
عواصف النيجر في ليبيا
لو علمت القوى المحلية الليبية التي لعبت دورًا في تعطيل العملية السياسية أنها لن تكون بعيدة عن العواصف التي تشهدها النيجر لما تأخرت لحظة في العمل على نجاح تسهيل التسوية والوصول مبكرًا إلى إجراء الانتخابات. ولو علمت بعض القوى الخارجية أن دفاعها المستميت عن مصالحها في ليبيا ليس بمنأى عن المحيط الجغرافي لكانت بادرت سريعًا للدفع نحو تنفيذ هذا الاستحقاق بدلًا من توزيع الاتهامات والتغاضي عمن تسببوا في تكريس الهوة بين الفرقاء.
كشفت الأحداث التي تمر بها دولة النيجر التي تقع في الجنوب الغربي من ليبيا أن الأوضاع في بعض دول الجوار هشة ويمكن أن تشهد المزيد من التدهور، في منطقة تعج بجماعات إرهابية ومتطرفين ومهربين؛ فما حدث قبل أيام لم يكن انقلابًا عاديًا على الرئيس محمد بازوم، لأنه يكمل سلسلة من التحركات تضع بعض الدول الغربية صاحبة النفوذ في منطقة الساحل والصحراء وما خلفها في مأزق حاد، فالنفوذ الفرنسي بات على المحك، والولايات المتحدة تتراجع كثيرا لصالح تنامي الدور الروسي.
ما يجري في النيجر رفع الغطاء عن جانب معتبر من الحسابات المعقدة في المنطقة، وكأن ليبيا ينقصها نشوب صراع في السودان ثم النيجر، أو أن الدول المشتبكة سياسيًا وأمنيًا على الساحة الليبية غافلة عما يدور في الفناء الخلفي لهذه الساحة، والتي كلما اقتربت من التسوية ابتعدت عنها مجددًا، لأن هناك من يجدون في استمرار الأزمة حلًا مؤقتًا لهم، ففي ظل تناقض المصالح تعتقد بعض الجهات أن اللا حل هو الحل.
تكمن خطورة أحداث النيجر في أن ارتداداتها الإقليمية والدولية قد تصبح أخطر من تداعياتها الداخلية، فالأخيرة مستمرة بنجاح الانقلاب أو فشله، ففي الحالتين لن تهدأ الأوضاع الداخلية، لأن الفريق المنتصر سيواجه تحديات عصيبة من الفريق المهزوم، بينما الأولى يمكن أن تنزلق إلى تصفية حسابات خارجية لن تقتصر على النيجر.
تشير حالة الاستنفار ضد النفوذ الغربي ممثلًا في فرنسا والولايات المتحدة إلى أن مصالحهما مهددة في المنطقة التي تشمل ليبيا أيضًا بحكم وجود قضايا متداخلة، أبرزها الدور الذي تلعبه قوات فاجنر الروسية، والتنظيمات الإرهابية العابرة للحدود، وكلاهما يفضي إلى تنافرات أمنية وربما عسكرية تستخدم فيها قوات تعمل بالوكالة.
مع تنامي ظاهرة الميليشيات والمرتزقة والمتشددين في ليبيا وروافدهم، قد تنزلق أقدام هؤلاء من خلال من يحركونهم إلى النيجر، لأن القوى الكبرى المعنية بما يدور فيها لا تريد اشتباكًا مباشرًا، وتعمل دائمًا لتوظيف أذرعها ومن يدينون لها بالولاء، من هنا لن يكون مستبعدًا التحام مقاطع مما يجري في ليبيا مع النيجر والسودان وغيرهما.
لعل التطورات الساخنة في النيجر، وقبلها السودان، تفرض على القوى المعنية بليبيا السعي نحو التهدئة والتحرك بجدية نحو إجراء الانتخابات كطريق مهم لتفكيك الكثير من العقد، لأن ما طرحه مؤخرًا المبعوث الأممي في ليبيا عبدالله باتيلي من تصورات تتعلق بتهميش دور مجلسي النواب والدولة يصب في إطالة عمر الأزمة ولن يسهم في توفير معالجة سياسية تؤدي إلى تسوية مستقرة.
إذا نظر المبعوث الأممي والدول الغربية الخمس التي أيدت تحركاته الأخيرة، وهي: الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، إلى المخاطر التي تنطوي عليها أحداث النيجر لن يتوقف لحظة عن تصويب المسارات الخاطئة التي تغرق ليبيا في دوامة جديدة من التراشقات، وتعيدها إلى المربع الذي غادرته منذ حوالي ثلاثة أعوام عندما تم تثبيت وقف إطلاق النار.
يعد الاستحقاق الانتخابي وسيلة وليست غاية للوصول إلى وضع مستقر في ليبيا، وهو بداية وليس نهاية، حيث يحتاج إلى بذل جهود كبيرة لإتمامه، وجهود أكبر لتنفيذ ما يتولد عنه من مخرجات. وكان الأولى أن يتم تعبيد الطريق من المطبات الحقيقية التي تعتريه بدلًا من العودة إلى نقطة الصفر من خلال تهميش مجلسي النواب والدولة.
تبدو الاستفادة من عواصف النيجر مسألة حيوية لمنع حدوث انتكاسة سياسية وعسكرية في ليبيا؛ فالتطورات التي تجري في النيجر أكدت أن مصالح القوى الكبرى تحظى بأهمية كبيرة دون اعتبار لما يمكن أن تسفر عنه من نتائج سلبية على الشعوب، فكل ما يهم فرنسا الحفاظ على نفوذها واستمرار تدفق اليورانيوم والذهب من النيجر، وكل ما يعني الإدارة الأمريكية عدم هزيمتها أمام تمدد النفوذ الروسي في أفريقيا.
تؤكد لعبة الأمم التي تستشف من أحداث النيجر أن ليبيا والدول التي تعاني من نزاعات داخلية هي واجهة لصراعات خارجية كبيرة، تتوقف آليات التسوية فيها واستمرار الحروب على حجم الاستفادة، فعندما تكون هناك حاجة للحسم لن تتأخر هذه الدول في السعي إليه، والعكس صحيح، ما يعني أن ليبيا لم تصل في تقديرات القوى الكبرى لهذا المستوى، وهي نتيجة تفسر توالي التعقيدات كلما اقترب الليبيون من التفاهمات.
دقت عواصف النيجر جرس إنذار في ليبيا، وعلى القوى الوطنية الانتباه إلى أن خلافاتهم وصراعاتهم تسببت في تحويل بلدهم إلى لعبة أمم جديدة؛ فهناك قوى عديدة متشابكة، قد تتقارب أو تتنافر لكن في النهاية المصالح هي اللغة الوحيدة التي تحركها، ولذلك فعندما يكون خيار الانتخابات مفيدًا لها سوف يتم تسهيل الوصول إليه، وحتى الآن تشير بعض المعطيات إلى أن هذه القناعة غير متوافرة، أو بمعنى أدق تتوافر عندما تكون الانتخابات مطية لتصعيد وجوه بعينها واستبعاد أخرى.
نقلًا عن جريدة الأهرام