
كيف نفهم النظام السياسي في العراق؟
لتمتعه بموقع جيوسياسي متميز.. وثروة نفطية هائلة.. تعد الأقل تكلفة في الإنتاج.. وتضمن استمرار تدفق النفط من الشرق الأوسط بأسعار مقبولة، أصبح العراق مطمعًا للعديد من الدول على مدار التاريخ، التي أثرت في احداثه السياسية وجعلته يشهد عدة تحولات عنيفة، خاصة منذ نشأة الدولة العراقية الحديثة في مطلع العشرينيات من القرن الماضي، ما أثر على طبيعة الحياة السياسية التي تعيشها.
إلا أن التحول الذي عاشه العراق في 2014، كان الأسوأ على حال بنية قواه السياسية، التي عانت من تحديات خطيرة مست وحدته وتماسكه، بعدما سقطت عدة مدن كبرى تحت سطوة التنظيم الإرهابي “داعش”، وهو ما كان دليلًا واضحًا على “هشاشة” تلك البنية، التي باتت تعيش في حالة من التشتت والانقسام، ما أدى لظهور قوى سياسية جديدة تحاول التخلص من أخطاء القوى السياسية الحاكمة في الوقت الراهن.
المحاصصة في العراق.. بناء أم هدم للدولة
كانت البداية في 2003، حين دخلت القوات الأمريكية والبريطانية أرض بابل بدعوى وجود “أسلحة دمار شامل”، وعلاقة العراق بـ”تنظيم القاعدة”؛ المتهم حينئذ بهجوم 11سبتمبر 2001، ما برر للولايات المتحدة تنصيب “بول بريمر” حاكمًا مدنيًا مؤقتًا على “العراق الجديد”، ليتابع “إعادة اعماره”، وتشغيل مؤسساته الحيوية.
وكان أبرز ما قام به “بريمر” خلال فترة تنصيبه: “حل الجيش العراقي الوطني”، وإنشاء ما عُرف بـ نظام “المحاصصة الطائفية” المعمول به حتى اليوم، والذي يقوم على تعريف المواطنين بحسب انتماءاتهم الدينية والعرقية. وبناءً على نسبة كل جماعة إثنية داخل حدود الدولة الوطنية، تُحدد نسبة حصتها في أجهزة الدولة ومؤسساتها وإدارة شئون البلاد، وهو شكل من أنظمة الحكم السياسي، يصمم غالبًا لضمان التمثيل الكامل لجميع فئات المجتمع وحماية حقوق الأقليات، كما ساهم بدور فعال في بناء المجتمعات الحضارية العصرية المتمدنة ومنها الأوروبية التي رسّخت مبدأ المحاصصة بقوانين وأحكام في دستور أغلب بلدانها.
وأصبح العرف السائد في النظام السياسي العراقي أن يتولى الشيعة رئاسة الحكومة، ويتولى السنة رئاسة السلطة التشريعية، ورئاسة الجمهورية يتولاها الأكراد. وبرغم أن هذا النظام يظهر وكأنه شكل من أشكال الإنصاف والمساواة، فإنه في حقيقة الأمر كان نظامًا مدمرًا للدولة، فعوضًا عن طرح مشاريع وطنية تنهض بحال العراق، أصبحت الجماعات تتنافس لاستحواذ أكبر قدر ممكن من حصص الجماعات الأخرى، كما فعل رئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، في وصف معركته ضد خصومه بأنها “حرب بين أتباع معاوية ويزيد وأتباع الحسين”، وأنه يسعى إلى بناء دولة “أهل البيت”.
وأضحى لكل طائفة زعيمها الذي يمثلها في مؤسسات الدولة، وأمام بقية المنافسين، ليستأثر بنصيب طائفته، ويسرق ما تيسّر من خيرات البلاد، ويوزع المنح والهبات على من شاء، متجاهلًا حاجات المجتمع الأساسية من خدمات وبنية تحتية منهارة، إلى جانب الفساد الإداري والمالي المستشري، لدرجة وضعت العراق في المركز الـ 12 في قائمة الدول الأكثر فسادًا في العالم، والثالث في الفساد الإداري وفقًا لتقرير منظمة الشفافية الدولية، كما أشار تقرير البنك الدولي الصادر في مارس 2019 إلى أن 22.5% من مواطني العراق يصنّفون كفقراء.
كما يعد جواز السفر العراقي ثالث أسوأ جواز في العالم بحسب مؤشرات مؤسسة “هينلي آند بارتنرس” (المعنية بشؤون الجنسية والسفر)، وهو ثاني أسوأ مكان للمرأة في العالم العربي بحسب دراسة نشرتها مؤسسة “تومسون رويترز”، وهو أخطر مكان بالعالم متقدماً على 144 دولة بينها الصومال وأفغانستان بحسب معايير “دليل السلام العالمي”، كما صُنّف العراق كأسوأ البلدان التي عجزت حكوماتها عن التوصل للجناة في جرائم قتل الصحفيين.
وخلال الاحتجاجات الشعبية الأخيرة -المندلعة منذ مطلع أكتوبر الماضي- أصدر مجلس النواب العراقي عددًا من القرارات تتعلق بوقف المحاصصة في المناصب الرئيسية، إلا أنها لم تؤتِ هي الأخرى ثمارها ولم تؤثر على الشارع المنتفض.
مشهد سياسي وطائفي متنوع.. بغالبية شيعية
لم تتغير كثيرًا مكونات المجتمع العراقي قبل 2003 عمّا كانت عليه منذ أكثر من ألف سنة، فالمكون العربي الإسلامي بشقيه السني والشيعي هو الأكبر، وكذلك المكون الكردي بأغلبيته السنية وأقليته الشيعية، فضلا عن المكون التركماني الذي ينقسم بدوره إلى شريحتين شيعية وسنية.
وهناك مكونات أصغر مثل المسيحيين بكل مذاهبهم المختلفة، إلى جانب المكون الديني الإيزيدي الصغير، إذ تُعدُّ الديانة الإيزيدية من أقدم الديانات في العراق، وكذلك المكون الأصغر وهم “الشبك” المنتمون في جذورهم إلى المذهب الشيعي، وأيضًا المكون الصابئي “المندائيين” وأخيرًا اليهود والذين يعيش غالبيتهم بالمناطق الكردية. وكانت كل تلك المكونات في نموذجين من الأحزاب هم الأحزاب الدينية والعلمانية، وبعض منهم مشترك في ائتلاف المعارضة العراقية.
وبعد 2003، شهد العراق تعددية سياسية نتج عنها تعددية حزبية.. ما بين قوي سياسية تأسست بعد تغيير النظام، كما هو الحال مع التيار الصدري، وقوى انشقت عن القوى التقليدية نتيجة الصراعات الداخلية، كحركة التغيير الكردية والإصلاح الوطني، فضلا عن انشقاق بعض من قيادات القوى السياسية السنية من الحزب الإسلامي، إلى جانب ظهور قوى سياسية صاعدة.
إلا ان هذه التعددية الحزبية اتسمت بالصراع والمصالح الطائفية والشخصية، واتباع عدة أساليب شرعية وغير شرعية للتنكيل بالأحزاب الأخرى، متناسية دورها الأساسي في بناء الدولة، خالقة حالة من انعدام الاستقرار والثقة وغياب الرؤية الواضحة لحال الدولة والشعب وحاجاته.
ولا يمكن أيضًا إغفال الأدوار الإيرانية والأمريكية والتركية والخليجية، وتأثيرها على الأطراف السياسية العراقية، والتي ظهرت جليًا في انتخابات البرلمان 2018، والتي جعلت العراق يدخل مرحلة جديدة من عدم الاستقرار السياسي واختلاف الاجندات، أدت إلى تنامي حالة الفقر ومشكلات البطالة وسوء الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها، إلى جانب الحروب الطائفية التي تعيشها.
ما أدى إلى انقسام المجتمع العراقي إلى سياسيين تقاسموا مجلس النواب والمقاعد الوزارية بينهم، ومواطنين فاقدين للأمل في حياة كريمة، مستقلة، دون تدخلات خارجية وبخاصة التدخلات الإيرانية والأمريكية.
إقليم كردستان
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وفي عام 1923، تمنى الأكراد أن تكون لهم دولتهم الخاصة، إلا أن البريطانيين أجهضوا تلك المحاولة، ولكنهم لم ييأسوا واستمروا في محاولاتهم التي باءت كلها بالفشل، إلى أن أنهى الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين العمل المسلح في كردستان عام 1975 بتوقيعه اتفاقية الجزائر لترسيم الحدود مع إيران، والتي قدم فيها تنازلات حدودية مقابل وقف دعم الملا مصطفى البارزاني، والتي منحت للأكراد فرصة لاستئناف العمل المسلح ضد حكومة بغداد، خلال الحرب العراقية الإيرانية 1980.
واستطاع الأكراد أن يمارسوا حكمًا ذاتيًا بعد هزيمة الحكومة المركزية أمام التحالف الدولي في 1991، واستغلوا بعد ذلك الغزو الأمريكي للعراق، معتبرين إياه فرصة لتثبيت حقوقهم التاريخية والسياسية في تكوين كيان خاص بهم.
ويتمتع إقليم كردستان حاليًا بقدر كبير من الاستقلالية عن الحكومة المركزية في بغداد، رغم كل المشاكل التي يواجهها، كما يمارس القادة الأكراد دورًا مهمًا في الحياة السياسية العراقية، سواءً في البرلمان أو في الجهاز التنفيذي للدولة، وتشهد المدن الكردية التي تتمتع بالأمان حركة إعمار ونشاطًا اقتصاديًا ملحوظًا.
أما عن البرلمان العراقي الأخير
الذي لم ينجح أعضاؤه في جذب الناخبين، حيث بلغت نسبة المصوتين في انتخاباته في مايو2018، 44.5% فقط، وهي أدنى نسبة مشاركة منذ سقوط نظام “صدام حسين” عام 2003، والذي يحوي 329 مقعد، منهم 54 مقعد لتحالف “سائرون” الذي يجمع بين التيار الصدري والحزب الشيوعي وتكنوقراط مدنيين، و47 مقعدًا لتحالف “الفتح” الذي يضم فصائل الحشد الشعبي، و42 مقعدًا لائتلاف “النصر” العابر للطائفية، بحسب تصريح مؤسسه رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي.
فيما حصل ائتلاف “دولة القانون” على 26 مقعدًا، والحزب الديمقراطي الكردستاني على 25 مقعدًا، وائتلاف “الوطنية” على 21 مقعدًا، وفاز “تيار الحكمة” بـ 19 مقعدًا، وحزب “الاتحاد الوطني الكردستاني” بـ 18 مقعدًا، وتحالف “القرار العراقي” بـ 11 مقعدًا.
وحصلت الأقليات على 9 مقاعد “كوتا” ضمن نظام الحصص، فنال المكون المسيحي خمسة مقاعد، وكل من المكونات التالية: الشبكي، والإيزيدي والصابئي، والفيلي على مقعد واحد.
ليصبح بذلك إجمالي المقاعد للكتل السنية 71، مقابل 177 مقعدًا للكتل الشيعية، و58 مقعدًا للقوى الكردية
إيران والشأن العراقي
لم تخلُ مظاهرات العراقيين منذ 2011 وحتى الاحتجاجات الحالية من الشعارات المناهضة للتدخلات الإيرانية في شؤون بلدهم، بعد أن تأكدوا من دور إيران الكبير جدًا في تدهور وتعقيد الأوضاع السياسية والاقتصادية بعد 2003، فضلًا عن اعتبارها الدرع الحصين للطبقة السياسية العراقية المتهمة بالفساد، إلى جانب دورها الكبير في تعطيل أغلب القطاعات العراقية كقطاعي الصناعة والزراعة، وإضعاف المؤسسة العسكرية الرسمية، وتأسيس جماعات مسلحة غير مرتبطة بالدولة، من خلال دعمها للفصائل المسلحة بعيدًا عن سيطرة الحكومة العراقية.
تستغل طهران بعض المفاهيم الدينية والمذهبية والأيديولوجية، لتصدير ثورتها الإسلامية، خاصة بعد أن خلّصتها واشنطن من “صدام حسين”، معلنة مباركتها للغزو الأمريكي للعراق، لتطلق رجالها في مفاصل الدولة العراقية عبر دعم المكون الشيعي سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، على بقية المكونات الأخرى، فضلًا عن دعمها لـ “المجلس الأعلى للثورة الإسلامية” الذي اعتبره البعض أحد أذرع إيران السياسية في العراق.
وبحسب تصريحات للنائب العراقي علي الصجري، المنسحب مؤخرًا من “تحالف البناء”، فإن قرارات التحالف وقياداته يتم اتخاذها بتوجيهات إيرانية بشكل مباشر، مشيرًا إلى أن إيران ليست الدولة الوحيدة التي تتدخل في الشأن العراقي، إلا أنها المتحكمة فعليًا بقرارات الدولة.
بل لقد أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن “الولايات المتحدة دفعت مليارات الدولارات إلى العراق على مدار سنوات عديدة؛ حتى يتعافى ويتحرر من سيطرة إيران”، إلا أن ذلك لم يحدث. ويمكن التدليل على ذلك بإعلان البرلمان إنهاء الوجود الأجنبي في الأراضي العراقية، إثر اغتيال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس وثاني أقوى رجل بالدولة الإيرانية، وأبو مهدي المهندس، نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي، وقيادات من الحشد الشعبي العراقي، حين استهدفت غارة أمريكية لموكبه، بالقرب من مطار بغداد.
الحشد الشعبي.. قنبلة موقوتة أم قوة ردع حاسمة
هكذا عنون مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية، إحدى مقالاته، والتي أشار فيها إلى أن الظروف الطبيعية والانهيار العسكري والأمني للعراق؛ جعلت السيد السيستاني -بصفته المرجعية الدينية- يعلن ما سُمي بفتوى الجهاد الكفائي للدفاع عن الدولة من قبل كل من له القدرة على حمل السلاح وتسمح ظروفه بذلك.
وبالفعل تدافع الرجال من مختلف الأعمار للانضمام لتلك التشكيلات، كما استغلت الأمر الأحزاب السياسية سواء لكي تُكوّن تشكيلات عسكرية تابعة لها، أو تضخم تشكيلاتها السابقة تحت مظلة “الحشد الشعبي” الذي صنّفه البعض بالحشد العراقي بينما اعتبره آخرون “حشدًا إيرانيًا”، باعتبار أن القوات العسكرية الإيرانية والحرس الثوري هم من اهتموا بتدريبه وتمويله.
وفي مشروع قام به معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، لتحديد مواقع انتشار الميليشيات الشيعية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، من خلال رسم مواقعها وحركاتها وعلاقتها بالنظام الإيراني، وتورطها في النزاعات في العراق وسوريا، وخلال تعقبهم للميليشيات المتواجدة بالعراق، لوحظ أن قوات الحشد الشعبي تعمل كـ”مظلة” تضم تحتها عددًا كبيرًا من الجماعات المهيمن عليها من قِبل إيران، وأن وجود الحشد الشعبي منذ أن أُسس في عام 2014، قد ساهم في التعتيم على هوية المقاتلين الفعليين في المناطق التي تتسم بوجود كبير للميليشيات، خاصة وأن إدراجها تحت “قوات الحشد الشعبي” مكّنها من تكوين قوة سياسية كبرى داخل الحكومة العراقية.
ولا تعد قوات “الحشد الشعبي” هي الفصيل المسلح الوحيد بالعراق، فهناك ما يقرب من 30 ميليشيا مسلحة تقاتل نيابةً أو كجزء من الحكومة العراقية، والتي برزت على السطح بعد فتوى السيستاني، ومنها “كتائب حزب الله”، الذي تم تأسيسها في عام 2003، بتمويل وتسليح وتدريب إيراني، لإخراج المحتل من العراق – بحسب ما زُعم حينئذ- وسرعان ما ظهرت عدة كتائب أخرى أعلنت اتحادها تحت اسم حزب الله العراقي، والذي اعتبرته واشنطن مرتبطًا بحزب الله اللبناني وبإيران، ما برر تعرضه للقصف الأمريكي لأكثر من مرة. رغم اندماجه مع الحشد الشعبي المصنف كقوة رسمية مرتبطة بالقوات المسلحة العراقية.
مما سبق نخلص إلى أن: العراق يحتاج إلى إصلاح بنيته السياسية ومراجعتها، ووضع سياسات جديدة تعيد رسم خريطته إلى ما كانت عليه، وإعادة النظر في “إقليم كردستان”، وكذلك النظر أيضًا في مرجعياته وعلاقاته بالدول المحيطة.