تركيا

انهيار اتفاقية لوزان 1923.. كذبة أردوغان التي صدقها الإخوان

يروج الإعلام التركي وعناصر تنظيم الإخوان وكافة أبواق الإسلام السياسي لفكرة أن تركيا تسعى إلى اعلان عودة الدولة العثمانية أو دولة الخلافة العثمانية عام 2023 حينما تنتهي اتفاقية لوزان التي وقعت منذ مئة عام على هذا التاريخ، وأن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يسعى منذ سنوات للوصول إلى هذا الهدف.

هذه المقولة أصبحت من أهم أركان تأييد الإسلاميين لجماعة العثمانيين الجدد، الفرع التركي لتنظيم الإخوان أو إخوان تركيا، وهي العباءة التي تنضوي تحتها كافة الحركات الإسلامية التركية التي تعمل لصالح التنظيم الدولي للإخوان.

ولكن هل هذا صحيح؟ هل اتفاقية لوزان تنتهي بعد مئة عام من توقيعها؟ إن الإجابة على هذا السؤال تستدعي العودة إلى ظروف ما قبل انهيار الدولة العثمانية لنفهم المشهد كاملًا.

الدولة العثمانية والحرب العالمية الأولى

الدولة العثمانية عشية الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) لم تكن تسيطر إلا على الولايات العثمانية جنوب الأناضول أو ما نعرفه باسم الشام، وهو اليوم سوريا ولبنان وفلسطين والأردن، وولايات عراق العرب وهو ما نعرفه اليوم باسم العراق.

أما اليمن الشمالي فكان مستقلًا، المغرب كان مستقلًا، سلطنة عمان كانت مستقلة، احتل الانجليز جنوب اليمن والامارات العربية وقطر والبحرين والكويت منذ قرابة قرن من الزمن دون أن تطلق الدولة العثمانية رصاصة واحدة، واحتل الانجليز مصر منذ قرابة الربع قرن دون أن يطلق الإنجليز رصاصة واحدة، واحتل الفرنسيون الجزائر وتونس دون أن يُطلق العثمانيون رصاصة واحدة، وكان دفاعهم ضعيفًا للغاية عن ليبيا عشية الحرب العالمية الأولى.

في الجزيرة العربية كان الملك عبد العزيز آل سعود قد بدأ عام 1902 في تأسيس الدولة السعودية الثالثة وأخرج أغلب نجد (شرق الجزيرة العربية) والأحساء من السيطرة الهشة للدولة العثمانية وبالتالي فإنه باستثناء حكم الهاشميين في الحجاز كانت شبه الجزيرة العربية خارج سيطرة الدولة العثمانية.

وبالتالي فإن الدولة العثمانية لم تخسر ولاياتها العربية في لوزان، لقد خسرتها على مدار مئة عام دون ان تطلق رصاصة واحدة.

وسواء ما يعرف بـــ “الولايات العثمانية الناطقة باللغة العربية” كانت وقتذاك عشية الحرب العالمية الأولى قد أحتلت أو أستقلت عن الدولة العثمانية، ففي جميع الأحوال كان هنالك حكومات وطنية في كافة تلك الدول تباشر اعمالها، وكانت تلك الأسر الحاكمة أو تلك الحكومات الوطنية تعمل بشكل مستقل عن الدولة العثمانية حتى قبل الاحتلال فهي ليست صنيعة الاحتلال الغربي بل أتى الاحتلال الغربي بينما تلك الحكومات والأسر الحاكمة تحكم بالفعل تلك الدول، بينما سلطة العثمانيين شرفية وشكلية وكانت مجرد حامية عثمانية مسلحة في شرق الجزيرة العربية تسليح خفيف وتكاد تعتبر في رحلة سياحية وليس عسكرية أو سياسية أو سيادية.

لماذا شارك العثمانيون في الحرب العالمية الأولى؟

على ضوء سياسات الدولة العثمانية المتحالفة مع ألمانيا القيصرية، كان منطقيًا أن تدخل الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى على أمل هزيمة بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية وإيطاليا، حيث كانت الدول الثلاث تحاصر الدولة العثمانية، في حين كانت ألمانيا هي حليف العثمانيين الوحيد.

كما أن وجود اليونان ومملكة صربيا ومملكة الجبل الأسود، جيران نفوذ العثمانيين في البلقان، في صف الحلفاء مع لندن وباريس وموسكو وروما، سارع بدخول العثمانيين الحرب على أمل استرداد النفوذ المفقود في البلقان.

هكذا سعى العثمانيين عبر الحرب إلى هزيمة القوى العظمى التي تحاصر الدولة العثمانية، واسترداد النفوذ العثماني في البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى والخليج العربي وشمال افريقيا، وذلك بالتحالف مع ألمانيا القيصرية والإمبراطورية النمساوية المجرية.

هزيمة المحور الألماني العثماني وانتهاء الحرب

هزمت ألمانيا القيصرية وسقط نظامها القيصري على وقع الثورة الشعبية، وأعلنت النظام الجمهوري، وضربت ثلاث ثورات شعبية روسيا القيصرية في عام واحد واستولى البلاشفة الشيوعيون على السلطة وأعدموا القيصر وأسقطوا النظام القيصري، وهكذا فكك الغرب القوى السياسية التي كان يريد تفكيكها وأتى الدور على العثمانيين عقب الهزيمة في الحرب العالمية الأولى.

وافق الخليفة محمد الخامس على بنود اتفاقية سيفر التي وقعت في 10 من أغسطس 1920، والتي تعطي للكرد حكمًا ذاتيًا يفضي إلى استفتاء لتقرير المصير، وهو استفتاء كان معروفًا نتيجته مسبقًا وقتذاك على ضوء رغبة الكرد الملحة للانفصال، وكان يفترض للاستفتاء أن يشمل ولاية الموصل التاريخية أي شمال العراق وغربه، وأجزاء من جنوب تركيا اليوم، بالإضافة إلى إنشاء جمهورية أرمينيا الكبرى على ما يعرف اليوم بشرق تركيا، ووضع المضايق التركية تحت الإدارة الدولية، بالإضافة إلى إعطاء اليونان وفرنسا وإيطاليا مناطق داخل ما يعرف اليوم بجمهورية تركيا، بينما تقلصت الدولة العثمانية إلى شمال وشمال غرب الأناضول فحسب.

حرب أتاتورك

ولكن مصطفى كمال أتاتورك رفض هذه المعاهدة وحشد بقايا وفلول الجيش العثماني لما يعرف بـ حرب الاستقلال التركية (1919 – 1923) ضد الانفصاليين الأرمن والكرد، وأرمينيا واليونان المدعومين من بريطانيا وفرنسا.

أسفرت انتصارات أتاتورك العسكرية عن معاهدة لوزان في 24 يوليو 1923، حيث تعترف المعاهدة بحدود تركيا اليوم على كامل الأناضول وإقليم تراقيا البلقاني، ولولا ما فعله اتاتورك لأصبحت تركيا مجرد زقاق في الأناضول دون جنوبها ودون شرقها في الوقت الراهن وأسس أتاتورك جمهورية تركيا المتعارف عليها منذ عشرينات القرن العشرين حتى اليوم.

وللمفارقة، فإن الرواية التي ينشرها الإسلاميين منذ عقود، تنص على أن العثمانيين ناضلوا ولم يستسلموا أمام الحلفاء، بينما سلطانهم محمد الخامس وافق على تقليص دولة الخلافة إلى إقليم شمال الأناضول، بينما يعتبر نفس الجمهور أن أتاتورك – الذي حافظ على دولة تركية قابلة للحياة حتى اليوم – عميلًا للاستعمار وأعداء الإسلام!

كذبة العثمانيين الجدد التي روج لها الإسلام السياسي

وحينما وقعت تركيا على اتفاقية لوزان، لم تتنازل تركيا عن الشام وشمال افريقيا والعراق أو ما يعرف بالولايات العثمانية الناطقة باللغة العربية ولكن تركيا تعهدت بعدم الأدعاء بأي حق لها في هذه المناطق والاعتراف بالحكومات المستقلة بها أو الدول الموجودة تحت الانتداب.

البعض يقول أن تركيا تنازلت مرغمة على تلك الدول وقتذاك، ولكن السؤال الحقيقي هل كانت تركيا أو الدولة العثمانية قبل اتفاقية لوزان تمتلك السيادة على تلك الدول اصلًا؟ هل كانت تمتلك السيادة على تلك الدول حينما انتهت الحرب العالمية الأولى عام 1918؟ بل وهل كانت تمتلك السيادة على شمال افريقيا والجزيرة العربية يوم بدأت الحرب العالمية الأولى عام 1914؟

يدعي الإسلاميين أن ” لوزان رسمت حدود ومعالم الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط بكامله خلال العقود التالية لتوقيع تلك المعاهدة” وهذا غير حقيقي لأن المعاهدة رسمت جغرافيا تركيا فحسب، التي تعتبر البلد الوحيد في الشرق الأوسط الذي ربح من تلك المعاهدة، بعد أن نجت من مصير التقسيم الذي أعدّته القوى الكبرى لها من خلال معاهدة سيفر، بينما كافة معالم الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط كانت واضحة وثابتة من قبل سقوط الدولة العثمانية.

وبحسب القانون الدولي وغيره من كافة القوانين والأعراف، فإن اتفاقية لوزان لا تنتهي بعد مئة عام كما يدعي الاعلام التركي والإخواني، فهي كما أغلب الاتفاقيات الدولية مستمرة الى أن تندثر تحت الاحداث السياسية والاتفاقيات الدولية الاحدث، ولا يحق لتركيا إذا ما أعلنت الانسحاب من جانب واحد أن تعلن أحقيتها في الولايات العثمانية السابقة بحسب القانون الدولي وبحسب كافة القوانين والأعراف التي تحكم السياسية الدولية منذ فجر التاريخ.

بل وحتى لو عادت الاسرة العثمانية الى الحكم في انقرة، وجلس آخر احفادها على عرش تركيا وأعلن النظام الملكي أو الخلافة الإسلامية وتغيير أسم جمهورية تركيا الى الدولة العثمانية أو حتى دولة الخلافة العثمانية فإنه وبحسب القانون الدولي وكافة القوانين والأعراف السياسية لا يحق لهذه الدولة المطالبة بما خسرته بالحرب وغير الحرب في الحرب العالمية الأولى وما قبلها وما بعدها.

كل ما في الأمر أن العثمانيين الجدد أو الإسلام السياسي التركي لديه مشروعه الاستعماري الإمبريالي الخاص، ونظرًا لان المشاريع الإمبراطورية يجب أن يكون لها سند تاريخي، فإن مجد الإمبراطورية العثمانية كان الديباجة التاريخية الجاهزة، مثلما يدعى الإسلاميون حكام الجمهورية الإسلامية الايرانية رغبتهم في استرداد أمجاد الامبراطوريات الفارسية.

والحاصل أن الغرب لم ينس هزيمته أمام مصطفي كمال أتاتورك، ولم ينس أن الأخير وقف أمام نشأة جمهورية اليونان الكبرى وجمهورية أرمينيا الكبرى التي كان يجب أن تضم شرق تركيا الحالية كاملة، لم ينس أن الهزيمة أمام أتاتورك عرقلت ظهور كردستان التي ينظر إليها الغرب باعتبارها إسرائيل رقم اثنين أو “إسرائيل الاناضول”، لم ينس الغرب أن الخليفة العثماني وافق على تقسيم أجزاء من تركيا الحالية ما بين فرنسا وإيطاليا واليونان، وأن الخليفة وافق على أن تصبح ولاية الموصل كاملة تحت الحكم الذاتي للكرد ما يعني عمليًا انشاء عراق ضعيف عقب الحرب العالمية الأولى وليس العراق القوي الذى يضم الولايات العثمانية العراقية الثلاث (ولاية الموصل وولاية بغداد وولاية البصرة) كما الحال اليوم.

ولم يجد الغرب أفضل من الإسلاميين لتشويه اتاتورك وسيرته، خاصة أن المجتمع التركي لديه تيار إسلامي من أيام الدولة العثمانية وبالتالي من السهل تمويله وتحريكه واستخدامه وضمه إلى مؤامرة الإسلام السياسي التي صنعتها بريطانيا في القرن الثامن عشر قبل أن ترى كل دولة عظمى في العالم أن الإسلام السياسي مجرد جماعات وظيفية يسهل استأجراها وتوظيفها بالمال والسلاح من أجل خدمة أجندته الغربية.

+ posts

باحث سياسي

إيهاب عمر

باحث سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى