السويد والدنمارك عالقتان بين حرية التعبير عن الرأي وضغوطات العالم الإسلامي
أيام حاسمة تعيشها السويد والدنمارك عقب تزايد حوادث حرق المصاحف، إذ أدت تلك الحوادث التي لم تعد فردية في نظر العالم الإسلامي إلى سلسلة من الاحتجاجات الغاضبة، الأمر الذي يضع البلدين في قلب عاصفة دبلوماسية متنامية، ويزيد مخاوفهما من خطر الهجمات الإرهابية التي قد تتعرضان لها بما يؤثر على الأمن داخليًا، ويقوض محاولات تحسين السياسة الخارجية.
حوادث متكررة وتنديد إسلامي واسع
في الفترة الماضية، وانطلاقًا من الحماية القانونية القوية لحرية التعبير بموجب الدستور، سمحت الشرطة المحلية في الدولة الإسكندنافية بعدد من الاحتجاجات هذا العام، حيث تم السماح خلالها بحرق نسخ من القرآن الكريم، وكذلك تم تمرير حرق نسخ من التوراة خارج السفارة الإسرائيلية، ومن بعد ذلك انتشرت حوادث مماثلة في الدنمارك، وتحديدًا في العاصمة كوبنهاجن، على الرغم من تحذيرات رؤساء وزراء البلاد من أن تلك المظاهرات تجعل البلدان هدفًا أكبر للإرهاب.
وظهر رد فعل عنيف على هذه الاحتجاجات باحتجاجات أقوى وصلت لذروتها في تركيا، حيث استخدم الرئيس رجب طيب أردوغان الاحتجاجات كسبب لتأخير الموافقة على محاولة السويد الانضمام إلى الناتو- على الرغم من تغيير موقفه بعد ذلك لاعتبارات أخرى-، وكذلك ظهرت احتجاجات متزايدة في الأسابيع الأخيرة في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وكان آخرها في باكستان، ومن بعدها العراق، حيث تم اقتحام السفارة السويدية في بغداد اعتراضًا على سماح السويد بحرق القرآن الكريم، والتي على إثرها عقد اجتماع وزراء خارجية 57 دولة إسلامية لحث الدولة الإسكندنافية على اتخاذ إجراءات صارمة، سواء كانت سياسية أو اقتصادية، من خلال اجتماع افتراضي أقامته منظمة التعاون الإسلامي، ونتج عنه خطة عمل مكونة من 35 نقطة، دعت الأمين العام للأمم المتحدة إلى تعيين مقرر خاص لمكافحة الإسلاموفوبيا، وحثت جميع الحكومات على التنفيذ الكامل للقانون الحالي أو اعتماد تشريع جديد إذا لزم الأمر ، مستشهدة بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتحديدًا المادة (1-3) من ميثاق الأمم المتحدة، التي تدعو إلى “تعزيز وتشجيع احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية لجميع الناس دون تمييز على أساس الجنس أو اللغة أو الدين”، وطلبت من مجموعاتها في نيويورك وجنيف “مواصلة إثارة وإبلاغ الأجهزة المعنية في الأمم المتحدة” وإدراج هذه القضية على جدول أعمال دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر القادم.
مخاوف أمنية
تعيش السويد في أكبر قلق أمني منذ عقود، فالوضع الأمني في البلاد وفقًا لما يراه رئيس الوزراء السويدي “أولف كريستون” في أخطر المستويات منذ الحرب العالمية الثانية، وحذر جهاز المخابرات السويدية هذا الأسبوع من أن السويد قد انتقلت من كونها هدفًا مشروعًا للهجمات الإرهابية كبقية دول الغرب إلى هدف “ذي أولوية”، وسط توقعات بهجوم محتمل قريب من قبل الوسط الإسلامي العنيف والجماعات المسلحة والجهات الفاعلة المنفردة المستوحاة منها، لتستجيب الحكومة السويدية لهذه التحذيرات وتقوم بتكليف 15 سلطة حكومية بتعزيز دفاعاتها، وتكثيف الأمن الداخلي ومراقبة الحدود، وهو الأمر الذي سيمنح الشرطة السويدية بداية من هذا الشهر سلطة أوسع لإيقاف وتفتيش أي شخص يشتبه به، هذا بجانب التشديد على الحدود وزيادة المراقبة الإلكترونية، وكذلك الحال في الدنمارك التي أكدت أجهزة الأمن بها أنها تشهد ارتفاعًا في مخاطر التعرض لهجمات إرهابية.
وحافظ جهاز الأمن السويدي “SAPO” على تقييمه لمستوى التهديد عند 3 على مقياس من 5، مما يشير إلى “تهديد متزايد” خلال الأزمة، وتتخوف السويد تحديدًا من التنديدات الإيرانية، حيث ازدادت حدة الخطاب بشأن حرق القرآن في جميع أنحاء العالم -وفق ما تم الإشارة إليه سابقًا- ولكن في إيران بشكل أكثر حدة، حيث وجه المرشد الأعلى الإيراني “آية الله علي خامنئي” تحذير شديد اللهجة يحمل تهديدات مبطنة للحكومة السويدية، بأن “دعم المجرمين ضد العالم الإسلامي تحت مسمى حرية الرأي يعادل الذهاب إلى ساحة المعركة من أجل الحرب”، مطالبًا بتسليم ما وصفه بـ “العميل” الذي ارتكب جريمة حرق القرآن إلى الأنظمة القضائية في الدول الإسلامية.
تداعيات دبلوماسية
بين حرية الرأي وحماية الأمن القومي والخضوع لضغوط الدول الإسلامية والحفاظ على العلاقات الدبلوماسية معها، تحاول السويد والدنمارك إيجاد طرق قانونية لاحتواء الأمر، فهما واقعتان على حافة الهاوية بين دعم قوانين حرية التعبير، وبين الأمن القومي الذي بات مهددًا، فضلًا عن مصالح البلدين في الداخل والخارج التي أصبحت مهددة أيضًا.
فقد أسفر حرق القرآن والكتب المقدسة عن قيام “مصر” باستدعاء السفير الدنماركي بعد إحراق مصحف أمام سفارتها، وكذلك السفارة التركية في كوبنهاجن هذا الأسبوع، ودعت وزارة الخارجية المصرية الدنمارك والسويد إلى “اتخاذ إجراءات ملموسة لوقف هذه الحوادث المؤسفة بشكل نهائي”، وأدانت تركيا بأشد العبارات الحادثة أمام سفارتها، وقطعت الحكومة العراقية رسميًا العلاقات الدبلوماسية مع السويد، فيما زاد وزير الخارجية الإسرائيلي من حدة الأمور، عندما حذر من أن العلاقات بين البلدين قد تتضرر بعد أن أعطت الشرطة السويدية الضوء الأخضر لمظاهرة حرق التوراة هذا الأسبوع.
تهدد التداعيات الدبلوماسية بالتصعيد إلى حرب تجارية بعد أن جاءت دعوات من المسلمين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لمقاطعة المنتجات السويدية، حيث دعا الأزهر الشريف بمصر، وهو أقدم مؤسسة سنية في العالم الإسلامي، المسلمين إلى مقاطعة المنتجات السويدية، بجانب مقاطعة مماثلة للمنتجات الدنماركية، وانتشرت بالفعل دعوات عبر وسائل التواصل الاجتماعي لمقاطعة المنتجات السويدية باستخدام علامات التصنيف “معاقبة الحكومة السويدية” و “مقاطعة المنتجات السويدية”، وهو الأمر الذي يشكل خطورة متوسطة لاقتصاد السويد الذي يعتبر من أكبر الاقتصادات في أوروبا.
وتعتبر السويد من كبرى الدول الأوروبية التي تبيع وتنتج الأثاث، ويبلغ الناتج المحلي لها حوالي 585.94 مليار دولار، وفقًا للبنك الدولي، كما أنها موطن لشركات كبرى متعددة الجنسيات مثل Ikea، التي تنتج وتبيع الأثاث والمقتنيات المنزلية، ومتاجر الأزياء “H&M”، وشركة”Electrolux” لتصنيع الأجهزة المنزلية ومزود تكنولوجيا الأجهزة المحمولة Ericsson.
وتصدر السويد 2.6% من صادراتها لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتعتبر تركيا والمملكة السعودية من أكبر المستوردين للمنتجات السويدية، تليهم مصر والإمارات العربية المتحدة وإندونيسيا وماليزيا والمغرب وقطر والجزائر وباكستان، وفقًا لقاعدة بيانات الأمم المتحدة “COMTRADE”.
بالإضافة إلى ما سبق، فإن هناك قلقًا بات واضحًا الآن من تأثير تلك الأحداث على هدف ستوكهولم بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، ألا وهو مسار عضوية السويد في الناتو، والذي يرى المحللون أنه بالتأكيد قد ينحرف بسبب عجز ستوكهولم عن “منع الاستفزازات” التي طالبت بها أنقرة، فبعد موافقة تركيا الصعبة على مبدأ توسيع التحالف، سيتطلب من الرئيس التركي الآن رد فعل قوي على مسألة إحراق المصحف، بعد حديثه المستمر عن استمرار بلاده في الحرب ضد “الإسلاموفوبيا” التي تنتشر في الغرب، وبالتالي نحن أمام موقف متوتر حول أوراق اعتماد السويد للعضوية.
والجدير بالذكر أن المجر، الدولة الأخرى التي لم توافق بعد على عضوية السويد بسبب انتقادات السويد لها، تنتظر هي الأخرى موافقة تركيا، إذ فشل أعضاء الحزب الحاكم الذين يتمتعون بأغلبية الثلثين في المجلس، في الحضور لاجتماع استثنائي للبرلمان دعت إليه أحزاب المعارضة للتصديق على انضمام السويد إلى الناتو، وسط عدم توضيحات –حتى الآن- عن سبب ربط الجدول الزمني لبودابست بجدول أنقرة.
وهناك فرضية أخرى تدور حول الاستغلال الروسي للموقف، إذ يرى المسؤولون في السويد أن روسيا تقوم بالصيد في المياه العكرة، وتحاول من خلال حملة معلومات مضللة عبر الإنترنت من قبل جهات مدعومة من قبلها، إلى هز صورة السويد أمام الغرب والإضرار بمصالحها الدولية مع اقترابها من حسم موقفها حول عضوية الناتو، وتحويلها من دولة متسامحة إلى دولة معادية للإسلام والمسلمين، وتسهل إهانة وتحقير ثقافات وديانات وتقاليد البلدان الأخرى، ويبدو أن المستهدف من هذه الحملة هي تركيا التي توقن روسيا أن بيدها قلب موازين القرار، وتغيير رأيها بشأن عضوية السويد في تحالف شمال الأطلسي.
محاولات الحكومة لتحقيق التوازن الداخلي والخارجي
ترى السويد والدنمارك أن مثل تلك الحوادث الفردية ناتجة عن “سوء الاستخدام” للقوانين، وانتقدت البلدان بالفعل احتجاجات حرق القرآن الكريم، لكنهما في الوقت نفسه استشهدتا بقانون حرية التعبير الساري منذ سبعينيات القرن الماضي، وكمحاولة للسيطرة على الموقف، رفضت الشرطة السويدية إصدار أية تصريحات لأي احتجاجات جديدة سيتم خلالها إتلاف الكتب المقدسة، لكن المحاكم في السويد نقضت هذا الرفض لعدم وجود ما يثبت أن الاحتجاجات ستهدد بشكل مباشر السلامة العامة، وأيضًا عدم رغبتها في الرضوخ لضغوط العالم الإسلامي، فضلًا عن عدم وجود قانون في البلاد يحظر أو يعاقب على انتقاد الدين أو الرموز الدينية أو حتى الرموز الوطنية كالعلم السويدي. وبالتالي فإن التغييرات الشاملة في قوانين حرية التعبير السويدية ليست مطروحة على طاولة المفاوضات بين الحكومة.
ولهذا، تواجه الحكومة السويدية عملية موازنة صعبة في الدفاع عن قوانين حرية التعبير بعيدة المدى، مع تجنب الإهانة المحتملة للمسلمين في الوقت نفسه، وذلك من خلال البحث عن تغييرات من شأنها أن تسمح للشرطة بإيقاف حرق القرآن في الأماكن العامة إذا كان ذلك يمثل تهديدًا لأمن السويد القومي، ولكن موقف الموازنة ذلك لا يلقى دعمًا من قبل حزب الديمقراطيين السويديين المناهض للهجرة، والذي يحافظ دعمه على تحالف يمين الوسط في السلطة، على الرغم من أنه ليس جزءًا رسميًا من الحكومة، بينما يحذر أعضاء حزب الديمقراطيين السويديين، وهو أكبر حزب يميني، مرارًا وتكرارًا من “أسلمة” المجتمع السويدي ويدعون المهاجرين إلى تبني القيم “السويدية” وفقط.
ومن جانبها، وسعيًا لتخفيف حدة المشكلات، أكدت الحكومة الدنماركية أنها ستسعى لإيجاد “أداة قانونية” يمكن أن تمكن السلطات من التدخل في مثل هذه الاحتجاجات أمام السفارات الأجنبية في الدنمارك، إذ اعتبرت أنها سيترتب عليها إن تم تطبيقها “عواقب سلبية كبيرة على الدنمارك، ليس أقلها فيما يتعلق بالأمن”، بالإضافة إلى اعتبار “حرق القرآن هو تعبير عن التنمر والتمييز” ضد فئات اجتماعية أقلية وهم المسلمون، كونه أحد المخارج المطروحة من قبل الطبقة السياسية.
وبالفعل هناك انقسامات حادة داخل الحكومة الائتلافية حول تأمين أغلبية تحسم الجدل حول الأمر، فهناك معارضة من أحزاب من اليمين الذي يتبنى منهج حرية التعبير والنقد للأديان، وبين اليسار الدنماركي الرافض للـ “إملاءات” من الأنظمة غير الديمقراطية مع شعوبها.
ومع أن حكومة “ميتا فريدركسن” المنتمية للحزب الاجتماعي الديمقراطي من يسار الوسط، تستطيع تمرير قانون يحظر حرق الكتب المقدسة ولو بأغلبية قليلة، إلا أنها لا تريد القيام بذلك خوفًا من انقسامات سياسية وشعبية خطيرة، مع العلم أنه حتى الأحزاب المعارضة تتفق هي الأخرى في قرار رفض تمرير التشريع حمايةً لحرية الرأي.
ختامًا، يبدو أن اتفاق منظمة التعاون الإسلامي الذي خرج بعدد من الإجراءات المشددة سيعطي دفعة للسياسيين في السويد والدنمارك نحو إيجاد مخرج قبل أن تنفلت الأزمة بشكل أكبر، وتصبح المسألة عنادًا ليس إلّا، من قِبل أفراد أو جماعات يمينية متطرفة وإحراق المزيد من المصاحف، ومن منطلق الحرص على عدم تدهور المصالح الخارجية والعلاقات الدبلوماسية مع العالم الإسلامي، سيتعين على السياسات الدنماركية والسويدية، مسابقة الزمن لاتخاذ موقف حاسم لوقف حالات إهانة البلدان والثقافات والأديان الأخرى.