الصحافة المصرية

دور مبارك في تطويق تداعيات “غزو الكويت”.. أزمة غيرت وجه المنطقة

لعل الغزو العراقي للكويت في أغسطس 1990، والتداعيات السياسية والعسكرية التي تلته حتى حرب تحرير الكويت في العام التالي، كانت من أهم التحديات والأزمات التي واجهت الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك. فقد كان الغزو بمثابة زلزال إقليمي، تكاملت نتائجه مع نتائج عدة زلازل إقليمية سابقة، بداية من الحرب العراقية الإيرانية، مروراً بالحرب الأهلية اللبنانية، ووصولاً إلى المعارك السوفيتية في أفغانستان، وتفكك الاتحاد السوفيتي، وبدء حقبة القطب الأوحد على المستوى الدولي.

حقيقة نوايا العراق تظهر تدريجياً

القيادة المصرية في ذلك التوقيت، تنبهت مبكراً إلى نوايا العراق، خلال مؤتمر القمة العربي غير العادي السادس، الذي انعقد في العاصمة المغربية في مايو 1989، حيث هاجم الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، الولايات المتحدة الأمريكية بشكل حاد خلال كلمته في القمة، وهو ما أثار استغراب مبارك، ودفعه الإعراب للرئيس صدام عن اعتراضه على هذا الهجوم، خاصة وأن الولايات المتحدة كانت داعمة بشكل كامل للعراق خلال حربه معه إيران. ولكن بدا للقيادة المصرية أن هذا الهجوم من جانب العراق على واشنطن، هو مقدمة ربما لخطوة عراقية قد تقلب الموازين في الشرق الأوسط، خاصة أن الرئيس العراقي كرر هجومه الشديد على الولايات المتحدة، خلال قمة مجلس التعاون العربي، التي انعقدت في العاصمة الأردنية في فبراير 1990.

تفهمت مصر بعض من دوافع العراق، فالقاهرة كانت حينها تعاني من ظروف اقتصادية صعبة، ناتجة عن المجهود الحربي للجيش خلال حرب أكتوبر 1973، ناهيك عن المقاطعة العربية للقاهرة عقب توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل، في حين أن العراق كان أيضاً يعاني اقتصاديا، كأحد نتائج حرب الثماني سنوات مع إيران، والخسائر التي أعقبتها لقطاع النفط العراقي. كما أن العراق بدء في هذا التوقيت، يلمح بأكثر من طريقة، أنه يشعر ببوادر مؤامرة إقليمية ودولية عليها وعلى نظام حكمه، تستهدف خنقه اقتصاديا.

خلال مؤتمر القمة العربي غير العادي السابع، الذي انعقد في العاصمة العراقية في مايو 1990، لاحظت جميع الوفود تصاعد اللهجة العراقية تجاه دول الخليج، دون أن يقوم بتسميتها، وذلك رغبة منه في مزيد من الدعم المالي من الدول الخليجية، وقد شاركه في ذلك الأردن الذي كان يعاني من أزمة اقتصادية خانقة. وعلى الرغم من حصول العراق على دعم نقدي كبير من دول الخليج، إلا أن الرئيس العراقي في كلمته الختامية بالمؤتمر، ذكر أن بعض الدول العربية، تقوم بزيادة إنتاجها من النفط، وهو ما يعد حرب على العراق، لأن دخل العراق من صادراته النفطية سوف ينخفض بالتبعية، وكانت الكويت هي الدولة العربية المقصودة في كلام الرئيس الأسبق صدام.

يوليو الساخن في العراق

تفاقم الوضع العراقي أكثر على المستوى الاقتصادي، عقب بدء مجلس الشيوخ الأمريكي، بحث إمكانية فرض عقوبات اقتصادية على بغداد في يوليو 1990، وفي نفس الشهر ألقى الرئيس العراقي خطاباً هاجم فيه الولايات المتحدة، (والأفراد والدول الموجودة في المنطقة العربية، والتي تنفذ أساليب الضغط الاقتصادي على العراق)، وقد ترافق الموقف العراقي مع اتهامات وجهتها بغداد للكويت، بشأن حقل الرميلة النفطي الموجود على الحدود بين البلدين. وقد أكد هذا الموقف، وزير الخارجية العرافي طارق عزيز، خلال مشاركته في اجتماع لوزراء الخارجية العرب في تونس بنفس الشهر.

مبارك من جانبه، بدء عقب متابعته لتصريحات طارق عزيز، في تلمس خطورة الموقف القائم، وهذا دفعه لمقابلة عزيز في القاهرة لاستجلاء الموقف العراقي، خاصة وأن تحركات عسكرية عراقية في جنوب البصرة، بدأت في الظهور بشكل مكثف خلال النصف الثاني من يوليو 1990. تلت مقابلة مبارك لعزيز، جولة من الاتصالات الهاتفية مع ملوك وأمراء دول الخليج، ثم زيارة قام بها مبارك إلى الأردن، لمقابلة الملك حسين وبحث حقيقة النوايا العراقية.

عقب زيارة الرئيس الأسبق مبارك إلى الأردن، بدأ مبارك جولة مكوكية بين بغداد والكويت والرياض، في مبادرة كانت تستهدف تحقيق ثلاثة نقاط أساسية، النقطة الأولى: هي استجلاء حقيقة الموقف العراقي، والثانية: هي محاولة وقف الحملات الدعائية والصحفية المتبادلة، والثالثة: محاولة إطلاق مفاوضات حول نقاط الخلاف الأساسية بين العراق والكويت. بدأت الجولة بزيارة مبارك لبغداد في الرابع والعشرين من يوليو، ولقاؤه المطول مع الرئيس الأسبق صدام حسين.

على الرغم من تعهد الرئيس العراقي حينها لمبارك، بعدم التصعيد مع الكويت، وعدم وجود نية لتحريك القوات العراقية عبر الحدود، وهو ما ذكره الرئيس الأسبق مبارك خلال مؤتمر صحفي عقب انتهاء زيارته للعراق، إلا أن تناول وسائل الإعلام العراقية لزيارة مبارك، وتأكيدها أن مسألة التوتر مع الكويت لم تكن على طاولة البحث، أثارت مزيد من الشكوك لدى القيادة المصرية، حول حقيقة النوايا العراقية.

ولهذا، أعرب الرئيس الأسبق مبارك إلى القيادة الكويتية، عن توجسه هذا، وطالبها بمزيد من الحذر، وأعرب عن استعداد مصر تلبية أية طلبات كويتية بخصوص مساعدات عسكرية دفاعية، وقد تحدث مبارك بنفس المعنى خلال زيارته إلى الرياض عقب زيارته للكويت مباشرة. أثمرت مساعي مبارك في الأيام الأخيرة قبيل الغزو، عن ترتيب لقاء مشترك بين العراق والكويت لبحث قضية الحدود بينهما، وقد أبلغ مبارك هذا النبأ إلى صدام حسين هاتفياً، أثناء لقاء الأخير مع السفيرة الأمريكية في بغداد. وبالفعل تم هذا الاجتماع في المملكة العربية السعودية، بحضور نائب رئيس مجلس قيادة الثورة العراقي، ووزير الخارجية الكويتي، وانتهت هذه المباحثات في 31 يوليو 1990، دون تحقيق أية نتائج.

عقب الكارثة.. إدارة الأزمة

برغم الصدمة المصرية الشديدة من عملية الغزو العراقية للكويت، إلا أن خطوات القيادة المصرية لإدارة الأزمة بدأت فعلياً في اليوم التالي للغزو، وتحديداً في الثالث من أغسطس 1990. الاستراتيجية المصرية في هذا الصدد كانت بالتعاون مع الأردن، وتتمحور حول فكرة عقد قمة عربية مصغرة في الرياض، يتم فيها إلزام العراق بنقطتين، الأولى هي انسحاب العراق الكامل من الكويت، والثانية إعادة الشرعية الأميرية إلى الكويت واعتراف العراق بها. لكن لم تتجاوب القيادة العراقية مع جهود مبارك والملك حسين، بل وأكدت على أن الكويت جزء من أراضيها، وذلك عبر رسالة حملها نائب الرئيس العراقي عزة الدوري إلى العاهل السعودي الملك فهد، فاضطرت مصر إلى إدانة العدوان العراقي بشكل واضح في نهاية اليوم التالي للغزو.

الموقف المصري عقب الغزو كان واضحاً بشكل كبير، على عكس بعض الدول العربية، التي أيدت الغزو علناً، أو حاولت تجنب إدانته بشكل علني، أملاً في الحفاظ على علاقاتها مع العراق.

وعلى الرغم من تسارع الأحداث بعد ذلك، ما بين عناد العراق ورغبة الكويت في استعادة سيادته بأي ثمن، وفشل محاولات الوساطة التي قامت بها بعض الدول مثل اليمن والأردن لإثناء العراق عن موقفه، وبدء الإدارة الأمريكية في التحضير لعمليات عسكرية تستهدف إزاحة القوات العراقية من الكويت، استمرت محاولات مبارك لإيجاد حل سلمي لهذه الأزمة، فقام في السادس من أغسطس 1991، باستدعاء السفير العراقي في القاهرة “نبيل نجم”، وأخبره بالسفر فوراً إلى بغداد على متن طائرة مصرية سيتم وضعها تحت تصرفه، بهدف إقناع الرئيس صدام بضرورة إعلان انسحاب قواته من الكويت، على أن تضمن مصر عدم إحراج بغداد، وخروجها الآمن من هذا الملف. لكن لم يتمكن السفير العراقي من تنفيذ هذه المهمة، وعاد في اليوم التالي إلى الإسكندرية وبمعيته نائب رئيس مجلس قيادة الثورة عزة الدوري، الذي أعاد ترديد نفس المعنى الذي ذكره سابقاً إلى العاهل السعودي، وهو أن ضم الكويت للعراق قرار لا رجعة فيه.

على أثر هذه النتائج، قام مبارك بمحاولته الأخيرة لحل هذا الملف بشكل سلمي، فألقى خطاباً إلى الأمة العربية، حذر فيه من خطورة الوضع الذي تقترب منه الأزمة بين العراق والكويت، ودعا إلى اجتماع قمة عربية في القاهرة، انعقد بالفعل في أغسطس 1991، وقد شهد هذا المؤتمر تجاذبات عديدة بين المجتمعين، خاصة وأن الموقف المصري كان يحاول للحظة الأخيرة تجنب تحريك الولايات المتحدة لقواتها التي بدأت في التدفق إلى دول الخليج، وتفعيل حل عربي يقي العراق والمنطقة شر نتائج أي تواجد عسكري أجنبي في المنطقة.

لكن إزاء تشرذم الموقف العربي، وتعذر القمة في إنتاج موقف موحد تجاه الغزو العراقي، بدأت القاهرة بمعية دول عربية أخرى منها سوريا، في التجهيز للمشاركة في الحملة العسكرية لإجبار العراق على الانسحاب من الكويت، وقد أرسلت بالفعل عقب موافقة البرلمان، وحدات عسكرية إلى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، تراوح قوامها بين 25 و35 ألف جندي، لكن كانت الأوامر الممنوحة لهذه القوات محددة بشكل دقيق، وتنحصر في تحرير الأراضي الكويتية حصراً، دون أي تقدم ضمن الأراضي العراقية، وقد رفض مبارك خلال حديث هاتفي مع الرئيس الأمريكي آنذاك جورج بوش، المشاركة في إسقاط النظام العراقي، وأثناه عن خططه لدخول العراق، مهدداً إياه بخسارة الدعم العربي لهذه الحملة العسكرية، وهو ما دفع التحالف الدولي للتوقف في تقدمه البري على المناطق الجنوبية لمحافظة البصرة العراقية، ومن ثم الانسحاب منها عقب وقف إطلاق النار.

جدير بالذكر، أن صحيفة “القبس” الكويتية كانت قد قدمت عام 2017، عرضاً لبعض الوثائق البريطانية التي توثق هذه الفترة، ومنها وثائق تتحدث عن محاولات الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، استمالة مبارك وإقناعه بتبني وجهة النظر العراقية في هذه الأزمة، فقبل يومين من الغزو، اتصل صدام بمكتب مبارك، عارضا عليه 50 مليون دولار، لضمان وقوفه على الحياد في ما يتعلق بالأزمة بين العراق والكويت، وعقب الغزو، زار الرئيس اليمني الأسبق علي عبد الله صالح القاهرة، وعرض على مبارك أن يقوم صدام بإلغاء كافة الديون المترتبة على مصر للكويت، وكذا تزويد مصر بملايين الدولارات لسد ديونها الخارجية، مقابل تغيير موقفها من الغزو.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى