروض والضرائب، إلا أنَ ذلك لم يرضي المواطن الروسي. 

كما أحدثت أزمة فيروس كورونا تأثيراً في السياسات الروسية في في الازمات الدولية بشكل عام وأزمات الشرق الأوسط علي وجه التحديد. ويُمكن إبراز أهم التحديات التي تواجه الدولةالروسية في النقاط التالية: 

التداعيات الاقتصادية: كان انهيار اسعار النفط أحدأخطر التداعيات الاقتصادية التي طالت روسيا بسبب فيروس كورونا المستجد، حيث تعرض الاقتصاد الروسي لهزة عنيفة جراء حرب أسعار النفط التي أشعلها التوتر السعودي الروسي عندما رفضت موسكو قرارات  اجتماع منظمة أوبك في مارس 2020 بخفض الإنتاج للسيطرة على تهاوي الأسعار، مٌصرة على استمرار إنتاجها كما هو، الأمر الذي أدى في النهاية إلى انهيار الأسعار لمستويات تاريخية بلغت ما دون الصفر في بعض الأوقات.

في السياق ذاته انخفض انتاج النفط الروسي من 12 مليون برميل يوميًا إلى 6 مليون برميل فقط. وعندما حاولت موسكو زيادة نسبة الإنتاج رغم ضغوط الدول المُنتجة، جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، حيث أدت تداعيات فيروس كورونا المُستجد إلي غلق الحدود ووقف عمليات الاستيراد والتصدير بجانب تراجع الطلب علي النفط.

تداعيات فيروس كوورنا:إن تداعيات فيروس كورونا كان لها دور كبير في تعميق الأزمة، حيث أدت إلى خسائر بالجملة، أفقدت المنظومة الاقتصادية العديد من مواردها التي ظلت تعتمد عليها لفترات طويلة، وهو ما يعد تحديًا كبيرًا يضع النظام الحاكم في موقف حرج.

كما أن الأرقام الكبيرة التي شهدتها روسيا في معدلات الإصابة بالفيروس وأعداد الوفيات، كان له أثر سلبي كبير في إرهاق ميزانية الدولة واستنزاف خزانتها بصورة أثرت على بقية القطاعات والمجالات المعيشية الأخرى.

في السياق ذاته،توقع وزير المالية الروسي أنطون سيلوانوف، تراجع الإنتاج القومي لبلاده بنسبة 10% خلال الفترة القادمة، موضحًاأن عهد ازدهار الاقتصاد الروسي ولى، مستبعدًا أن ترى الدولة عائدات النفط المرتفعة مرة أخرى، وأن العقد الأول من القرن الحادي والعشرين قد لا يتكرر في التاريخ الروسي.

وبالتالي يُمكن القول إن الاوضاع الاقتصادية المُتردية ألقت بظلالها القاتمة على المشهد الداخلي، حيث زادت من حالة احتقان الشارع، الأمر الذي كشفته نتائج استطلاعات الرأي الأخيرة بشأن مدى رضا الشعب عن السياسة الخارجية لبوتين، حيث كشف استطلاع حديث أن 55% من الروس يريدون أن تنسحب روسيا من سوريا و37% يتوقعون أن سوريا سوف تصبح أفغانستان جديدة يُعاني فيها الرووس.

هذا الرأي تعزز بشكل كبير مع النتائج التي خرج بها الاستطلاع الذي أظهر انزعاج الشعب الروسي من مغامرات بوتين الخارجية خلال عام 2019، حيث تراجع معدل الموافقين على أداء بوتين من 60% عام 2017/2018 إلى 42% عام 2019، فيما يرى 27% من الجمهور أن أداء الرئيس الخارجي فاشل تمامًا، فيما وقفت النسبة المتبقية على الحياد.

استنادًا لتلك المعطيات يبدو وكأننا أمام أحدى خيارين:

  1. تراجع السياسة الخارجية الروسية في الفترة القادمة، والتركيز علي تحسين الأوضاع الاقتصادية لمواجهة مُشكلات وتحديات الداخل الروسي. وهذا ربما يدفع الرئيس بوتين لإعادة النظر في أحلام الزعامة التي يسعى لتحقيقها، فهو مُحاصر بين فكي رحى ما بين تراجع كبير في أسعار النفط إضافة للنزيف الاقتصادي وتراجع شعبيته.هذه الأمور من شأنها التاثير على السياسة الخارجية لبلاده حيال بعض الملفات، ومواضع التمركز علي خريطة التحالفات الإقليمية والدولية.
  2. استمرار تبني سياسة خارجية قوية لمواحهة تحديات الداخل، فالقارئ لشخصية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يلحظ تميزه بذكاء حاد، فهو يُجيد استغلال أنصاف الفرص وأخطاء الاّخرين. كماان طبيعة الشعب الروسي طبيعة تواقة لاستعادة مجد الاتحاد السوفيتي وأن تُصبح روسيا أحد الفاعليين البارزين في نظام دولي مُتعدد الأقطاب. وبالتالي ربما يستغل فلاديمير بوتين جائحة فيروس كوروناالتي دفعت بالولايات المتحدة الأمريكية إلى التركيز على نحوٍ كبير بشؤونها الداخلية، وكما دفعت بالدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى إظهار مشاعر قومية على نحوٍ مطرد، فإن المقاربة الأساسية التي ستعتمدها روسيا في السياسة الخارجية استناداً إلى أولوية المصالح القومية، سوف تمنحها حرية أكبر للتحرّك. وبينما تخطّ موسكو مسارها، سوف تستمر في الجمع بين الحذر الذي يحول دون التوسّع المفرط وبين الخطوات الجريئة، من أجل انتهاز تلك الفرص. فبوتين ربما يسعى باتباعه سياسة خارجية قوية والانخراط بشكل أكبر في الأزمات الدولية إلى صرف انتباه المواطن الروسي عن المُشكلات الداخلية بتحقيقه نجاحات خارجية ملموسة. وهذا رُبما ما ستكشف عنه الأيام القادمة وبالأخص إذا ما جاءت نتائج الاستفتاء علي التعديلات الدستورية الجارية حاليًا في صالح الرئيس بوتين.
+ posts

باحث أول بوحدة الدراسات الأسيوية

أحمد السيد

باحث أول بوحدة الدراسات الأسيوية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى