
“سيول عاصفة التنين”.. مصر تنتقل من “رد الفعل” إلى استراتيجية التنبؤ والاستعداد للمواجهة
شهدت مصر الخميس 12 مارس 2020 حالة من سوء الأحوال الجوية سميت شعبياً واعلامياً “سيول التنين”، وصنفت باعتبارها الأعنف منذ سيول عام 1994.
ورغم شدة الامطار وتعطيل حركة القطارات ومترو الانفاق وبعض طرق المرور إلا أن هنالك حالة من الاستحسان الشعبي لإجراءات الحكومة المصرية التي بدأت عشية الخميس ولم تنتظر بدء اليوم لمعرفة مدى تأثير تلك السيول والرياح على الحياة العامة.
يرجع ذلك الى تغير شامل في استراتيجية الدولة المصرية في مواجهة سوء الأحوال الجوية، على ضوء حقيقة ان المتغيرات المناخية في العقد الأخير صنعت خارطة طقس جديدة للعالم اجمع، جعلت دول حوض البحر المتوسط تضربه ظواهر مناخية اشبه بالأعاصير التي لا تتواجد الا في المحيطات.
الاستراتيجية الجديدة لا تجعل الدولة المصرية – حكومة وشعباً – تنتظر درجة سوء الأحوال المناخية ومن ثم تتخذ ردة الفعل، ولكن للمرة الأولى يتم استباق الفعل نفسه بحزمة من القرارات الحكومية التي اثبتت في الساعات الأخيرة مدى دقتها.
القرار الأول، كان تعليق العمل الحكومي والخاص والدراسة المدرسية والجامعية وإعطاء إجازة، رغم ان حكومة د. مصطفى مدبولي أعلنت مرتين من قبل قرارات مشابهة بسبب سوء الأحوال الجوية ومع ذلك أتي الطقس في المرتين هادئ نسبياً واطلق ذلك موجة من المزاح عبر وسائل التواصل الاجتماعي لم تصل الى حد السخرية، ولكن أن تتخذ أجهزة الدولة نفس القرار للمرة الثالثة على التوالي دون تخوف من موجات السخرية والمزاح عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كان رسالة مهمة ان الدولة المصرية لا تخشى حملات السخرية على حساب العلم والمعايير الدولية.
طالما وصل إلى الأجهزة الحكومية ارقام تتعلق بسوء الأحوال الجوية تستدعي إجازة عامة، فأن الحكومة تصدر القرار فوراً دونما النظر لتجارب سابقة لم يكن الطقس يستدعي نفس القرار.
هذه الاستراتيجية تعني عملياً افساح الشوارع أمام أجهزة الدولة التنفيذية للتصدي الى سوء الأحوال المناخية دون أن يصبح الشعب عائق ولتقليل الخسائر البشرية وتقليص معاناة الشعب من هذا المناخ.
القرار الثاني، كان قطع المياه بشكل متتالي عن بعض الاحياء تباعاً، ولاحقاً وقت الذروة عقب غروب الشمس في كامل محافظتي القاهرة والجيزة، ولم يكن ذلك عبثياً، ولكن الحكومة المصرية قدرت كميات المياه التي سوف تهبط على تلك المحافظات، مع قياس مدرى القدرة الاستيعابية لشبكات الصرف لاحتواء تلك المياه مضافا إليها كميات مياه الصرف الصحي اليومية.
وعلى ضوء عدم قدرة شبكة الصرف على استيعاب الرافدين معاً، مياه السيول ومياه الصرف الصحي، وعلى ضوء حقيقة أن كافة شبكات الصرف في العالم لها قدرة استيعابية ولا تستطيع أن تستقبل كافة كميات المياه بشكل مطلق، وتماماً كما يحدث في الأعاصير التي تضرب الولايات المتحدة الامريكية على وجه التحديد، تم قطع المياه وبالتالي تقليل مياه الصرف الصحي، من اجل تحويل شبكة الصرف الصحي الى شبكة استيعاب خالصة لمياه الامطار.
بعد افساح الشوارع للأمطار يأتي افساح شبكة الصرف الصحي لتلك المياه، في خارطة مسارات معقدة أشرفت عليها أجهزة الدولة، عبر غرفة عمليات مركزية، شارك فيها مجلس الوزراء بكامل تشكيله، وهنا يأتي العامل الثالث الا وهو العامل الاداري الحكومي.
غرفة عمليات مركزية لإدارة الأزمة
شكل مجلس الوزراء “غرفة العمليات المركزية للحكومة لمتابعة أحوال الطقس على مستوى الجمهورية”، حيث كان المجلس في حالة انعقاد دائم برئاسة الدكتور مصطفى مدبولي.
وتمثلت الجهود الحكومية الميدانية في نزول كافة عناصر الأجهزة المدنية الى الشوارع، من رجال مرور وإطفاء وإسعاف ونظافة وإغاثة، وظهر رؤساء الاحياء في الشوارع يقودون العمل بنفسهم، إضافة الى المحافظين ونوابهم، وأغلب هؤلاء النواب ينتمون إلى برنامج التأهيل الرئاسي للشباب في أصعب اختيار لهذا الجيل الشاب من رجالات الدولة.
كما أن كافة أجهزة وزارة الداخلية كانت في حالة طوارئ، ولم يقتصر الأمر على شرطة المرور او المرافق والكهرباء فحسب، ولكن كان كافة قيادات مديريات الامن في المحافظات في مكاتبهم دون العودة الى منازلهم في هذا اليوم الاستثنائي.
وزير الإسكان والمرافق والتنمية العمرانية الدكتور عاصم الجزار قاد الجولات الميدانية للوزراء، على ضوء مهام وزارته المتعلقة بالمرافق والتجمعات العمرانية، وذلك منذ التاسعة صباح الخميس وحتى اليوم التالي.
الدكتور نيفين القباج وزيرة التضامن الاجتماعي نشرت فرق التدخل السريع التابعة للوزارة، وقامت بإيواء 323 متشرد أغلبهم من المسنين وذلك في دور الرعاية التابعة للوزارة، كما شكلت الوزارة غرفة عمليات مشتركة مع مؤسسات المجتمع الأهلي وعلى رأسهم جمعية الهلال الأحمر والتأكد من استعدادات الهلال الأحمر بحقائب كافية من الإسعافات الأولية والأدوية، وتوفير العدد اللازم من الأطباء.
وزارة البيئة أصدرت تقارير بشأن حالة جودة الهواء وعدم تسبب سوء أحوال الطقس في تلوث الهواء، وذلك عبر منظومة الإنذار المبكر.
الدكتور على المصيلحي وزير التموين والتجارة الداخلية شكل غرفة عمليات مركزية تتابع سير عمل المنظومة التموينية وضمان انتظام صرف كميات الدقيق للمطاحن وصرف الخبز والسلع التموينية للمواطنين.
وزارة الري اتخذت حزمة من الإجراءات شملت تقليل التصرفات من بحيرة ناصر لاستيعاب كميات الأمطار في مجرى نهر النيل، والترع، والمصارف، وتخفيض مُستوى البحيرات، وكذلك الاستفادة من السدود المقامة خلال السنوات الأربع الماضية، في شمال وجنوب سيناء، والبحر الأحمر، والصحراء الغربية للتعامل مع هذه الظاهرة.
الدكتور أشرف صبحي وزير الشباب والرياضة يوجه بفتح مراكز الشباب والمدن الشبابية والتعليم المدني للحالات الطارئة.
اللواء محمود شعراوي وزير التنمية المحلية وظف المحليات لتصبح ضابط الاتصال بين مجلس الوزراء ومديرات الامن والحماية المدنية والقوات المسلحة في المحافظات.
هيئة الأرصاد الجوية برئاسة اللواء هشام طاحون لم تلق بيان عشية الخميس وصمتت، ولكن على مدار الخمس كانت توضح شدة وضعف الامطار عبر بيانات متتالية، وبالفعل أصدرت قبل الساعة الرابعة عصراً بياناً يوضح ان الموجة الاشرس بعد قليل وصدق البيان.
الحرب الرقمية كانت حاضرة
بل وفى غمار تلك الازمة، لم تهمل أجهزة الدولة الحرب الرقمية والإعلامية التي تمر بها مصر، حيث قامت قناة الجزيرة القطرية إحدى الأذرع الإعلامية التي احتضنت خطاب تنظيم الاخوان منذ تأسيسها، بنشر صور لأحياء العاصمة الإدارية الجديدة وعنوت الصور بأن مدينة الأغنياء لم تغرق، وسرعان ما ظهرت صور عبر وسائل التواصل الاجتماعي لحي الاسمرات الذى نقلت الحكومة إليه سكان بعض البؤر العشوائية وهو صامد أمام الأمطار دون أن تغرق، مرافقه تماماً مثل العاصمة الإدارية الجديدة، وهكذا ووسط الأزمة فأن الشق الإعلامي لم يكن غائباً وأمام خطة الجزيرة ولجان الإخوان الإلكترونية لحقن الوعي المصري بجملة “مدينة الأغنياء بخير” ، اتي الرد بالقول “ومدينة الفقراء كذلك”.
تكاتف رجل الشارع مع مؤسسات الدولة
واخيراً رجل الشارع المصري استخدم ما لديه من إمكانيات ومقدرات في التعاون مع أجهزة الدولة، وقامت بعض التجمعات التجارية والمحال والفنادق بل وبعض البيوت بفتح أبوابها لمن اضطر للنزول في ذلك اليوم ولم يستطع العودة لبيته، بعض المساجد والكنائس فتحت ابوبها للمشردين والمغتربين، وأصحاب عربات الدفع الرباعي القادرة على السير في تلك الطرق سارعت بالنزول الى الشوارع لقطر السيارات العادية التي علقت في تلك الأجواء الى طرق آمنة.
التحول في استراتيجية الدولة لمجابهة التغير المناخي
ولفهم أكبر لهذا التحول في استراتيجية الدولة المصرية في التعامل مع المتغيرات المناخية وسوء الأحوال الجوية، من استراتيجية “رد الفعل” ذات الطابع الدفاعي إلى استراتيجية “استباق الفعل” التي تمثل ضربة استباقية للنتائج السلبية بغية تحجيمها، لا ينبغي مقارنة إجراءات الحكومة في مارس 2020 بما سبق من سوء الأحوال الجوية في
شتاء 2019/2020، ولكن بما جرى في سيول 1994 على ضوء ان الخميس 12 مارس 2020 هو الأقوى منذ العام 1994.
عشية سيول 2 نوفمبر 1994، لم تأخذ حكومة الراحل عاطف صدقي التحذيرات العلمية على محمل من الجد، رغم ان التوقعات التي صدقت، نصت أن السيول سوف تتجاوز في قوتها سيول 29 نوفمبر 1957 التي كانت الأعنف في تاريخ مصر قبل سيول 1994، ولم تتخذ الحكومة المصرية وقتذاك أي إجراءات استباقية.
أدت سيول 1994 الى وفاة ما لا يقل عن 600 مواطن اغلبهم في قرية درنكة بمحافظة أسيوط، تلك القرية التي طمرت تحت امطار السيول واختفت من الخارطة المصرية وأصبحت جزءاً من كتب التاريخ، إضافة الى انفجار مستودعات البترول في أسيوط ما ادي الى حرائق هائلة، وغرق 70 نجع في محافظات جنوب مصر، إضافة الى عطل شامل ضرب الاحياء الشعبية في القاهرة والجيزة والقليوبية والطرق السرية وغرق كافة محطات مترو الانفاق الخط الأول والوحيد آنذاك، وصولاً الى كارثة إنسانية في محافظتي شبه جزيرة سيناء.
ولفهم أكبر لهذا التحول في استراتيجية الدولة المصرية، لنا ان نتخيل لو كان يوم 12 مارس 2020 يوماً عادياً في العمل بالقطاع العام والخاص وقطاع الاعمال، والدراسة المدرسية والجامعية، وكيف كان حال الملايين في الشوارع وكيف عرقلوا عمل الدولة بكافة مؤسساتها في لجم الازمة بالشوارع.
تقليل الخسائر البشرية إلى أقل من 5 % مما جرى عام 1994، وعدم حدوث كارثة في قطاع البترول او النقل كما جري عام 1994، أو طمر قري بأكملها أسفل مياه الامطار، انتقلت الدولة المصرية عملياً من استراتيجية رد الفعل الى استراتيجية استباق الفعل.
اهتمام الرئيس السيسي بقضايا التغير المناخي
يذكر ان قضايا التغير المناخي كانت ضمن القضايا التي نوقشت خلال فعاليات النسخة الثالثة لمنتدى شباب العالم فى شرم الشيخ ديسمبر 2019 بحضور الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي أبدى تجاوباً واهتماماً بهذه القضية خلال فعاليات المنتدى بحضوره الشخصي ومداخلاته الثرية.
واستيقظ المصريون يوم الجمعة 13 مارس 2020 وقد وجدوا تهنئة وإشادة من الرئيس عبد الفتاح السيسي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يشيد بالأداء الحكومي وتكاتف الشعب مع مؤسسات دولته بوعي وثقة وتلاحم من أجل تجاوز تلك الظروف المناخية الغير معهودة على مصر.
باحث سياسي