مقالات رأيعلوم وتكنولوجيا

معركة الرقائق الإلكترونية.. شراسة الاستحواذ على مفاتيح التفوق

قبل أيام، أعلنت الصين بحسب وكالة بلومبرج عن ضوابط جديدة على صادراتها من مادتي “الغاليوم” و”الجرمانيوم”، وهما معدنان مهمان ويستخدمان بصورة رئيسة في: صناعة أشباه الموصلات، والاتصالات، والطاقة الشمسية، وصناعات السيارات الكهربائية. وهي خطوة تمثل تصعيدًا كبيرًا في الحرب التجارية التكنولوجية الجارية بين الصين والولايات المتحدة وأوروبا، وقد يستتبعها بالضرورة اتخاذ الولايات المتحدة بالأخص تدابير مضادة تقييدية مقابلة، وهو مشهد مبارزة شديد الخطورة على المستوى الدولي ولن يقف بالتأكيد عند حدود الدولتين المتصارعتين.

قواعد التصدير الجديدة التي أعلنتها بكين ستلزم الشركات الصينية بالحصول على “رخصة تصدير” للمعدنين والمنتجات التي تحتوي عليهما، بدءًا من أغسطس 2023، باسم الأمن القومي للصين. وبوصفها أكبر منتج في العالم لكل من “الغاليوم” و”الجرمانيوم”، يمكن أن يكون لقيودها تأثير كبير على عديد من الصناعات العامة والحيوية، فهي فعليًا قبل هذا القرار الجديد ظلت تنتج النسبة الأكبر من المعروض العالمي؛ إذ يمثل الإنتاج الصيني ما نسبته 94% من إنتاج “الغاليوم” في العالم، فضلًا عما تمتلكه من احتياطيات كبيرة من هذه المعادن. 

لهذا ينظر كبار رجال الصناعات عالية التقنية لهذا القرار -بوصفه مدمرًا على نطاق واسع- بقدر الأهمية القصوى لهاذين المعدنين في مكونات تلك الصناعات. تلك المواد المشار إليها ليست من المعادن النادرة، إلا أن حالة الصدمة اليوم تتعلق بأن الصين احتفظت بها لمدة طويلة سابقة رخيصة الثمن، ومستقبلًا ستكون الأسواق أمام مستوى مختلف يمكن أن تكون مكلفة، وبنسب لم تحدد بعد في حال الاضطرار لتعدينها في أماكن أخرى.

لا شك أننا نراقب فصلًا جديدًا في حرب شرسة بين الولايات المتحدة والصين بشأن صناعة الرقائق الإلكترونية التي اندلعت مند العام 2022. وقد كثفت واشنطن من جهودها خلال الفترة الماضية لإعاقة تقدم الصين في هذه الصناعة؛ من خلال فرض قيود عليها، لترد بكين متوعدة بتحقيق النصر في “معركة الرقائق الإلكترونية” بحسب وصفها لهذا التنافس. 

وكلا الطرفين ومعهما الأطراف الأخرى المعنية يدركان أن الأمر تجاوز حد المنافسة التجارية أو الصناعية، بعدما دخلت عليه الإشكاليات المتعلقة بالمواجهة الجيوسياسية فيما يخص قضية “تايوان”. فتصنيع معظم شرائح العالم حاليًا يجري في تايوان، مما منح هذه الجزيرة التي تتمتع بالحكم الذاتي تلك الأهمية في هذا المضمار لحد وصفه بـ”درع السيليكون”، الذي يوفر لها حتى الآن الحماية من الصين، فيما تسعى الأخيرة في الوقت ذاته إلى فرض سيادتها الكاملة على الإقليم. 

وقد جعلت بكين مؤخرًا إنتاج الشرائح أولوية وطنية، وتستثمر بقوة في أجهزة الكمبيوتر العملاقة والذكاء الاصطناعي، وفق عقيدة ومخطط استراتيجي بات معلنًا، يتلخص في أنه كلما امتلكت الدول القوية ما يكفي من تكنولوجيا حوسبة متقدمة فإنها، فضلًا عن تحقيق المكانة، قادرة على تطبيقها في أنظمة استخباراتية وأنظمة عسكرية.

الولايات المتحدة بالطبع مدركة لهذا الطموح الصيني، وتراقب عن كثب ما تحقق منه بهذا التسارع الزمني الذي جعلها تستنفر هي الأخرى كافة أساليب وأدوات المواجهة. فقد كان لها ضربة استباقية مبكرة اطلقتها في أكتوبر 2022؛ أعلنت واشنطن حينها فرض قيود تصدير مشددة، تجعل من المستحيل عمليًا على الشركات بيع الشرائح ومعدات تصنيع الرقائق والبرامج التي تحتوي على التكنولوجيا الأمريكية إلى الصين، بغض النظر عن مكان وجودها في العالم. وأتبعته بإعلان شركة “ميكرون”، أكبر شركة مصنعة لرقائق الذاكرة الضرورية لإنتاج أجهزة الكمبيوتر العملاقة والأجهزة العسكرية وأي جهاز به “معالج بيانات” ومقرها الولايات المتحدة، عن خطط لاستثمار ما يصل إلى 100 مليار دولار على مدار العشرين عامًا القادمة في مصانعها المتخصصة في إنتاج شرائح الكمبيوتر بشمال نيويورك. 

هذا التطور في نشاط تلك الشركة العملاقة ومثيلاتها جاء بعد إصدار الولايات المتحدة قانونًا عُرف باسم قانون “الرقائق الالكترونية” وبدأ تطبيقه في النصف الأول من العام الجاري، وفسرته وزيرة التجارة “جينا ريموندو” بأنه سيضمن للبنتاجون وصولًا آمنًا لتلك الموصلات عالية التقنية المصنعة في المنشآت التي تتلقى تمويلًا من قانون الرقائق البالغ 53 مليار دولار، وأكدت الوزيرة أن الشركات المصنعة ستضمن تزويد الجيش الأمريكي بالرقائق المتقدمة التي يحتاجها لأنظمة الأسلحة الحديثة.

تلك القيود تؤلم الصين بشدة، ويبدو أنها كانت سببًا رئيسًا لقرارها الأخير المتعلق بتقييد الاستفادة من المعادن المهمة التي كانت تنتجها بتكلفة اقتصادية؛ فهي ترى الولايات المتحدة جادة في خططها لخنق أي إمكانية كي تستحوذ الصين على مساحات في هذا المجال. النموذج الأبرز على ذلك كان عندما ألغت “شركة آبل” صفقة لشراء شرائح ذاكرة من واحدة من أنجح شركات الرقائق في الصين، وهي شركة “يانغ تسي ميموري تكنولوجي” (واي إم تي سي)، في أعقاب فرض القيود الأمريكية الأخيرة. في مواجهة ذلك، تقدمت بكين بشكوى لمنظمة التجارة العالمية لكن التوصل إلى قرار قد يستغرق سنوات، لهذا لم يكن أمام الصين سوى مضاعفة الاستثمار ودعم صناعة الرقائق المحلية كي تمسك هي الأخرى بقدرات وطنية تمكنها من خوض هذا الصراع. 

السياسيون يدركون أن تصنيع أشباه الموصلات والرقائق أمر معقد، ومتخصص ومتكامل على نحو يزيد حدة الصراع؛ فجهاز هاتف (آي فون) مثلًا يحتوي على شرائح تم تصميمها في الولايات المتحدة، ويتم تصنيعها في تايوان أو اليابان أو كوريا الجنوبية، ثم يجري تجميعها في الصين كما كان الأمر سابقًا. وكذا، يمكن للهند التي تستثمر أكثر في هذه الصناعات أن تلعب هي الأخرى دورًا أكبر في المستقبل. فكيف يمكن للساسة إدارة توازنات بين تلك الدول جميعها من أجل انتاج آمن وتعاون في سلعة واحدة، هذا هو جوهر الصراع الدائر الآن، وهو يطرح تساؤلًا استراتيجيًا له علاقة أيضًا بمساحات الاستحواذ على التأثير في الأسواق الرئيسة الكبرى لتلك السلع التي وجدت عواصم كبرى كثيرة أنها لا تقبل في معظمها القسمة على اثنين.

+ posts

المدير العام للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية

د. خالد عكاشة

المدير العام للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى