
مأزق المفاوضات النووية: قراءة في موقف إسرائيل من المحادثات الأمريكية- الإيرانية
مع عقد الجولة الثالثة من مفاوضات واشنطن وطهران حول البرنامج النووي الإيراني أمس 26 أبريل 2025 في العاصمة مسقط، تزايدت التصريحات الإسرائيلية الرافضة للتوصل إلى اتفاق يفضي إلى عدم تحجيم أنشطة إيران المتعلقة بتخصيب اليورانيوم للحد الذي يسمح لها بإنتاج أسلحة نووية. ويتنوع الموقف الإسرائيلي ما بين الرفض القاطع للمفاوضات وتأييد الخيار العسكري فقط لتحجيم إيران، ودعوة واشنطن للتعاون مع تل أبيب من أجل تنفيذ ضربات على المواقع النووية الإيرانية، وبين مطالبة واشنطن بمراعاة المطالب الإسرائيلية خلال المفاوضات وإجبار إيران على تقديم تنازلات أوسع. وبالتزامن مع الموقف الإسرائيلي، أكدت الإدارة الأمريكية أنها ستتبع المسار التفاوضي الدبلوماسي في التعامل مع الملف النووي الإيراني، وأنها ترفض الخيار العسكري كأولوية في الوقت الحالي.
تثير هذه المواقف المتباينة تساؤلات حول مستقبل الأزمة بين إسرائيل وإيران وطبيعة التفاعل الأمريكي مع هذه التوترات، وفي ظل تزايد المؤشرات على احتمالية استخدام إسرائيل لعمليات عسكرية محدودة مثل تفجير ميناء رجائي يوم 26 أبريل الذي تُوجه فيه أصابع الاتهام إلى تل أبيب، كأداة للضغط على إيران؛ تبرز تساؤلات أخرى حول مدى إمكانية اتساع هذه العمليات دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة، وكيف ستؤثر التحركات الإسرائيلية المحتملة على مسار المفاوضات، خاصة فيما يتعلق بإدخال ملف الصواريخ الباليستية إلى طاولة المحادثات، وأخيرًا ما السيناريوهات المتوقعة للمرحلة المقبلة في ظل المفاوضات الجارية؟
أولًا: لمحة تاريخية عن موقف إسرائيل من البرنامج النووي الإيراني
كانت العلاقات الإسرائيلية – الإيرانية عند حدها المستقر حتى 1979، لكن تغيرت بشكل جذري بعد الثورة الإسلامية، ومنذ ذلك الوقت أصبحت إيران ترى إسرائيل عدوها اللدود، وكررت الدولتان تهديداتهما المستمرة في العديد من المحافل والتصريحات الرسمية بتدمير بعضهما البعض. وما زاد الوضع خطرًا هو سعي كل منهما إلى تطوير برامجهما النووية من أجل انتاج أسلحة نووية في ظل قابلية الطرفان لتصنيعه، وبالفعل تمتلك إسرائيل سلاحًا نوويًا لكن عادة لا يتم الإعلان ذلك، في المقابل تمتلك إيران أسلحة كيميائية وبرنامجًا نوويًا والذي قد ينتج أسلحة نووية.
لطالما سعت إسرائيل إلى عرقلة جميع الجهود الرامية لإتمام إيران برامجًا نوويًا يفضي إلى تصنيعها أسلحة نووية، في وقت سابق وخلال خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) في 2015 بين إيران ودول (5+1)، عارضت إسرائيل بشدة الخطة. وعلى الرغم من أنها لم تكن جزءًا من المفاوضات، لكنها سعت جاهدة للتأثير عليها بشكل كبير، حيث شنت حملة دبلوماسية واسعة تضمنت التهديد بقصف المواقع النووية الإيرانية، ومارست ضغوطًا على الإدارة الامريكية آنذاك بقيادة باراك أوباما، من أجل إجبار إيران على قبول تنازلات أشد، لكن لم تمل إدارة “أوباما” للموقف الإسرائيلي إلى حد كبير؛ خشية أن تنهار المفاوضات، وقد أفضت المفاوضات في النهاية إلى نتائج متواضعة بالنسبة لإسرائيل.
ومع مجيء دونالد ترامب في ولايته الأولى 2017، أبدت الإدارة الأمريكية دعمًا لموقف إسرائيل، حيث أعلنت انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة في 8 مايو 2018، وقد شجعت إسرائيل “ترامب” على تنفيذ هذه الاستراتيجية التي ربما كانت ستنجح، لكن قررت إيران خرق خطة العمل الشاملة المشتركة هي الأخرى وأصبحت أقرب إلى إنتاج أسلحة نووية.
مع وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، استأنفت الإدارة الأمريكية جهودها الدبلوماسية مفضلة المفاوضات والعقوبات على استخدام الخيار العسكري، ورغم أن إسرائيل مارست ضغوطًا على إدارة “بايدن” من أجل استخدام الخيار العسكري كوسيلة ضغط خلال المحادثات مع إيران، لكن كانت الولايات المتحدة قلقة من أن الغارة الإسرائيلية في إيران قد تشعل حرب مفتوحة، وفي النهاية أيضًا فشل المسار الدبلوماسي في أن تفضي المحادثات إلى نتائج جيدة للأطراف المختلفة.
من هنا لا تميل إسرائيل إلى سياسة الحلول الدبلوماسية التي تراها ناقصة، وتميل أكثر إلى التهديد بالتحرك العسكري كوسيلة ضغط مستمرة، وتكشف مسارات الضغوط الإسرائيلية على الإدارات الأمريكية المتعاقبة أن تلك أبيب لديها قدرة محدودة على تعطيل البرنامج الإيراني بشكل منفرد، ولذلك دائمًا ما حرصت على أن تتبنى الولايات المتحدة موقفًا متشددًا، ويتمثل ذلك أيضًا في موقفها الحالي من المفاوضات الجارية.
ثانيًا: الموقف الإسرائيلي الحالي من جولات المفاوضات الجارية بين واشنطن وطهران
مع انطلاق المفاوضات الأمريكية الإيرانية من أجل الاتفاق على خطة عمل مشتركة للبرنامج النووي الإيراني، يمكن صياغة ملامح الموقف الإسرائيلي من المفاوضات في الآتي:
رفض امتلاك إيران برنامجًا نوويًا: عبرت إسرائيل من خلال مواقفها وتصريحاتها العلنية الرسمية أنها ترفض بشكل قاطع أي تفاوض قد يُفضي إلى السماح لإيران بالحصول على سلاح نووي خلال الجولات الجارية بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية. وقد عبرت عن قلقها المستمر وربطته بأن ذلك يهدد بالأمن القومي الإسرائيلي وهو ما أشار إليه يسرائيل كاتس وزير الدفاع، حيث أكد على أن أي تقدم لإيران في برنامجها النووي يشكل تهديدًا وجوديًا مباشرًا. كما تؤكد الحكومة الإسرائيلية على أنها ملتزمة بخطة فعالة تهدف إلى مواجهة هذا التهديد، سواء على الصعيد العسكري أو الدبلوماسي. بالإضافة إلى الرفض، ظهرت دعوات على المستوى السياسي الإسرائيلي تهدف إلى المطالبة بتفكيك كامل للبرنامج النووي والمنشآت النووية الإيرانية سواء بشكل عسكري أو دبلوماسي.
التنسيق مع الولايات المتحدة: على الرغم من الرفض الإسرائيلي لمسار المفاوضات الحالي، وقلقها من أن يتم التوصل إلى إطار ينتقص من نفوذها الإقليمي ويشكل تهديدًا لها، وعلى الرغم أيضًا من استكمال الولايات المتحدة الأمريكية المسار الدبلوماسي متجاهلة التصريحات الإسرائيلية، فإن إسرائيل حاليًا توازن ما بين التشكيك في مجريات المفاوضات مع إيران والحفاظ على التحالفات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. وبالتالي فعلى الرغم من الاختلاف الظاهر في موقف المتحالفين فإن ذلك لا يعني أن الإدارة الأمريكية الحالية لا تراعي المصالح الإسرائيلية في تفاوضها مع إيران، لكن يمكن القول إن الخوف الإسرائيلي ينبع من تحقيق نفس النتائج التي تم التوصل إلهيا خلال إدارة أوباما، والتي تمت بشكل واضح بعيدًا عن الموقف الإسرائيلي.
من ناحية أخرى، يظهر اختلاف واضح بين موقفي إسرائيل والولايات المتحدة الامريكية في أن إسرائيل تدعو إلى الحل العسكري وتدمير المنشآت النووية، لكن تعطي الإدارة الأمريكية الحالية أولوية بشكل واضح للمسار السياسي والدبلوماسي، وتؤكد أنه يجب التوصل إلى اتفاق نووي في مدة زمنية غير طويلة وأن المفاوضات يجب ألا تكون من أجل المفاوضات وذلك خشية من توظيف إيران لعامل الوقت في تخطي العتبة النووية. ومن المهم الإشارة إلى أن جميع الخطط الإسرائيلية العسكرية لمهاجمة إيران من غير المرجح أن تتم دون مساعدة من الولايات المتحدة.
الاستعداد لاستئناف حرب الظل: على الرغم من التنسيق الأمريكي الإسرائيلي، لا يمكن إغفال احتمالية أن تعمل إسرائيل على استئناف حرب الظل مع إيران والتحرك بشكل مستقل، حتى وإن كانت في شكل ضربة محدودة، فقد أكدت تصريحات أن إسرائيل سوف تتحرك بمفردها إذا لزم الأمر، وفي حال توصلت الولايات المتحدة إلى اتفاق مع إيران يتعارض مع مصالح إسرائيل ويسمح بامتلاك إيران لسلاح نووي، فإن إسرائيل لن تسمح أبدًا بذلك.
ومن المهم الإشارة إلى أنه في وقت سابق، أكدت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية أن إسرائيل كانت تخطط لضرب المواقع النووية الإيرانية في مايو 2025، لكن الرئيس دونالد ترامب تراجع عنها في الأسابيع الأخيرة لصالح التفاوض على اتفاق مع طهران للحد من برنامجها النووي، وكان الطرفان مستعدين لتنفيذها. من ناحية أخرى، اقترحت إسرائيل العديد من المرات على إدارة “ترامب” سلسلة من الخيارات لمهاجمة المنشآت الإيرانية، بما في ذلك بعضها في أواخر الربيع والصيف، لكن “ترامب” حذر من أنه غير مستعد لدعم مثل هذه الخطوة.
وفي هذا الإطار، يمكن النظر إلى الانفجار الهائل الذي وقع في ميناء رجائي في مدينة بندر عباس جنوب إيران يوم 26 أبريل 2025 بالتزامن مع انعقاد الجولة الثالثة من المباحثات الأمريكية الإيرانية في العاصمة العُمانية مسقط في إطار هذا التحرك. ووفقًا لتحليل وكالة “آسوشيتد بريس” يبدو أن الانفجار قد وقع بسبب شحنة مكون كيميائي يستخدم في صنع وقود الصواريخ، حيث استلم الميناء مادة كيميائية لوقود الصواريخ في مارس 2025، وجزء من شحنة بيركلورات الأمونيوم من الصين على متن سفينتين، وهي المادة اللازمة لصنع الوقود الصلب للصواريخ والتي ستستخدم لتجديد مخزونات الصواريخ الإيرانية، التي استُنفدت جراء هجماتها المباشرة على إسرائيل خلال الحرب مع حماس في قطاع غزة، وكانت إحدى السفن التي يُعتقد أنها تحمل المادة الكيميائية كانت موجودة في منطقة الميناء.
ورغم أن إيران لم تقر حتى الآن بما إذا كان الانفجار ناجم عن هجوم أم لا فإن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي أكد أن الأجهزة الأمنية الإيرانية في حالة تأهب قصوى نظرًا لحالات سابقة من محاولات التخريب وعمليات الاغتيال المصممة لاستفزاز كرد فعل على المشروع. ومن ثم يمكن القول إن هناك احتمالية كبيرة تشير إلى أن إسرائيل قد تكون هي المسؤولة عن هذا الانفجار، على الرغم من أنها لم تتبنَ الحادث حتى الآن ولن تتبناه على الأرجح مثل كافة عملياتها التي استهدفت الداخل الإيراني سابقًا. لكن تشير طريقة الانفجار إلى وجود تشابه كبير في تفاصيل العملية التي وقعت في مرفأ بيروت في 2020.
ثالثًا: ما الذي يمكن استنتاجه؟
بناءً على ما تمت الإشارة إليه في السطور السابقة، يمكن استخلاص مجموعة من الاستنتاجات التي ترسم ملامح المرحلة المقبلة على النحو التالي:
● يتضح أن إسرائيل لا تمتلك القدرة منفردة على شن هجوم موسع يستهدف البرنامج النووي الإيراني، ولكنها تمتلك القدرة على استئناف عملياتها السابقة في إطار “حرب الظل” التي استهدفت منشآت نووية أو اغتالت بها علماء مهمين في البرنامج النووي.
● قد تحمل الضربات الإسرائيلية مثل حادثة الانفجار الأخير بميناء رجائي –إذا صحت فرضية مسؤولية إسرائيل عنه- رسائل إسرائيلية ترغب في تفخيخ المفاوضات الأمريكية الإيرانية وإفشالها اقتناعًا بأنها لن تقود إلى اتفاق يلبي الشروط الإسرائيلية سواء فيما يتعلق بتفكيك البرنامج النووي الإيراني أو ما يتعلق ببرنامج طهران الصاروخ ذلك من جهة. ومن جهة أخرى، محاولة الضغط على إيران في هذه المفاوضات لتقديم تنازلات أكبر، وهو ما تتفق فيه إسرائيل مع الولايات المتحدة.
● من المتوقع أن يتطلب الوصول إلى اتفاق أن توازن الولايات المتحدة ما بين المصالح الأمريكية والمطالب الإيرانية برفع العقوبات الاقتصادية عليها، مع مراعاة المصالح الإسرائيلية قدر الإمكان، مع الإشارة إلى أن المرحلة المقبلة قد تشهد مزيدًا من استخدام أدوات الضغط المختلفة من المناورات السياسية والتهديدات العسكرية المحدودة من أجل تحقيق أكبر قدر من المصالح الأمريكية- الإسرائيلية ثم المصالح الإيرانية، مع دخول المحادثات بين واشنطن وطهران المرحلة الأكثر تعقيدًا المرتبطة بالتفاوض على التفاصيل الفنية للاتفاق.
باحثة بالمرصد المصري