آسيامصر

تنويع الدوائر.. زيارة الرئيس السيسي إلى “باكو” و”يريفان”

محطتان مهمتان تلتا محطة “الهند” ضمن الجولة الآسيوية للرئيس عبد الفتاح السيسي، محلهما كان العاصمة الأذرية باكو والأرمينية يريفان. شمول هذه الجولة -اللافتة في توقيتها والمهمة في مضمونها- لكلا العاصمتين اللتين ترتبطان بعلاقات تاريخية وثيقة مع القاهرة له دلالات تتعدى مجرد تلبية دعوة الزيارة، أو عقد مباحثات مع كبار قادة كلا الدولتين، لتصل إلى مستوى يمكن من خلاله اعتبار هذه الجولة بشكل عام دليلًا آخر على تكتيك دأبت القاهرة منذ عام 2014 على اتباعه فيما يتعلق بعلاقاتها الخارجية، ألا وهو “تنويع الدوائر”.

من حيث الشكل، يمكن النظر للمحطتين الأذرية والأرمينية في هذه الجولة ضمن جهود القاهرة المستمرة لإدامة علاقات التعاون والشراكة مع الدول الصديقة، خاصة في المحور الآسيوي الذي تزايدت أهميته خلال العامين الأخيرين، بشكل دفع القاهرة إلى العمل بشكل حثيث خلال هذه الفترة لاستغلال الرصيد المصري التاريخي والدبلوماسي والجيوسياسي؛ لتطوير العلاقات مع كبرى الدول الآسيوية، سواء في جنوب شرق آسيا أو وسط آسيا.

أما من حيث المضمون، فيعد العامل الاقتصادي محورًا أساسيًا في هذه الجولة؛ نظرًا إلى وجود فرص اقتصادية كبرى يمكن تبادل منافعها بين القاهرة وكل من باكو ويريفان. كذلك تحمل هذه الجولة ملامح سياسية لا يمكن إغفالها في ظل تعدد الأطراف الدولية الكبرى المهتمة بالنطاق الرابط بين آسيا الوسطى ومنطقة البلقان، وكذا في ظل نجاعة الاستراتيجية المصرية الخارجية، وتبوء مصر مكانة مميزة بين مجموعة صغيرة من الدول التي تحرص دومًا على البعد عن سياسات الاصطفاف والأحلاف، وتضع نفسها دومًا في موضع يمكنها من التدخل -حين تدعو الحاجة إلى ذلك- للتوسط بين الفرقاء والدول، بشكل نزيه يحمل في طياته ثقة دولية واقليمية دائمة في النوايا والقدرات المصرية.

في باكو … توسيع التعاون الاقتصادي المصري الأذري

على مدار يومين، زار الرئيس السيسي جمهورية أذربيجان، مستهلًا هذه الزيارة بلقاء جمعه في مطار “حيدر علييف” بالنائب الأول لرئيس الوزراء ونائب وزير الخارجية، ومن ثم انتقل الرئيس مباشرة إلى لقاء مهم بدا منه بشكل واضح الهدف الرئيس من هذه الزيارة، ألا وهو توسيع قاعدة التعاون الاقتصادي بين مصر وباكو، حيث عقد الرئيس اجتماعًا مطولًا مع مجموعة من أهم رجال الأعمال الأذريين، بحضور وزير الاقتصاد الأذري ميكاييل جباروف، ووزير الخارجية المصري سامح شكري. تحدث الرئيس السيسي في هذا الاجتماع عن الفرص الاقتصادية التي يمكن لكلا البلدين استغلالها، خاصة فيما يتعلق بقطاع الطاقة -الذي يشترك كلا البلدين في امتلاك مقومات لوجيستية وطبيعية هائلة فيه- وأثنى على النجاحات التي حققتها أذربيجان في ظل قيادة الرئيس الحالي إلهام علييف.

تحدث الرئيس أيضًا عن الإمكانيات الاستثمارية التي يمكن للشركات المصرية والأذرية استغلالها في كلا البلدين، بحيث يتم فتح المجال واسعًا أمام الشركات المصرية -خاصة شركات البناء والتعمير- للاستثمار في القطاعات الاقتصادية الأذرية المختلفة. وفي جانب آخر، أعلنت القاهرة عن فتح المجال أمام الشركات الأذرية للاستثمار في قطاعات اقتصادية مصرية مختلفة، مثل القطاع الدوائي وقطاع الطاقة والتعدين.

من جانبه، عبر وزير الاقتصاد الأذري ميكايل جباروف عن ثقته بأن هذا الاجتماع سيسهم في تطوير العلاقات بين البلدين، خاصة أن نحو 51 شركة ومؤسسة مصرية تعمل بالفعل في القطاعات الاقتصادية الأذرية المختلفة، بجانب أن الأداء الاقتصادي لكلا البلدين يسير في مسار صاعد، وحقق ديناميات تنمية مستقرة العام الماضي، وسط توقعات بزيادة الناتج المحلي الإجمالي لأذربيجان بنسبة 4.6%، بعد أن حققت الصادرات الأذرية للخارج زيادة إجمالية في معدلاتها بلغت نحو 73%.

أكد السيد جباروف كذلك أن العلاقات السياسية والاقتصادية بين أذربيجان ومصر تتطور على أساس الاحترام المتبادل والصداقة والتعاون المشترك، وأن الإرادة السياسية لقيادتي كلا الدولتين تلعب دورًا مهمًا في تعزيز وتوسيع العلاقات الثنائية. ونوه الوزير الأذري بوجود إمكانات كبيرة لتوسيع التعاون والتجارة المتبادلة في مجال الاستثمار، خاصة في مجال الطاقة المتجددة والبنية التحتية والبتروكيماويات والمنتجات الزراعية، عبر نشاطات اللجنة الحكومية المشتركة بين أذربيجان ومصر، والفعاليات التي تنظم بمشاركة رجال الأعمال، وهي أنشطة سيتم الدفع بها قدمًا للأمام بعد أن يتم تدشين أنشطة مجلس الأعمال الأذربيجاني المصري.

في اليوم الثاني لزيارة الرئيس السيسي لأذربيجان، التقى في قصر “زوجلوب” الرئاسي بالعاصمة باكو مع الرئيس الأذري إلهام علييف الذي يرتبط بعلاقات شخصية وسياسية وثيقة مع القيادة المصرية، حيث أجرى كلا الرئيسين سلسلة من المباحثات التي تناولت آفاق تعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية بين الجانبين، فضلًا عن النظر في سبل التعاون والتنسيق بين البلدين الصديقين على الصعيدين الدولي والإقليمي. تلا هذه المباحثات لقاء عقده كلا الرئيسين مع عدد من رجال الأعمال والصحفيين، بحضور وزيري الخارجية المصري والأذري، شكر خلاله الرئيس السيسي نظيره الأذري على حسن الاستقبال، وألقى كلمة أوجز فيها ما تم بحثه خلال هذه الزيارة، وكان من الواضح بشكل كبير طغيان الجانب الاقتصادي على الجانب السياسي.

استهل الرئيس السيسي كلمته بتقديم خالص التعازي والمواساة بالنيابة عن الشعب المصري في ضحايا حادث إطلاق النار على السفارة الأذرية في طهران، وأكد على اهتمام مصر بتعزيز التعاون الثنائي في مختلف المجالات والاقتصادية والتجارية والثقافية ذات الاهتمام المشترك، والبناء على ما تم تدشينه من تقارب بين البلدين خلال السنوات الماضية، وأهمية تنشيط التبادل التجاري بين البلدين ليرتقي إلى مستوى العلاقات السياسية المشتركة، ويتسق مع ما يتمتع به البلدان من إمكانات واعدة للتصنيع والتصدير. 

وقد نوه الرئيس في هذا الإطار إلى ان هذه الملفات سيتم بحثها بشكل معمق خلال الدورة السادسة للجنة المشتركة المصرية الأذرية، التي ستحتضنها القاهرة العام المقبل، خاصة التعاون بين البلدين في مجال الصناعات الدوائية -الذي تمتلك أذربيجان فيه إمكانيات واعدة- ومجال التعمير والبنية التحتية، الذي أصبح لمصر خبرة كبيرة فيه، وهو قاع تحتاج باكو فيه للخبرة والإمكانيات المصرية.

كذلك أشار الرئيس السيسي إلى الإمكانيات الاستثمارية التي يمكن لكلا البلدين استغلالها، خاصة في ظل وجود الشركات المصرية في السوق الأذري، ووجود فرص استثمارية كبيرة أمام أذربيجان في مصر، خاصة في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، حيث تعد مصر الخيار الأول أمام باكو لدخول الأسواق العربية والأفريقية عن طريق الاستفادة من اتفاقيات التجارة الحرة المبرمة بين مصر وهذه الدول. نوه الرئيس السيسي في كلمته إلى استئناف رحلات الطيران المباشرة بين شرم الشيخ والعاصمة الأذرية، وإمكانية النظر في تدشين خط طيران مباشر بين القاهرة وباكو، الأمر الذي من شأنه أن يسهم في تعزيز التعاون والتبادل السياحي والثقافي والاقتصادي بين البلدين.

فيما يتعلق بالجانب السياسي، قال الرئيس السيسي في كلمته إنه تم خلال مباحثاته مع الرئيس الأذري التطرق إلى عدد من القضايا الدولية والإقليمية ذات الاهتمام المشترك، سواء في منطقة الشرق الأوسط أو جنوب القوقاز، حيث تم تأكيد أهمية الحوار والتفاوض وتغليب صوت العقل والحكمة، أخذًا في الحسبان أن القوة العسكرية وحدها لم تكن أبدًا كافية لتحقيق السلام الدائم والشامل والعادل، وأنه لا بد من التفاوض لاستكمال مسار السلام، وهنا لابد من التنويه إلى أن الموقف المصري من الأزمة بين أذربيجان وأرمينيا، في إقليم “ناجورنو قره باغ” كان من أهم أسباب احتفاظ القاهرة مع كلا البلدين بعلاقات ممتازة، لأنه كان موقفًا نزيهًا بعيدًا عن أي اصطفاف، ودافعًا في اتجاه وقف إطلاق النار وإنهاء معاناة سكان هذا الإقليم.

من جانبه، قال الرئيس الأذري إن مباحثاته مع الرئيس السيسي شملت قضايا الأمن الإقليمي، وتم تبادل وجهات النظر حول تعميق التعاون الأمني المشترك في مجال مكافحة الإرهاب خلال المدى المنظور. نوه الرئيس الأذري في كلمته بالقدرات الاقتصادية المصرية، واعتبر أن الإصلاحات الاقتصادية التي مارستها القاهرة خلال السنوات الأخيرة، عززت بشكل كبير من قدرات الدولة المصرية، ووفرت لها القدرة على لعب دور إقليمي مهم. وأضاف “إنني على يقين من أن التطور الناجح لعلاقاتنا الثنائية سيكون مفيدًا جدًا لشعوبنا ودولنا. وفي الوقت نفسه، سيحقق مزيدًا من الاستقرار المناطق التي نتواجد فيها، لأنه بدون استقرار لا يمكن لأي دولة أن تتطور بنجاح”. 

اللافت في كلمة علييف إشارته إلى أن مباحثاته مع الرئيس السيسي تم خلالها الإشارة إلى ملف إقليم “ناجورنو قره باغ”، وعن واقع أن “السلام” في هذا الإقليم لم يتم فرضه حتى الآن، وأن الاستحقاق المهم في المرحلة القادمة يتمثل في توقيع معاهدة سلام بين باكو ويريفان، لتقوية الوضع الهش الحالي في هذا الإقليم.

عقب انتهاء هذا اللقاء وقبيل بدء مأدبة العشاء التي أقامها الرئيس الأذري على شرف الرئيس المصري، وقع كل من وزير خارجية أذربيجان جيهون بيرموف ووزير الاقتصاد الأذربيجاني ميكاييل جباروف ووزير خارجية مصر سامح شكري ووزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية هالة السعيد عدة مذكرات تعاون بين البلدين، منها مذكرة تفاهم للتعاون في مجال إدارة الموارد المائية، بين وزارة البيئة والموارد الطبيعية لجمهورية أذربيجان ووزارة الموارد المائية والري المصرية، ومذكرة تفاهم للتعاون في المجال الثقافي بين وزارة الثقافة لجمهورية أذربيجان ووزارة الثقافة المصرية، ومذكرة تفاهم للتعاون الاقتصادي بين وزارة الاقتصاد بجمهورية أذربيجان ووزارة التجارة والصناعة المصرية.

آفاق واعدة للتعاون بين القاهرة وباكو

إذًا، يمكن النظر إلى هذه الزيارة من زاوية اقتصادية “ذات طابع سياسي”، يتم من خلالها البناء على رصيد جيد من العلاقات المتبادلة بين الجانبين، فقد احتفل كلا البلدين العام الماضي بالذكرى الثلاثين لإقامة العلاقات الدبلوماسية بينهما، والتي بدأت عمليًا في السابع والعشرين من مارس 1992، وكانت مصر حينها من أوائل الدول التي اعترفت باستقلال أذربيجان عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، وافتتحت سفارتها في باكو في أبريل 1993، في حين احتضنت القاهرة أول سفارة لأذربيجان في إفريقيا عام 1994. 

المواقف المصرية الإيجابية من أذربيجان بدأت عمليًا قبل استقلال الأخيرة عن الاتحاد السوفيتي، حيث أصدر مجلس الشعب المصري عام 1990 بيانًا شجب من خلاله القمع الذي تعرض لها المتظاهرون ضد الحكم الشيوعي في عدة مدن أذرية. وبدأ تبادل الزيارات الرسمية بين الجانبين في يناير 1992، عبر زيارة وفد مصري برئاسة نائب رئيس الوزراء المصري كمال الجنزوري إلى العاصمة الأذرية، ثم زيارة قام بها في نوفمبر من نفس العام إلى مصر، وفد أذري برئاسة وزير الخارجية توفيق قاسموف، تم خلالها توقيع أول مذكرة تفاهم بين الجانبين في مجال العلاقات الدبلوماسية. ومنذ ذلك التوقيت، وقع الجانبان أكثر من 70 مذكرة تفاهم، شملت مجالات سياسية واقتصادية وثقافية، وكذلك الجانب الأمني الذي شهد توقيع اتفاقية للتعاون بين الجانبين في مايو 1996، تم البحث في تطويرها في فبراير 2015، خلال زيارة وفد من جهاز الحرس الحدودي الأذربيجاني لمصر.

ويتعاون البلدان في إطار المنظمات الدولية بما في ذلك: منظمة التعاون الإسلامي، وجامعة الدول العربية، وحركة عدم الانحياز، ويرتبطان بعدة لجان مشتركة، منها لجنة للتعاون الاقتصادي والتقني والعلمي الحكومي، التي تم تأسيسها في أكتوبر 2002، وعقدت في فبراير الماضي اجتماعها الخامس، الذي ترأسته وزيرة التعاون الدولي المصرية رانيا المشاط، ووزير التنمية الرقمية والنقل الأذري رشاد نبييف، وتم خلاله التوقيع على أربعة مذكرات تفاهم بين وكالات تنمية الأعمال الصغيرة والمتوسطة في البلدين، وبين وكالة ترويج الصادرات والاستثمار الأذربيجانية ووزارة التجارة والصناعة المصرية بشأن إنشاء مجلس الأعمال الأذربيجاني المصري، وبين ميناء باكو وميناء الإسكندرية. 

اقتصاديًا ووفقًا لآخر الإحصائيات، بلغ حجم التبادل التجاري بين أذربيجان ومصر في الفترة من يناير إلى ديسمبر 2022 ما قيمته 11.16 مليون دولار، منها 5.2 مليون دولار تمثل صادرات أذربيجان إلى البلاد، و6.13 مليون دولار للواردات. 

وقد تلقت العلاقات بين الجانبين في مجال السياحة دفعات جيدة خلال الفترة الأخيرة، حيث يرتبط الجانبان بخط جوي منتظم بين شرم الشيخ وباكو، بواقع رحلة واحدة أسبوعيًا. وقد عقد السفير المصري في باكو هشام محمد ناجي عبد الحميد في يوليو الماضي اجتماعًا مع رئيس الخطوط الجوية الأذربيجانية (آزال) جهانجير؛ لزيادة التعاون المشترك في مجال الطيران المدني، خاصة بعد ارتفاع نسبة السياح الأذربيجانيين الذين يزورون شرم الشيخ والغردقة خلال السنوات الأخيرة.

حجم التبادل التجاري الحالي بين الجانبين يبدو غير متوافق مع القدرات الاقتصادية لكليهما، لذا من المتوقع أن تشهد اتجاهات اقتصادية عديدة بين الجانبين -على ضوء مذكرات التفاهم التي تم توقيعها خلال الزيارة الرئاسية الأخيرة إلى باكو- تطورات مهمة خلال المدى المنظور، مع قرب انطلاق مجلس الأعمال الأذربيجاني المصري، وبحث إمكانية التعاون الاقتصادي بين الجانبين في مجالات الطاقة المتجددة والبنية التحتية والبتروكيماويات والمنتجات الزراعية والصناعات الدوائية، حيث يقترب كلا البلدين كثيرًا من تأسيس تعاون دائم في مجالات الصناعات الدوائية والطاقة والبرمجيات التي تحتفظ أذربيجان فيها بخبرات مهمة، وكذلك مجال الصناعات الغذائية والبناء والتعمير اللذين حققت فيهما القاهرة خطوات متقدمة، تحتاج باكو للاستفادة منها خاصة فيما يتعلق بإقليم ناجورنو قره باغ.

المحطة الأرمينية.. علاقات وثيقة في طريقها لمزيد من التطور

المحطة الثالثة والأخيرة في جولة الرئيس السيسي كانت العاصمة الأرمينية يريفان، وهي زيارة ذات طابع تاريخي بحكم أنها الأولى التي يقوم بها رئيس مصري إلى أرمينيا منذ استقلال الأخيرة. الزيارة الرئاسية إلى أرمينيا أتت تلبية لدعوة قدمها الرئيس الأرميني فاهاكن خاتشاتوريان إلي الرئيس السيسي خلال مشاركة خاتشاتوريان في مؤتمر كوب 27 الذي احتضنته مصر أواخر العام الماضي. كان في استقبال الرئيس السيسي في مطار العاصمة الأرمينية نائب رئيس الوزراء الأرميني تيغران خاتشاتريان، ومن ثم عقد اليوم لقاء قمة مع نظيره الأرميني فاهاجن خاتشاتوريان، في القصر الرئاسي بالعاصمة يريفان.

عقب المباحثات المغلقة بين الرئيسين، عقدا سلسلة أخرى من المباحثات بحضور كبار المسؤولين من كلا الجانبين، ألقى خلالها الرئيس السيسي كلمة شكر فيها نظيره الأرميني على حفاوة الاستقبال، وأكد فيها على عمق العلاقات بين مصر وأرمينيا، واهتمام مصر بتطوير هذه العلاقات، وعن تقدير مصر البالغ لمساهمة الجالية المصرية الأرمنية في مختلف المجالات. كذلك وجه الرئيس السيسي التحية لنظيره الأرميني على مشاركته في قمة المناخ بشرم الشيخ، وذكر أن المباحثات بينهما تناولت عددًا من القضايا الدولية والإقليمية ذات الاهتمام المشترك سواء في منطقة الشرق الأوسط أو جنوب القوقاز، وتم خلالها التأكيد على ضرورة اتباع السبيل السلمي والتفاوضي في أي نزاع، كذلك تم بحث ملفات اقتصادية متعددة، خاصة الملفات المتعلقة بالطاقة والغاز، مشيرًا إلى تصميم الجانبين على زيادة حجم التبادل التجاري بينهما.

من جانبه، قال الرئيس الأرميني أن الصداقة بين الشعبين المصري والأرميني ضاربة في التاريخ، وتم تعزيزها بالعلاقات الإيجابية والمتطورة بين كلا البلدين على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، معتبرًا أن شرفًا كبيرًا لأرمينيا استضافتها الرئيس المصري في زيارة تعتبرها يريفان “تاريخية”، وأضاف “تناقشت مع الرئيس المصري حول مجموعة واسعة من أوجه التعاون بين بلدينا، وبلدينا يتعاونان حاليًا بشكل فعال في المجالات السياسية والاقتصادية والعلمية والتعليمية والثقافية والسياحية”. 

وأضاف خاتشاتوريان أن حجم التبادل التجاري بين الجانبين لا يزال غير مُرضٍ، لكنه أعرب عن قناعته أن العلاقات السياسية الإيجابية السائدة حاليًا بين الجانبين تسهم في تعميق التبادل التجاري والعلاقات الاقتصادية بين يريفان والقاهرة، خاصة في القطاع السياحي الذي رأى الرئيس الأرميني أنه يشهد تعاونًا بنّاءً بين الجانبين، في ظل تزايد أعداد السياح الأرمينيين الذين يزورون مصر.

فيما يتعلق بالجوانب السياسية، قال الرئيس الأرميني إنه بحث مع الرئيس السيسي عدة ملفات ذات طبيعة سياسية وأمنية، من بينها ملف السلام في إقليم ناجورنو قره باغ، حيث قال الرئيس خاتشاتوريان “لا يخفى على أحد أن مصر قوة عظمى في منطقتها، ولها خبرة كبيرة في التوسط لحل النزاعات الإقليمية والأهم أنها دولة تطبق أيديولوجية السلام وتعيش بسلام مع جيرانها، وبهذا المعنى نحن متشابهون جدًا مع بعضنا البعض، لأن سياسة جمهورية أرمينيا هي تحقيق السلام في المنطقة”. 

وأضاف الرئيس الأرميني “نحن نحتاج للخبرة المصرية في مجال إرساء السلام والاستقرار في المنطقة، وأنا شخصيًا بحاجة إلى خبرة الرئيس المصري لأنه واجه تحديات كبيرة في ماضيه السياسي والعسكري، وشهد حروبًا وجعل مصر دولة مستقرة ونامية، وقد أشار خلال مباحثاته معي إلى أن الموقف المصري في أزمة إقليم ناجورنو قره باغ هو موقف محايد، ونحن نقبل أي دور مصري لحل هذه الأزمة”.

واختتم الرئيس الأرميني حديثه بتوجيه الشكر لمصر على الرعاية التي يحظى بها المواطنون الأرمينيون الذين يعيشون في مصر، ووجه التحية للقاهرة على أدوارها التاريخية السابقة في حماية الأرمن وتوفير الدعم لهم، وأكد على أنه تم بحث التعاون في عدة مجالات اقتصادية، منها المجال العلمي والتكنولوجي، ووُقعت مذكرة تفاهم للتعاون بين وزارة الشباب والرياضة المصرية ووزارة التعليم والعلوم والثقافة والرياضة الأرمينية، إلى جانب مذكرة تفاهم للتعاون المؤسسي في المجال الاستثماري.

كذلك التقى الرئيس السيسي اليوم رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان الذي أشاد بالعلاقات التاريخية والخاصة التي طالما ربطت بين البلدين الصديقين، وبالزخم الذي شهدته تلك العلاقات خلال الفترة الأخيرة من خلال تبادل الزيارات رفيعة المستوى، والتي كان آخرها مشاركة الرئيس الأرميني في قمة المناخ في شرم الشيخ، في حين أشاد الرئيس السيسي بمواقف أرمينيا الإيجابية والمقدرة تجاه مصر، وما تحقق من تطور كبير في العلاقات بين البلدين خلال الفترة الماضية في ظل الاهتمام المتبادل من الجانبين بدفع العلاقات الثنائية إلى آفاق أرحب.

تباحث الجانبان حول جملة من القضايا الإقليمية والدولية والاقتصادية، وأعربا عن ضرورة عقد الجولة السادسة من اللجنة المشتركة للتعاون الاقتصادي والعلمي والفني بالقاهرة في أقرب وقت ممكن في ضوء دورها كآلية مؤسسية للحوار بين الجانبين، بالإضافة إلى تعزيز التعاون المشترك في عدد من المجالات الواعدة كالطاقة والبنية التحتية وتكنولوجيا المعلومات والصناعات الغذائية والدوائية، وكذلك دعم مساعي مصر لإقامة منطقة تجارة حرة مع دول الاتحاد الاقتصادي الأوراسي لما ستحققه من مصلحة مشتركة للجانبين، حيث تتناسب المنتجات المصرية مع احتياجات هذه الدول من حيث الجودة والسعر. 

اتفق الجانبين كذلك على ضرورة تعزيز التعاون المشترك لمكافحة الهجرة غير الشرعية من خلال منظور شامل، والعمل على القضاء على الأسباب الرئيسة التي تشجع على تلك الظاهرة، إلى جانب استعراض آخر التطورات الخاصة بمكافحة الإرهاب الذى بات يهدد مختلف دول العالم.

على هامش هذه الزيارة، التقى وزير الخارجية الأرميني أرارات ميرزويان بوزير الخارجية المصري سامح شكري، وقد تباحثا حول قضايا الأمن والاستقرار على الصعيدين الدولي والإقليمي، بجانب تناول ملف عملية تطبيع العلاقات بين أرمينيا وأذربيجان، حيث عرض الوزير الأرميني للمعضلات القائمة حاليًا في هذا الصدد، وعلى رأسها ملف ممر “لاتشين” الحدودي، وتبادل كلا الوزيرين الأفكار حول آفاق زيادة تعميق التعاون القائم في مجالات التجارة والاقتصاد والتكنولوجيا العالية والسياحة. 

العلاقات المصرية – الأرمينية.. تاريخ من الإيجابية والتعاون

احتفل كلا البلدين في مارس الماضي بمرور 30 عامًا على بدء العلاقات الدبلوماسية بينهما، حيث كانت مصر أول دولة عربية تقيم علاقات دبلوماسية مع أرمينيا عقب استقلالها عن الاتحاد السوفييتي، وتم التوقيع على اتفاقية إقامة العلاقات الدبلوماسية في 1992، وافتتحت السفارة المصرية في يريفان في مايو 1993، وافتتحت السفارة الأرمينية في القاهرة في مارس عام 1992. 

تتسم العلاقات المصرية الأرمينية بخصوصية تاريخية وعلاقات تعاون وثيقة وبناءة، لا سيما في ظل الجالية الأرمينية الكبيرة الموجودة في مصر، والمساهمة المهمة لعدد من الشخصيات ذات الأصل الأرميني في الحياة السياسية والثقافية المصرية المعاصرة. هذه الخصوصية انعكست على العلاقات السياسية بين الجانبين، حيث حرص الرؤساء الأرمينيون بشكل دائم على زيارة مصر، منذ زيارة الرئيس الأول لأرمينيا  ليفون تير- بتروسيان إلى مصر في مايو 1992، وصولًا إلى زيارة الرئيس الثاني لأرمينيا روبرت كوتشاريان فى أبريل 2007.

يحتفظ البلدان كذلك بمروحة واسعة من جولات الحوار السياسي؛ ففي يوليو الماضي احتضنت العاصمة الأرمينية الجولة العاشرة من المشاورات السياسية بين البلدين، وتداوم اللجنة المشتركة للتعاون الاقتصادي والعلمي والفني بين الجانبين اجتماعاتها، وكان آخرها الاجتماع الخامس لهذه اللجنة في سبتمبر 2017، الذي تم خلاله توقيع سبع مذكرات تفاهم، رفعت عدد مذكرات التفاهم التي تم توقيعها بين الجانبين منذ عام 1992 إلى نحو 50 مذكرة.

على المستوى الاقتصادي، هناك تقدم لافت في العلاقات الاقتصادية بين الجانبين، حيث شهدت الأشهر الثمانية الأولى من العام الماضي زيادة في حجم التبادل التجاري بينهما بخمسة أضعاف ما كان الحال عليه خلال الأشهر الثمانية الأولى من عام 2021، بجانب أن حجم تدفق السياح الأرمن إلى الغردقة وشرم الشيخ قد تضاعف العام الماضي ثلاثة مرات عن العام قبل الماضي.

ويسعى الجانبان حاليًا إلى توسيع حجم التبادل التجاري بينهما، وكذا مساعدة مصر في إعداد وتنفيذ اتفاقية التجارة الحرة  بين الاتحاد الاقتصادي الأوروبي الآسيوي والقاهرة. وجدير بالذكر هنا، أن الصندوق المصري للتعاون مع دول الكومنولث، يؤدي أدوارًا مهمة في تدعيم العلاقات الثنائية بين البلدين، حيث يقدم لأرمينيا أشكالًا مختلفة من المساعدات، منها دورات تدريبية في مختلف المجالات أو  مساعدات مالية وفنية، تجعل لمصر -بجانب موقفها المحايد في ملف ناجورنو قره باغ- مكانة خاصة في الذهنية الأرمينية.

تنويع الدوائر والدبلوماسية الرئاسية

إجمالًا، يمكن القول إن هذه الجولة تبقى نموذجًا آخر من نماذج التحرك المصري الرشيد على المستوى الخارجي، واتباع دبلوماسية رئاسية يتم من خلالها استثمار التحركات الرئاسية من أجل تنويع الدوائر السياسية المصرية، والانفتاح بشكل أكبر على التجارب التنموية المهمة، وكذلك الانخراط بشكل أكبر نحو قارة آسيا التي كان الدور المصري فيها خلال العقود الماضية أقل من المأمول والمطلوب. 

الجانب الاقتصادي في هذه الجولة يبقى هو الطاغي؛ بهدف فتح أسواق جديدة للمنتج المصري، وجذب استثمارات خارجية فيما يتعلق بقطاع الطاقة والبنية التحتية، وكذا توسيع الآفاق المتاحة أمام الشركات المصرية للعمل في أسواق وسط آسيا.

لكن رغم طغيان هذا الجانب فإن الجانب السياسي يبقى ملحوظًا ومهمًا؛ فمصر تستهدف من هذه الجولة دفع العلاقات الثنائية مع دول مهمة في آسيا الوسطى وجنوب آسيا من جهة، ومن جهة أخرى تحاول تطوير نهجها الحالي فيما يتعلق بالسياسة الخارجية والذي يتلخص في محاولة عكس حالة الاستقطاب الحالية والالتفاف عليها، وإحلال حالة الاعتدال والتعاون وتبادل المصالح والشراكات والفوائد محلها، وهي سياسة أثبتت نجاعتها في عدة نطاقات جغرافية، بين البلقان وشرق المتوسط، وصولًا إلى الحرب في ناجورنو قره باغ، ومؤخرًا الصراع في أوكرانيا. 

النقطة التي يجب النظر إليها بشكل معمق تتعلق بحقيقة أن القيادات في أرمينيا وأذربيجان، قد تحدثت بشكل واضح مع الرئيس المصري حول ملف قره باغ. وعلى الرغم من عدم وجود مؤشرات واضحة على وجود تحرك فعلي من جانب مصر للوساطة في هذا الملف، فإن الثقة التي أبدتها كل من باكو ويريفان في مصر ودورها تجعل من الجائز جدًا أن نرى قريبًا دورًا مصريًا في هذا الإطار، يمكن في حالة حدوثه أن يؤسس لمرحلة جديدة من مراحل الدبلوماسية المصرية.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى