إيرانإسرائيل

الإجماع المرحلي والهشاشة الداخلية:  تداعيات الحرب بين إسرائيل وإيران على المشهد الداخلي في إسرائيل

في الثالث عشر من يونيو الجاري، أطلقت إسرائيل عملية عسكرية غير مسبوقة ضد إيران تحت مسمى “الأسد الصاعد”، والتي مثلت نقلة نوعية في مسار المواجهة بين الجانبين، في ظل مشهد إقليمي محتقن ومفاوضات نووية متعثرة بين طهران وواشنطن في الفترة الأخيرة. وخلافًا للتقديرات الأولية التي رجحت أن تكون الضربات الإسرائيلية محدودة وردعية، كشفت العملية عن مستوى عالٍ من التنسيق والتخطيط المسبق، حيث استهدفت مواقع حساسة مرتبطة بالبرنامج النووي الإيراني، إلى جانب اغتيال شخصيات علمية ومسؤولين بارزين في مؤسسات نووية وعسكرية. ساهم هذا التصعيد الإسرائيلي المفاجئ وما حققه من اختراقات نوعية، بشكل غير مباشر في تهيئة مناخ دولي أكثر تقبلًا للتدخل العسكري، لاسيما من جانب الولايات المتحدة التي دخلت على خط المواجهة لاحقًا من خلال تنفيذ ضربات دقيقة استهدفت ثلاث منشآت نووية رئيسية داخل إيران، حتى إعلان ترامب في الساعات الماضية عن هدنة مؤقتة لوقف الحرب بين إيران وإسرائيل.

وقد باتت التساؤلات تزداد حول الكُلفة السياسية والعسكرية التي ستتحملها إسرائيل داخليًا، ومدى قدرة الحكومة الإسرائيلية، بقيادة بنيامين نتنياهو، على توظيف هذه التطورات في خدمة أجندتها السياسية وسط تحديات متراكمة على أكثر من جبهة، أبرزها الحرب في غزة، والانقسامات الداخلية، والضغوط الاقتصادية.

تهدف هذه الورقة إلى تحليل تداعيات التصعيد الإسرائيلي-الإيراني على الداخل الإسرائيلي، من خلال تفكيك أبعاده السياسية والعسكرية، وتقييم أثره على المشهد العام في إسرائيل، فضلًا عن استشراف ملامح المرحلة المقبلة.

أطلقت إسرائيل عمليتها العسكرية “الأسد الصاعد” ضد إيران، واضعة أمامها جملة من الأهداف العسكرية التي تنطوي في جوهرها على أبعاد سياسية داخلية وخارجية. وقد بدا واضحًا أن إسرائيل لم تُحدد نهاية واضحة أو سقفًا زمنيًا لسلسلة التصعيدات التي شرعت فيها. وقد شكل موقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وإعلانه عن هدنة مؤقتة لوقف العمليات نهاية لذلك، لولا ذلك لربما كانت إسرائيل ماضية في توسيع رقعة المواجهة وراء أهداف فضفاضة على غرار جبهة غزة، مستندة إلى الزخم السياسي والعسكري الذي رافق الإنجازات التي حققتها. ويمكن بلورة الأهداف الإسرائيلية من هذه العملية في النقاط التالية:

تدمير أو القضاء على البرنامج النووي الإٍيراني: صورت إسرائيل العملية في المقام الأول على أنها حملة “دفاعية”، وأن الهدف الأساسي منها منع إيران من الوصول إلى القدرة النووية العسكرية، أي تصنيع قنبلة نووية تشكل تهديدًا وجوديًا مباشرًا على إسرائيل، من خلال إلحاق أو تدمير البنية التحتية الحيوية للبرنامج النووي الإيراني، بما في ذلك منشآت التخصيب كمفاعل نطنز وفوردو وأصفهان، ومراكز البحث والتطوير الخاصة بتحويل المواد النووية إلى أسلحة، بالإضافة إلى تعطيل المعرفة التقنية لدى العلماء والمهندسين المرتبطين بالمشروع باستهداف العلماء النوويين المعروفين. [i]

تدمير قدرات الصواريخ الدقيقة: على أثر تطوير إيرانخلال السنوات الأخيرة ترسانة من الصواريخ الباليستية والدقيقة التوجيه، اعتبرت إسرائيل ذلك تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، وبالتالي كان جزء من أهداف الحرب هو استهداف مواقع إنتاج وتخزين هذه الصواريخ، وتعطيل سلاسل الإمداد والتطوير الخاصة بها. الصواريخ الدقيقة، خلافًا للصواريخ التقليدية، قادرة على إصابة أهداف استراتيجية بدقة عالية، مثل المطارات أو محطات الطاقة أو المنشآت العسكرية، ولذلك فإن اعتبرت أن تدمير هذه القدرات يُعد ضرورة لتقليص خطر التصعيد المستقبلي.

هدف استعادة الردع الإسرائيلي: تهدف إسرائيل من خلال هذه الحرب إلى إرسال رسالة واضحة بأن محاولات امتلاك سلاح نووي أو تهديد أمنها القومي ستُقابل برد عسكري حاسم، هذه الرسالة موجهة ليس فقط إلى إيران، بل أيضًا إلى دول أخرى في المنطقة قد تفكر في تطوير برامج نووية مستقبلًا، كما أنها تؤكد لإسرائيل نفسها ولمواطنيها قدرتها على اتخاذ قرارات استراتيجية حاسمة في وجه التهديدات الوجودية، دون الاعتماد الكامل على الضمانات الدولية.[ii]

القيام بضربات استباقية لتقليص قدرات إيران غير التقليدية: سعت إسرائيل إلى توجيه ضربات استباقية تستهدف تقليص القدرات الإيرانية في مجال الحرب غير التقليدية، وعلى رأسها الطائرات بدون طيار، إذ أصبحت المسيرات أداة محورية في استراتيجية إيران ووكلائها، نظرًا لقدرتها على تنفيذ هجمات بعيدة المدى وبتكلفة منخفضة، سواء على البنية التحتية الحيوية أو القواعد العسكرية في المنطقة، ولذلك استهدفها إسرائيل بما يحد من قدرة طهران على شن هجمات تعتمد على الطيران غير المأهول والهجمات السيبرانية.

ضرب الشبكات الإقليمية: إيران تعتمد على شبكة واسعة من الوكلاء الإقليميين لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، خاصة من خلال الحرس الثوري وفروعه مثل حزب الله والميليشيات الشيعية، وهو ما استهدفت إسرائيل إضعافه، والتي تُعرف ضمن الجيش الإسرائيلي بتسميات مثل TCK (شبكات التهريب والقيادة) وTLSH (شبكات التسليح واللوجستيات)، وتسعى العمليات العسكرية إلى استهداف طرق تهريب السلاح، ومراكز القيادة والسيطرة، ومنشآت التدريب، مما يُضعف قدرة إيران على إدارة حرب متعددة الجبهات عبر وكلائها.

إلى جانب الأهداف العسكرية السابقة، تشير تحليلات عديدة داخل إسرائيل إلى أن الهدف الأعمق من الحملة العسكرية الحالية ضد إيران يتمثل في إضعاف، إن لم يكن إسقاط، النظام الإيراني نفسه. وبينما يُدرك صانعو القرار في تل أبيب محدودية القدرة العسكرية المباشرة على تحقيق هذا الهدف، فإنهم يعملون على استغلال العملية لضرب مرتكزات القوة السياسية والعسكرية للنظام، من خلال استهداف مراكزه النووية والعسكرية الحساسة، وشخصيات علمية وأمنية بارزة، بما يبعث برسالة داخلية وخارجية بأن النظام لم يعد محصنًا.[iii]

في هذا السياق، تلعب الحرب الإعلامية دورًا تكميليًا لا يقل أهمية، إذ تسعى إسرائيل إلى تصدير خطاب يُفرق بين الشعب الإيراني والنظام، ويصور الحرب كمعركة ضد نظام آية الله فقط، في محاولة لتقويض شرعيته داخليًا وتعزيز صورة إسرائيل لدى فئات من الجمهور الإيراني. وتُظهر استطلاعات إسرائيلية محلية أن نحو 61% من الرأي العام اليهودي في إسرائيل يؤيدون استثمار الحملة العسكرية في العمل على إسقاط النظام الإيراني، فيما يرى 47% أن الحكومة تفتقر إلى خطة واضحة لإنهاء العملية[iv].

كما هدفت الحربإلى توجيه الأنظار بعيدًا عن الأزمات الداخلية الإسرائيلية محاولةً الهروب من المأزق السياسي، في ظل شن العملية في توقيت بالغ الأهمية لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي كان يواجه تصاعدًا في الأزمات الداخلية، أبرزها الخلافات حول قانون التجنيد، والاحتجاجات ضد حكومته، والضغوط الاقتصادية المتزايدة، وبالتالي شكلت الحملة العسكرية المفاجئة فرصة لإعادة ترتيب المشهد السياسي الداخلي، حيث ساهمت في توحيد الخطاب السياسي مؤقتًا، وتخفيف حدة الانتقادات الموجهة لنتنياهو، وإعادة توجيه الرأي العام نحو “التهديد الإيراني” باعتباره خطرًا وجوديًا، ما منح الحكومة هامشًا من المناورة بعيدًا عن الملفات الخلافية. كما استفاد نتنياهو من الحملة في تحسين صورته كقائد في زمن الحرب، مدعومًا بتحركات دبلوماسية لتبرير العملية كحق في الدفاع عن النفس، وهو ما منحها دعمًا دوليًا جزئيًا. وفي المقابل، تراجعت قضايا أخرى مثل ملف غزة إلى الهامش مؤقتًا، ليُعاد تقديم إيران كخطر مركزي، وهي سردية ساعدت في حشد دعم داخلي وخارجي لحكومة تعاني من أزمة شرعية مستمرة.

بدى جليًا أن هناك إجماعًا سياسيًا قويًا داخل الائتلاف الحاكم في إسرائيل بشأن توجيه ضربة لإيران، وهو إجماع شمل الجوانب السياسية والأمنية، لا سيما ما يتعلق بتوقيت الضربة والتكتم عليها، ورغم أن العملية نُفذت بسرية تامة، فإن التصريحات اللاحقة لبعض الوزراء، مثل وزير المالية بتسلئيل سموترتش، أكدت أن القرار كان معروفًا ومُتفقًا عليه داخل الدوائر الضيقة للحكومة، ما يشير إلى وجود تنسيق مسبق وشامل. اللافت أن هذا التوافق السياسي جاء في وقت كانت تشهد فيه الحكومة أزمة داخلية حادة، إذ كان يُتداول مشروع لحل الكنيست، وكانت هناك توترات مع الأحزاب الحريدية، بالإضافة إلى مؤشرات على انقسام داخل صفوف المؤيدين أنفسهم. لكن فور اندلاع الحرب مع إيران، لوحظ أن كل هذه الخلافات الداخلية قد جُمِدت مؤقتًا، وحدث نوع من الاصطفاف السياسي والديني خلف الحكومة، ظهر بوضوح في تصريحات المسؤولين والحاخامات، الذين عبروا عن دعم مطلق للعملية واعتبروها خطوة مصيرية.

ومن ناحية أخرى، لوحظ غياب الانقسام السياسي التقليدي في إسرائيل، في ظل ما يمكن تسميته بالإجماع القومي حول الخطر الإيراني، إذ أبدت المعارضة، بقيادة يائير لابيد، تأييدًا واضحًا للهجوم على إيران، في مشهد نادر من التوافق السياسي الداخلي. فقد عبر لابيد عن دعمه الصريح لقرار الحكومة، رغم خصومته السياسية العلنية مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، مؤكدًا أن “إيران تسعى لتدمير إسرائيل، وفي مواجهة هذا التهديد لا يوجد انقسام بل وحدة”، مشيرًا إلى أن نتنياهو اتخذ القرار الصحيح في لحظة حساسة.[v] كما أيد الغارات الأمريكية على إيران الذي قال إنه “جنب المنطقة سباق تسلح نووي”. من جهته، أشاد بيني غانتس، زعيم حزب الوحدة الوطنية، بقرار ترامب، مؤكدًا أنه جعل العالم والشرق الأوسط وإسرائيل أماكن أكثر أمانًا، ومشيدًا بـ”القيادة والتصميم الأمريكي الواضح إلى جانب إسرائيل”. وتعكس هذه التصريحات توافقًا سياسيًا شبه شامل داخل الطيف السياسي الإسرائيلي، من الائتلاف الحاكم وحتى المعارضة، إذ نظرت الأطراف المختلفة إلى الحملة العسكرية على أنها خطوة استراتيجية ضرورية..[vi]

وبالتزامن مع الانتصارات العسكرية التي حققها الجيش الإسرائيلي بدعم سياسي واسع، ظهرت تحليلات عديدة تُحذر من أن بنيامين نتنياهو يعيش الآن ربيع قوته” المؤقت، يقود حربًا اختارها ضد إيران ويستعيد صورته كزعيم وطني بعد تراجع طويل، في تحول لافت من تقاعسه خلال كارثة 7 أكتوبر إلى شخصية وحدوية ومسؤولة. وبينما يراه البعض قائدًا منتصرًا يعيد رسم إرثه السياسي، يشير آخرون باستغلال الحرب لتحقيق مكاسب شخصية. ورغم أن اللحظة تبدو مواتية لدوره كقائد عسكري، إلا أن الشكوك تتزايد حول أهليته لقيادة مرحلة ما بعد الحرب، خاصة فيما يتعلق بإعادة البناء وتحقيق تسوية سياسية طويلة الأمد.

أظهر استطلاع للرأي أجراه معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (INSS) يومي 15 و16 يونيو 2025، على عينة من 800 يهودي و151 عربي، تأييدًا واسعًا للهجوم الإسرائيلي على إيران، حيث أيده 73% من المشاركين، واعتبر 76% أن القرار استند إلى اعتبارات أمنية. في الوقت ذاته، أبدى 70% قلقهم من تطورات الحرب، واعتقد 49.5% أن التهديد النووي الإيراني لن يُزال بالكامل. كما رأى 61% أن على إسرائيل استغلال الحملة للعمل على إسقاط النظام الإيراني، بينما فضل 28% الاكتفاء بتحييد الخطر النووي. ومع ذلك رأى 47% أن الحكومة تفتقر إلى خطة واضحة لإنهاء الحملة العسكرية.

وعلى مستوى الجبهة الداخلية، أظهر الاستطلاع رضى شعبيًا واسعًا عن أداء قيادة الجبهة، حيث أبدى 74.5% رضاهم عن إدارتها للهجوم، واعتبر 89% أن التعليمات كانت واضحة. كما عبر 60% عن ثقة عالية في الاستعداد لتحمل الحرب، لكن الشعور بالأمن الشخصي تراجع، حيث قال 32.5% إنهم يشعرون بانعدام الأمن، مقابل 27.5% فقط يشعرون بأمان مرتفع. وبرزت ثقة قوية بالمؤسسات الأمنية 82% في الجيش، 83% في سلاح الجو، 74% في الاستخبارات، فيما بقيت الثقة بالحكومة منخفضة رغم تحسنها، حيث بلغت 30% فقط، وبلغت الثقة بوزير الدفاع 32%.[vii]

ويمكن تحليل موقف الرأي العام الإسرائيلي بأنه في حالة انقسام داخلي بين شعور جماعي بالفخر بالقوة العسكرية وصمود المجتمع في مواجهة تهديد أكبر “إيران”، وبين تصاعد ملموس في الاستياء من أداء الحكومة، التي تُتهم بعدم تنفيذ قرارات أساسية تتعلق بحماية المدنيين، وهو ما يشير إلى تآكل تدريجي في الثقة المؤسسية لدى شرائح واسعة من الجمهور.  أما على الصعيد الخارجي، فيميل الرأي العام إلى تبني نظرة أكثر تشككًا في العالم، إذ تتنامى قناعة بأن إسرائيل تُواجه عزلة دولية متزايدة، ليس فقط من خصومها، بل أيضًا من المنظمات الدولية، وهو ما يعزز توجهًا داخليًا يُفضل الاعتماد على الذات، ويبرر الهجمات الاستباقية كخيار وجودي لا بديل عنه، وان كانت خسائره كبيرة، فبدل انتظار دعم المجتمع الدولي أو نتائج المفاوضات.

وتشير القراءة العامة لرأي العام أيضًا أن التحركات السياسية ومحاولات رفع الجاهزية لم تكن كافية لاحتواء تداعيات الحرب على الجبهة الداخلية. ورغم عدم تشكل جبهة معارضة مؤسسية حتى الآن، فقد أشارت بعض المنشورات على منصات التواصل الاجتماعي إلى وجود حالة من التوتر والخوف والشلل المجتمعي، فبعد بدء الهجوم الإسرائيلي على إيران انتشرت حالة من الهلع في مشهد يعيد للأذهان أيام ما بعد هجوم 7 أكتوبر 2023.  وتشير أراء الإسرائيليين إلى أزمة نفسية وشعور بعدم الأمان لدى المدنيين، تجلت في محاولات جماعية لمغادرة البلاد.

فيما يتعلق برئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، يمكن القول إن الحرب الحالية ساهمت مؤقتًا في تخفيف حدة الانتقادات الشعبية ضده، وربما عززت من مكانته السياسية، إلا أن المؤشرات العامة لا تُظهر تغيرًا جذريًا في موقف الشارع تجاهه. فلا يزال جزء كبير من الجمهور يفرق بين الأداء العسكري الناجح وبين أداء الحكومة برئاسة نتنياهو، حيث لم تُترجم الإنجازات الأمنية إلى رضا سياسي حقيقي. ويبدو أن الهدوء النسبي الشعبي في الانتقادات الموجهة للحكومة يعود إلى طبيعة المرحلة، لكن هذا الهدوء يظل مؤقتًا، وقد يتغير بمجرد انتهاء المواجهات العسكرية أو تزايد التكاليف الداخلية للحرب.

فيما يتعلق بالجاهزية والاستعداد؛ فقد شكل الهجوم الإسرائيلي على إيران وما لحقه من الهجمات الإيرانية على الداخل الإسرائيلي، اختبارًا فعليًا لمدى جاهزية الجبهة الداخلية، على الرغم من أنه منذ الساعات الأولى أعلنت الجبهة عن استعادتها من خلال إعلان حالة طوارئ شاملة، وإطلاق تنبيهات على الهواتف المحمولة، وإصدار أوامر سريعة بإغلاق المؤسسات التعليمية وفرض قيود على الحركة، وبالتالي بدا أن الجبهة الداخلية تملك خطة طوارئ محكمة يتم تفعيلها بمرونة وسرعة، كما لعبت تقنيات الاتصال الحديثة دورًا محوريًا في إيصال التوجيهات، لا سيما من خلال تطبيق “قيادة الجبهة الداخلية“، وصفارات الإنذار الموحدة، والبث الإعلامي المُنسق.[viii] كما تم تنظيم أولويات الحماية المدنية، وتصنيف أنواع الأماكن الآمنة وفقًا لخصائص كل مبنى، وقد انعكس ذلك في التعليمات التي صدرت للجمهور والتي حددت بدقة الخيارات المتاحة للحماية، مثل؛ الملاجئ السكنية (ماماد، ماماك)، الملاجئ العامة، والسلالم الداخلية، والغرف الوسطى في البيوت. [ix] كما قررت الحكومة الإسرائيلية في الأيام الماضية خطة لتجديد 500 ملجأ عام ونشر 1000 ملجأ متنقل، بميزانية 100 مليون شيكل، خاصة في المناطق التي تعرضت لقصف مباشر مثل بني براك ورمات هشارون [x] كما يلاحظ من ناحية أخرى، أن خطاب الجبهة اعتمد على نبرة تهدف بالدرجة الأولى إلى تهدئة الرأي العام وطمأنته مع إظهار أقصى درجات الجاهزية، من خلال التطبيقات الذكية والتنبيهات المسبقة.

 لكن يكشف الواقع أن أن نحو 2.6 مليون إسرائيلي لا يملكون أي وسيلة معيارية للحماية، بينما يمتلك فقط 38% غرفة آمنة (ماماد) داخل منازلهم، أما البقية، فتعتمد على ملاجئ عامة قد يصعب الوصول إليها في لحظات الطوارئ. ويعود جزء من هذه الفجوة إلى أن اللوائح الإسرائيلية الحالية لا تُطبق بأثر رجعي على الأبنية القديمة، مما يترك حوالي 60% من السكان خارج منظومة الحماية الفعلية، كما أن التعقيدات البيروقراطية المرتبطة بإنشاء غرف آمنة – مثل اشتراط الحصول على تصاريح معقدة – تعرقل القدرة على التكيف مع الواقع الأمني الجديد.

وبالتالي تصاعدت موجة من الانتقادات الحادة تجاه أداء قيادة الجبهة الداخلية، لا سيما فيما يتعلق بثغرات الإجراءات الوقائية، وقرار إعادة فتح أماكن العمل رغم استمرار التهديدات، وهو ما اعتبره كثيرون استخفافًا بأرواح المدنيين. لم تقتصر هذه الانتقادات على النخبة أو الإعلام، بل تصاعدت من قلب الشارع، خاصة في مناطق مركزية كتل أبيب ورمات غان، حيث عبر الإسرائيليون عن استيائهم من غياب أو ضعف جاهزية الملاجئ العامة، التي تُرك العديد منها مغلقًا أو حُول إلى مستودعات تجارية، ما جعلهم عرضة مباشرة للخطر عند وقوع هجمات صاروخية.

ورغم بعض المحاولات الطارئة، مثل تحويل مواقف السيارات إلى ملاجئ بديلة، فإن هذه الحلول ظلت إجراءات مؤقتة لا تعالج جوهر الأزمة، والمتمثل في التآكل الهيكلي لمنظومة الحماية المدنية والعسكرية. فقد كشفت الحرب عن خلل متراكم في الجاهزية والاستعدادات طويلة المدى، الأمر الذي ساهم في تعميق أزمة الثقة بين المواطنين والجهات الرسمية.

وبينما أظهرت الجبهة الداخلية قدرًا من النجاح في التنسيق والتنفيذ اللحظي أثناء الهجمات، إلا أن التجربة أثبتت أن الاستعداد الهيكلي كان محدودًا، وأن الجاهزية الفعلية لم تكن على قدر التوقعات، وقد أثار ذلك انتقادات شعبية متزايدة، تمثلت في تساؤلات حادة حول أسباب الفجوة بين الخطاب الرسمي الذي تحدث عن جهوزية تامة منذ شهور، وبين الواقع من نقص في التجهيزات وغياب الحماية الكافية. وعليه عكست الحرب بوضوح الفجوة العميقة بين السياسات المركزية والواقع المجتمعي على الأرض.

رغم إعلان إسرائيل، في الأيام الأولى من اندلاع المواجهة المباشرة مع إيران في 13 يونيو 2025، أن جبهة غزة أصبحت الجبهة الثانية بعد الجبهة الإيرانية، فإن هذا التوصيف لم ينعكس بوضوح على الواقع الميداني في القطاع. إذ تُظهر الإحصاءات الرسمية الصادرة عن وزارة الصحة الفلسطينية في غزة أن العمليات العسكرية لم تتوقف، بل استمرت بوتيرة عنيفة طوال اثني عشر يومًا، حتى بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن هدنة مؤقتة بين إسرائيل وإيران. فخلال الفترة الممتدة من 13 حتى 24 يونيو، قُتل ما يزيد عن 840 فلسطينيًا وأُصيب أكثر من 3,789 آخرين، بينهم 193 شهيدًا أثناء انتظارهم الحصول على مساعدات غذائية، في ظاهرة باتت تُعرف بـ “شهداء لقمة العيش”.

 وتؤكد المصادر الميدانية أن هذه الحصيلة لا تعكس العدد الحقيقي للضحايا، إذ لا تزال عشرات الجثث تحت الأنقاض، وسط عجز طواقم الإسعاف والدفاع المدني عن الوصول إلى مناطق القصف المتواصل. ما يعني أن التصريحات الإسرائيلية حول “خفض الوتيرة” أو “إعطاء الأولوية لإيران” لم تُترجم إلى تهدئة فعلية على أرض الواقع.

بالتزامن مع ذلك تصاعد الضغط في الداخل الإسرائيلي لإنهاء حرب غزة، خاصة في ظل النجاحات العسكرية الإسرائيلية في ضرب أهداف إيرانية معقدة بدعم أمريكي، وهو يعكس قدرتها على حسم الملفات الأمنية، وازدادت هذه الضغوط بعد استعادة جثامين ثلاثة من الرهائن الإسرائيليين من غزة مؤخرًا، ما أعاد إلى الواجهة المطالبات بالتوصل إلى صفقة تبادل عاجلة تشمل من تبقوا أحياء. كما أن استطلاعات الرأي تُظهر أن حوالي 75% من الإسرائيليين يؤيدون وقف الحرب مقابل استعادة الرهائن، وهو ما يعكس حالة تآكل في الثقة بجدوى العمليات العسكرية المستمرة، في ظل شعور شعبي متزايد بأن الحرب لم تحقق أهدافها المعلنة، سواء فيما يتعلق بتفكيك حماس أو تحرير الأسرى.

ورغم هذا الضغط، تُصر الحكومة الإسرائيلية، وخصوصًا رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، على المضي قدمًا في الخيار العسكري كوسيلة لتحقيق الأهداف السياسية والأمنية. فبعد إعلان ترامب عن هدنة مع إيران، لم يصدر عن نتنياهو أو المؤسستين الأمنية والعسكرية أي مؤشرات جدية على نية تخفيف العمليات في غزة، بل جاءت تصريحاته هو ووزرائه اليمينين الأخيرة لتؤكد أن مواقف إسرائيل التفاوضية لم تتغير، وهو ما ظهر في تصريح وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش بأن بعد إزالة التهديد الإيراني ستتجه القوات الإسرائيلية بكل قوتها إلى غزة لإكمال المهمة، والتي تعكس حالة من الثقة المفرطة في فعالية الخيار العسكري، مدفوعة بما يعتبرونه إنجازًا نوعيًا ضد إيران. وهو ما قد ينذر بتصعيد جديد في غزة، تحت غطاء نزع سلاح حماس وإعادة الرهائن.

بغض النظر عن الكيفية التي ستنتهي بها الحرب بين إسرائيل وإيران، أو مدى التزام الطرفين بوقف إطلاق النار الذي أُعلن مؤخرًا، فإن التداعيات الداخلية على الحكومة الإسرائيلية ستكون حتمية، في حال نُظر إلى الحرب باعتبارها ناجحة عسكريًا، فمن المتوقع أن تُعزز مكانة الحكومة الحالية وتدعم معسكر اليمين سياسيًا، أما في حال الفشل أو الدخول في حالة استنزاف طويلة الأمد، فإن النتائج قد تكون عكسية تمامًا؛ من احتجاجات شعبية واسعة، وتراجع في ثقة الجمهور، وتفاقم الأزمة السياسية الداخلية، وصولًا إلى احتمال الدخول في أزمة حكم.

ورغم ارتفاع مؤشرات التأييد الشعبي الطفيف لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والائتلاف الحاكم مؤخرًا، بالتزامن مع التصعيد مع إيران، فإن هذا الزخم يبدو هشًا وغير مرجح أن يدوم طويلًا. فقد بدأت في الأوساط السياسية والإعلامية الإسرائيلية تساؤلات جدية حول إمكانية إجراء انتخابات مبكرة، ما يعكس محاولة لقياس المزاج العام حيال الحكومة، خاصة بعد أن أعادت الحرب بعض من الثقة المفقودة، لكنها لم تُغير جوهر التحديات البنيوية التي تواجه السلطة.

غالبًا ما يعتمد نتنياهو على استراتيجية التصعيد في جبهات خارجية متعددة، سواء في غزة أو سوريا أو لبنان أو إيران، للهروب من أزماته الداخلية. ويقدم نفسه دائمًا على أنه “رجل الأمن”، ويستخدم كل تصعيد جديد كأداة سياسية لتحويل الأنظار عن قضايا الفساد أو إخفاقات الحكم. ويبدو أن هذه الاستراتيجية ما زالت تنجح في تأجيل المحاسبة ولو مؤقتًا. لكن بعد الحرب، سيجد نتنياهو نفسه مجددًا في مواجهة سلسلة من الملفات الحساسة التي لا يمكن الهروب منها إلى الأبد؛ محاكمات الفساد الجارية، قانون التجنيد المعلق، الخلاف مع المستشارة القضائية للحكومة، والأهم من ذلك ملف إعادة الأسرى من غزة، الذي يمثل اختبارًا أخلاقيًا وسياسيًا للحكومة بأكملها.

في ظل هذا الكم من التحديات، من المرجح أن يُحاول نتنياهو مرة أخرى خلق صدام سياسي أو أمني جديد، يُعيد خلط الأوراق ويوفر له مساحة مناورة جديدة. فنتنياهو بارع في استخدام فكرة “المماطلة المدروسة” لتفادي الضغوط، ومن المرجح أن يكون التصعيد متعلق بجبهة غزة لشراء وقت إضافي والبقاء في المشهد السياسي.


[i] Small wars journal, Rising Lion: Escalation, Objectives, and the Logic of Targeting, 19 June 2025, https://smallwarsjournal.com/2025/06/19/rising-lion-escalation-objectives-and-the-logic-of-targeting/

[ii] אורן סולומון، לאן מתפתחת המערכה – וכיצד נסיים אותה בהישג מדיני? | דעה، c14، https://www.c14.co.il/article/1248290

[iii] משגב، לא להסתפק בגרעין: אפשר להפיל את משטר האייתולות، https://www.misgavins.org/klutstein-topple-iranian-regime/

[iv] The Jewish independent, Another war without an exit strategy, https://thejewishindependent.com.au/iran-v-israel-another-war-without-an-exit-strategy

[v] Haaretz, Opinion | More of a Threat Than Iran: The Israeli Media and Opposition Have Jumped Aboard the Bibi Bandwagon, https://www.haaretz.com/opinion/2025-06-19/ty-article-opinion/.premium/the-israeli-media-and-opposition-have-jumped-aboard-the-bibi-bandwagon/00000197-8450-de6d-a3b7-f5da408c0000

[vi] Times of israel, Opposition politicians laud Trump for Iran strike: The world is a safer place, https://www.timesofisrael.com/liveblog_entry/opposition-politicians-laude-trump-for-iran-strike-the-world-is-a-safer-place/

[vii] הציבור הישראלי והמערכה נגד איראן: ממצאי סקר יוני 2025 https://www.inss.org.il/he/publication/survey-june-2025/

[viii] Ynetnews, What Israelis need to know now about the new civil defense guidelines, https://www.ynetnews.com/article/sk3skgkxlx?

[ix] Deutsche Welle, How Israelis view the conflict with Iran, https://www.dw.com/en/how-israelis-view-the-conflict-with-iran/a-72977256

[x] Times of israel, Israel approves plan to renovate 500 public shelters and deploy 1,000 mobile shelters nationwide https://www.timesofisrael.com/liveblog_entry/israel-approves-plan-to-renovate-500-public-shelters-and-deploy-1000-mobile-shelters-nationwide/

Website |  + posts

باحثة بالمرصد المصري

مريم صلاح

باحثة بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى