
توظيف السياقات.. دلالات هجومي داعش في كرمان الإيرانية
شهدت محافظة كرمان جنوب إيران في 3 يناير 2024، انفجارين داميين وقعا قرب قبر قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني “قاسم سليماني”، تزامنًا مع إحياء الذكرى الرابعة لاغتياله بضربة جوية أمريكية في العراق، مما أسفر عن مقتل وإصابة نحو 300 شخصًا. وعقب الانفجارين دارت سجالات حادة بين كل من إيران والولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل بشأنهما، مع اتهامات إيرانية بوقوف واشنطن وتل أبيب في خلفية هذه الهجمات، لا سيما أنها تأتي في سياقات زمنية مرتبطة بالتصعيدات الأخيرة بينهما والمتعلقة بالحرب في غزة. لكن بعد مرور 24 ساعة أعلن تنظيم داعش مسؤوليته عن التفجيرين، وأصدرت مؤسسة الفرقان (الذراع الإعلامي لداعش) بيانًا زعمت فيه مسؤولية التنظيم عن تنفيذ الهجومين بواسطة انتحاريين شقيقين هما “عمر الموحد” و “سيف الله مجاهد” حيث قاما بتفجير سترتيهما الناسفتين وسط الحشود.
وعلى الرغم من إعلان تنظيم داعش مسؤوليته عن التفجيرين وضع نقطة على سطر التكهنات والسجالات الدائرة حول الجهة التي نفذتهما، والتي وصلت إلى حد إشارة بعض المواطنين الإيرانيين بأصابع الاتهام إلى النظام الإيراني نفسه، إلا أن هذه السجالات لاتزال مستمرة مع إصرار بعض المسؤولين الإيرانيين على إلقاء اللوم على إسرائيل والولايات المتحدة ، وفي هذا الصدد أشارت وكالة تسنيم للأنباء إلى أن إسرائيل هي التي أمرت داعش بتحمل المسؤولية عن التفجيرين، فيما نفت واشنطن أي تورط لها، وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية “مات ميلر” إن “الولايات المتحدة ليس لديها أي معلومات مستقلة حول الانفجارات، وأن وزارة الخارجية ليس لديها سبب للاعتقاد بأن إسرائيل متورطة”. بدورها قامت السلطات الإيرانية في أعقاب التفجيرين باعتقال 32 شخصًا مشتبهًا بهم، وتجري الآن التحقيقات معهم. وبعيدًا عن السجالات والاتهامات الدائرة حول الجهة المسؤولة عن تنفيذ تفجيري كرمان، يُسلط هذا الموضوع الضوء على حيثيات هذين التفجيرين والسياقات المرتبطة بهما، ودلالات إعلان تنظيم داعش مسؤوليته عن تنفيذهما.
دلالات عديدة
تنطوي التفجيرات الأخيرة التي شهدتها مدينة كرمان الإيرانية مطلع العام الجاري، على جملة من الدلالات المرتبطة بالسياق الذي نُفذت فيه هذه الهجمات، وإعلان تنظيم داعش مسؤوليته عن تنفيذها، ويمكن الوقوف على أبرز هذه الدلالات فيما يلي:
• دلالات زمانية ومكانية: على الرغم من أن هجمات تنظيم داعش في إيران لا تتم بوتيرة مُتسارعة أو مُكثفة من حيثُ الكم، وتحدث على فترات متباعدة إلى حد ما، إلا أن التنظيم يحاول تنفيذ هذه الهجمات بشكل نوعي، ويحرص على أن تكون تفاصيل وتكتيكات تنفيذها على درجة عالية من الدقة، وذات تأثيرات كبيرة من حيث عدد الضحايا، ومُحملة بالكثير من الرسائل والأهداف التي يريد التنظيم إيصالها. وفي هذا السياق، تنطوي هجمات داعش الأخيرة في إيران على رسائل ودلالات زمانية ومكانية وتكتيكية عديدة: أولها، يتعلق بكيفية تنفيذ الهجوم، حيث أتى على غرار تكتيك “الهجوم المزدوج” (أحد التكتيكات الرائجة التي يستخدمها داعش لضمان إيقاع عدد كبير من الضحايا)، حيث وقع الانفجار الأول على بعد حوالي 700 متر من مرقد “قاسم سليماني”، ووقع الانفجار الثاني على بعد كيلو متر من المزار، بفاصل زمني حوالي 13 دقيقة بين التفجيرين، ما أسفر عن سقوط عدد كبير من القتلى والمصابين. وثانيها: يتعلق برمزية اختيار مكان تنفيذ الهجوم حيثُ مرقد قائد الحرس الثوري الإيراني “قاسم سليماني” الذي لعب دورًا رئيسًا في هزيمة تنظيم داعش في العراق وسوريا خلال العشرية الماضية، وتوقيته المتزامن مع تجمع مئات الإيرانيين في مراسم وفعاليات إحياء الذكرى الرابعة لوفاته في غارة أمريكية عام 2020 في العراق، ما يضمن للتنظيم إيقاع عدد كبير من الحشود من ناحية، ويرسل رسالة ردع قوية إلى إيران وحلفائها من ناحية أخرى، حيثُ تحظى هذه الفعاليات السنوية بأصداءً واسعة في الداخل الإيراني، ويحضرها عدد من ضباط الحرس الثوري، وبعض عناصر محور المقاومة من العراق ولبنان وسوريا.
وثالثها، يتصل بتزامن تلك التفجيرات مع سلسلة الأحداث الأخيرة المرتبطة بحرب غزة، مما زاد من التأثير الإعلامي للتفجيرات على الصعيدين الإقليمي والدولي، حيثُ وقعت بعد يوم من اغتيال القيادي بحركة حماس “صالح العاروري” في بيروت، وبعد تسعة أيام من مقتل المستشار في الحرس الثوري الإيراني “رضي موسوي” في غارة جوية إسرائيلية على أطراف دمشق، وفي نفس اليوم الذي هاجمت فيه القوات الإسرائيلية منطقة الناقورة في جنوب لبنان، ما أسفر عن مقتل تسعة مسؤولين في حزب الله، وفي تلك الأثناء كانت كافة الأبصار الإقليمية والدولية شاخصة نحو توقع ردود أفعال الأطراف المنخرطة في حرب غزة على تلك الأحداث، ليقوم تنظيم داعش بتنفيذ هجماته في إيران، وهو ما استفاد منه التنظيم في كسب حالة من الزخم الكبير التي يمكن توظيفها بشكل أو بآخر في جهوده الدعائية الرامية إلى تجنيد عناصر جديدة.
• مساعي داعش لإثبات حضوره وفاعلية نشاطه: تندرج تفجيرات كرمان الأخيرة ضمن مساعي تنظيم داعش لإثبات حضوره القوي في خارطة النشاط الجهادي لعام 2024، وقدرته على تنفيذ هجمات شديدة التأثير وذات أهداف عالية القيمة، وحشد أعضائه ومؤيديه لضخ دماء جديدة في صفوفه، خاصة بعد أن تعرض خلال عام 2023 المُنقضي، لعمليات استهداف عديدة لموارده المالية وكوادره القيادية على مستوى أفرعه المختلفة لا سيما بالعراق وسوريا. فخلال العام المنصرم انخفض عدد الهجمات التي أعلن التنظيم مسؤوليته عنها بنسبة 53% عن عام 2022، كما شهد العام ذاته، مقتل الزعيم الرابع للتنظيم “أبي الحسين الحسيني القرشي” فضلًا استهداف عدد كبير من كبار قادة داعش البارزين، ومنهم “خالد الجبوري” الذي كان مسؤولًا عن التخطيط لهجمات داعش في أوروبا، و “عبد الهادي محمود الحاج علي” وهو أحد كبار قادة التنظيم بسوريا والمسؤول عن التخطيط لعملياته في الشرق الأوسط، وغيرهم من قيادات الصفين الأول والثاني الذين استهدفتهم استراتيجيات قطع الرؤوس، ما جعل التنظيم في حاجة إلى شن هجمات كبيرة تثبت قدرته على الاستمرار رغم ما يتلقاه من ضربات، وتُشكل رافعة معنوية لأعضائه وعناصره للاستمرار في ولائهم له.
• خرق أمني لإيران: تكشف القوة التي جاءت بها تفجيرات كرمان الأخيرة عن نجاح تنظيم داعش في إحداث اختراق أمني كبير، لأنها تمت في الوقت الذي من المفترض أن تكون فيه كافة الأجهزة الأمنية في حالة استنفار أمني كبير على ضوء الأحداث والتطورات المرتبطة بالحرب في غزة وتداعياتها المحتملة، فضلًا عن وجود بعض المؤشرات على تنامي التهديدات المرتبطة بداعش في الداخل الإيراني خلال الفترة التي سبقت الهجمات الأخيرة، ومن ذلك على سبيل المثال، قيام وزارة الأمن الإيرانية بإحباط محاولات لتنفيذ 30 تفجيرًا متزامنًا في طهران، وإلقاء القبض على 28 إرهابيًا قالت إنهم على صلة بتنظيم داعش، وبعضهم لديهم تاريخ من الانتماء إلى جماعات متطرفة في سوريا وأفغانستان وباكستان. كما أكد وزير الاستخبارات الإيراني “إسماعيل خطيب” في أغسطس الماضي، على أنه تم رصد دخول 200 عنصر من تنظيم داعش إلى البلاد، ورغم نجاح القوات الإيرانية في تحييد معظمهم إلا أن هذا لم يمنع حدوث تفجيرات كرمان.
• توظيف الحرب في غزة: منذ بدء حرب غزة الجارية حرص تنظيم داعش على توظيفها والاستثمار فيما خلفته من مشهد أمني إقليمي معقد لإثبات حضوره وتأثيره، وجذب أعضاء جدد إلى صفوفه، ولعل أحدث تجليات توظيف التنظيم لهذه الحرب، إعلانه في مطلع العام الجاري على لسان المتحدث باسم داعش “أبو حذيفة الأنصاري عن حملة دعائية جديدة بعنوان “واقتلوهم حيث ثقفتموهم” يركز فيها التنظيم على الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وينتقد التحالف بين حركة حماس وإيران، ويدعو أفرعه وأنصاره في شتى أنحاء العالم إلى شن المزيد من الهجمات الانتقامية خلال الفترة المقبلة. وكان لافتًا أن تأثيرات هذه الحملة لم تتوقف عند أهدافها الدعائية المعنوية، بل امتدت إلى أرض الواقع، وترجمتها أفرع التنظيم المختلفة ميدانيًا بشن المزيد من الهجمات الدامية، التي بدأت مع تفجيرات كرمان بإيران وامتدت إلى شن التنظيم بعد أيام قليلة من إطلاقها ما يزيد عن 30 هجومًا يمتد من العراق وسوريا إلى مالي ونيجيريا والكونغو وموزمبيق وأفغانستان والفلبين، وكان أحدثها إعلان التنظيم في 7 يناير الجاري تبنيه هجوم انتحاري في حي شيعي بالعاصمة الأفغانية كابول، أسفر عن مقتل شخصين وإصابة 14 آخرين، ومن المرجح أن تشهد دول أخرى المزيد من الهجمات خلال الأيام المقبلة.
• إحراج حركة طالبان: لم يتضمن إعلان تنظيم داعش تحديد الفرع المسؤول عن تفجيرات كرمان، إلا أن ثمة معلومات استخباراتية أمريكية تشير إلى ضلوع الفرع الخراساني للتنظيم المنتشر في أفغانستان بتنفيذ الهجوم. وعليه، يمكن تفسير هجمات داعش الأخيرة في إيران في ضوء مساعي التنظيم إلى إحراج حركة طالبان –عدوه اللدود – وإثبات عجزها عن الوفاء بتعهداتها بعدم تصدير التهديدات الإرهابية من أفغانستان، ومسؤوليتها عن حماية مصالح ورعايا دول جوارها الإقليمي في البلاد، فضلًا عن رغبة التنظيم في زعزعة محاولات التفاهم والتقارب الأخيرة بين حكومة كابول وطهران في ملف مكافحة الإرهاب. وجدير بالذكر أن فرع تنظيم داعش- خراسان رغم ما تلقاه من ضربات على يد قوات حركة طالبان خلال عام 2023، إلا أن التنظيم لا يزال لديه القدرة على تدريب عناصره على تنفيذ هجمات في دول الجوار الأفغاني، ويحتفظ بخلايا في المناطق الحدودية داخل إيران وباكستان، وربما يلجأ خلال الفترة المقبلة بسبب الضغوط المتزايدة عليه من حركة طالبان إلى التركيز على شن هجمات إقليمية نوعية في بعض دول الجوار ومنها إيران، التي يركز المنفذ الإعلامي الخاص بولاية خراسان على إطلاق التهديدات لها بشكل مستمر.
ختامًا، يمكن القول إن هجمات تنظيم داعش الأخيرة في إيران تُنذر بتنامي تهديد التنظيم في أفرعه الممتدة في مناطق العالم المختلفة بشكل عام، وفي وسط وجنوب آسيا على وجه الخصوص. ومن المتوقع أن يشهد العام 2024 زيادة في المخاطر الأمنية المرتبطة بداعش وغيرة من التنظيمات الإرهابية الأخرى، في ضوء استمرار الحرب في غزة وتداعياتها الخطرة على الأمن الإقليمي والعالمي، وتأثيراتها السلبية على جهود مكافحة الإرهاب.
باحثة ببرنامج قضايا الأمن والدفاع