
الدعم الأوروبي لأوكرانيا.. بين الإصرار والانقسام والتراجع
منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، أعلنت الدول الغربية أنها لن تتوانى عن مساعدة أوكرانيا مهما كلف الأمر، وبات الأمر مرهونًا بفوزها وعدم التفكير في أي سيناريو يتعلق بانتصار روسيا في هذه الحرب، ومع توالي الحكومات في عدة دول أوروبية، ظل هذا الهدف ثابتًا على رأس أجندات كل حكومة جديدة حتى اليمين منها، ولنا في إيطاليا نموذجًا.
فدعم أوكرانيا غير المشروط كان أول ما وعدت به الحكومة اليمينية الإيطالية بعد وصولها لسُدة الحكم في أكتوبر الماضي، عقب صراعات مطولة انتهت بتفضيل اليمين المتشدد بقيادة السياسية “جورجيا ميلوني” ومجموعة ائتلافية مكونة من “ماتيو سيلفيني” و”سيلفيو برلسكوني” المناهضين لأوروبا وسياسات اتحاده، وذوي العلاقات طويلة الأمد مع موسكو، وبسبب التوترات السياسية واعتبارات تتعلق بالتكلفة ونقص المعدات العسكرية، أعلنت إيطاليا أنها لن تستطيع تقديم أي مساعدات جديدة لأوكرانيا قبل فبراير المقبل.
وتشهد الحكومة الإيطالية مشاحنات وصراعات منذ تشكيلها بسبب الشق المتعلق بتقديم مساعدات لأوكرانيا في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة في الداخل الإيطالي والخارج الأوروبي والعالمي، ونشب هذا الصراع بين ميلوني الداعمة بشدة لكييف منذ يومها الأول كرئيسة للوزراء لأول مرة في تاريخ إيطاليا، وبين معارضين كُثر داخل حكومتها، خاصة حليفيها اليمنيين سالفيني وبرلسكوني، لتتدرج القرارات بهذا الشأن من الدعم غير المشروط لأوكرانيا في البداية، وإرسال المزيد من الأسلحة إلى كييف، تكملةً لمسيرة رئيس الوزراء السابق ماريو دراجي، مرورًا بالتصويت على المساعدات من قبل البرلمان الإيطالي، وصولًا إلى القرار الأخير الصادر هذا الشهر، وهو إرجاء أي مساعدات عسكرية لأوكرانيا حتى العاشر من فبراير المقبل، وهذا ما يجعلنا نرى كيف بات الدعم العسكري لكييف متأرجحًا نتيجة الانقسامات الداخلية للحكومات الغربية، ويطرح تساؤلات حول ما إذا كانت الدول الأوروبية على استعداد لإدارة ظهرها لأوكرانيا، إما بسبب عجزها عن المساعدة أو مللها من طول فترة الحرب التي لا ترى في مداها أي نهاية؟
وقف الدعم مطلب إيطالي شعبي
التوقف عن دعم أوكرانيا لم يكن صراعًا بين الشركاء داخل الحكومة الإيطالية الجديدة فقط، بل بدأ الأمر من الشارع الإيطالي، عندما خرج عشرات الآلاف من الإيطاليين في نوفمبر الماضي في أكثر من مسيرة بالعاصمة روما داعيين إلى التفاوض من أجل السلام في أوكرانيا وتوقف الحرب، ومطالبين الحكومة الإيطالية بالتوقف عن إرسال الأسلحة إلى كييف لمواجهة روسيا، تحت شعار “أعطوا للسلام فرصة!”، وبحسب الشرطة الإيطالية، خرج في هذه المظاهرات نحو 30 ألف شخص يؤكدون أن الأسلحة التي ترسلها إيطاليا لا تفعل شيئًا سوى تأجيج الحرب.
كما اتهم المتظاهرون الإيطاليون حينها الجيش الأوكراني أنه يجر روسيا إلى النزاع المسلح، وبالتالي دائرة لا تنتهي من الصراع الذي أدى في النهاية إلى تردد صداه في الداخل الإيطالي، والتأثير على اقتصاده بشكل كبير، فمن المعروف أن الحكومة الإيطالية وصلت للحكم في ظل سلسلة من الأزمات المتداخلة بسبب الحرب، بدءًا من نقص الطاقة، وصولاُ إلى زيادة التضخم وتقويض النمو، وبالرغم من كل هذه الأزمات، إلا أن ميلوني أكدت أن مواقف إيطاليا المؤيدة لأوكرانيا وحلف الناتو “ليست موضع شك”.
وكان سلفها ماريو دراجي من أشد المؤيدين لكييف، إلا أن قضية إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا أدت إلى انقسام أكبر حزب في البرلمان خلال حكومته الائتلافية، حركة الخمس نجوم، وأدى هذا الخلاف إلى إجراء انتخابات مبكرة جاءت بميلوني إلى السلطة، بعد أن أرسل لأوكرانيا خمسة حزم من المساعدات.
إمدادات مشروطة بالتفاوض على السلام ومخاوف أخرى
في ديسمبر الماضي، أعلن وزير الدفاع الإيطالي “جويدو كروسيتو” أن بلاده ستتوقف عن إمداد أوكرانيا بالأسلحة، بمجرد أن تبدأ موسكو وكييف في مفاوضات السلام، مؤكدًا أن المساعدات العسكرية سيتعين عليها الانتهاء عاجلًا أم آجلاُ، حتى لو استغرق الأمر وقتًا للتفاوض بين طرفي الصراع، أو حتى تعود العلاقات بين حلف شمال الأطلسي “الناتو” وروسيا إلى حالتها السابقة، وفي الشهر نفسه، وافق مجلس الوزراء الإيطالي، على اعتماد مرسوم بتمديد إمدادات الأسلحة إلى أوكرانيا حتى 31 ديسمبر 2023، في استمرار لسياسة الإدارة السابقة لدعم كييف، على أن يتم التصويت على المساعدات المستقبلية في أول العام الجديد، خاصة بعد أن تغيرت طلبات كييف بشأن احتياجاتها، وأكد كروسيتو أن إيطاليا ستواصل دعمها لأوكرانيا “في إطار قرارات حلف “الناتو”، وأن وتيرة ومضمون المساعدة “ستتحدد” في المستقبل، على أن يكون الإمداد متوافقًا مع إمكانية امتلاك هذه الأسلحة ومنحها إلى كييف بفاعلية.
وقبل أسبوعين، أعلن الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، أن روما تدرس إمداد كييف بدفاعات جوية، وأن ميلوني أعادت تأكيد دعم إيطاليا الكامل لأوكرانيا، وذلك بعد ضغط كبير من الرئيس الأوكراني على حلفاء بلاده الغربيين لتكثيف المساعدات العسكرية للمساعدة في التصدي لهجمات الصواريخ والطائرات المسيرة الروسية على البنية التحتية المدنية، لكن وزير الدفاع الإيطالي ضرب هذه التصريحات بعرض الحائط، وتحدث بلهجة متحفظة حول ما إذا كانت إيطاليا قادرة على الدفع بمنظومات الدفاع الجوي، وتم تأجيل إعطاء الضوء الأخضر للحزمة السادسة من المساعدات الإيطالية لفبراير المقبل، بالرغم من ضغوط واشنطن وكييف، على أن يتم حينها تحديد ما هي وعدد الوسائل التي يجب إرسالها إلى الجانب الأوكراني.
والجدير بالذكر أن إيطاليا هي الدولة الغربية الوحيدة التي تفرض السرية المطلقة على طبيعة المساعدات العسكرية التي تقدمها لأوكرانيا، كما أنها لا تعتبر نفسها دولة تقدم المساعدات وحدها لأوكرانيا أو ضمن الصفوف المتقدمة لحجم المساعدات، وإنما تعتبر نفسها في إطار جماعي للبلدان المساعدة الذي فرضه عليها وجودها داخل التحالف الغربي “الناتو والاتحاد الأوروبي”. وبالنظر إلى أسباب تعليق قرار إرسال المساعدات من قبل إيطاليا إلى كييف، يمكن تقسيمها إلى عدة مخاوف أبرزها:
- التوترات السياسية: على الرغم من جهود ميلوني لطمأنة حلفائها الغربيين من توليها زمام الأمور أن بلادها ستدعم استراتيجية الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي في أوكرانيا، بما في ذلك العقوبات المفروضة على روسيا، فإن العلاقات الوثيقة مع روسيا لشريكيها في التحالف تخضع للتدقيق وتثير الشكوك حول مصداقية سلوك النهج الأوروبي.
فكما ذكرنا سابقًا أن كلًا من “ماتيو سالفيني” من حزب الرابطة، ورئيس الوزراء السابق “سيلفيو برلسكوني”، الذي يقود فورزا إيطاليا، يجمعهما علاقات وطيدة بروسيا منذ فترة طويلة، وكان الدليل على ذلك هو تسريب صوتي لبرلسكوني تم تسريبه لوسائل الإعلام، أكد خلاله أنه يتلقى الهدايا من بوتين، كما أعرب عن مخاوفه بشأن إرسال أسلحة وأموال إلى كييف وبدا أنه يلقي باللوم في الحرب على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ولكنه سرعان ما تدارك الأمر بعد انتشار التسريب، وأصدر بيانًا أكد خلاله أن موقفه الشخصي بشأن أوكرانيا “لا ينحرف” عن موقف إيطاليا والاتحاد الأوروبي.
أما سالفيني، فقد طالته الانتقادات اللاذعة بسبب علاقاته مع موسكو، عقب أخبار مؤكدة بأنه تناول العشاء مع سفير روسيا في روما بعد أيام فقط من غزو أوكرانيا، فضلًا عن انتقاده عقوبات الاتحاد الأوروبي باعتبارها غير فعالة، واعتراض الاثنين على عملية تمديد أوكرانيا بالأسلحة.
- اعتبارات التكلفة: المقصود هنا هو تكلفة الأسلحة المفترض إرسالها إلى كييف، خاصة مع ضغط زيلينسكي لمواكبة وزيادة المساعدات واختياره لنوعية أسلحة محددة ذات تكلفة باهظة على إيطاليا، والاتحاد الأوروبي ككل، حيث أنه يطالب بأسلحة تستطيع أن تواجه الضربات الصاروخية والطائرات المسيرة الروسية على البنية التحتية المدنية.
- نقص الإمدادات: تخشى الحكومة الإيطالية من أن إرسال المساعدات بكثرة لكييف يمكن أن يؤثر في المستقبل القريب على نصيب الجيش الإيطالي من أنظمة الدفاعات الجوية والأسلحة التي يحتاجها لتأمين نفسه في مواجهة الأزمات.
وقد أكدت عدة تقارير أن القتال في أوكرانيا قد استنزف مخزونات المدفعية والذخيرة والدفاع الجوي لدول الناتو، وصلت إلى أن نحو ثلثي الحلف قد استنفذ بالفعل مخزوناته من الأسلحة بشكل شبه كامل، وقد يستغرق الأمر سنوات وسنوات لتعويضه من جديد، وتتوجه الأنظار الآن نحو 10 دول لا يزال بإمكانها تزويد أوكرانيا بالأسلحة، من بينهم إيطاليا.
- التصعيد الروسي: بالإضافة إلى العوامل السياسية التي ذكرناها أعلاه، فهنا أمر آخر يؤثر على سرعة تسليم الأسلحة الحربية من الدول الداعمة لأوكرانيا، وهو الخوف من أن الرئيس الروسي “بوتين” سوف يقوم بالتصعيد في حالة تلقي أوكرانيا للدعم، إذ إن هناك وسيلة واحدة تبقت له وهي استخدام الأسلحة النووية، وهو التهديد الذي يكرره مرارًا وتكرارًا، ولكنه في النهاية لا يزال قائمًا.
رغم الصعوبات الاقتصادية.. استمرار دعم أوكرانيا عبء لا بد منه على الغرب
اتفق الغرب جميعًا على أمر واحد وهو عدم السماح بأي انتصار روسي، لأن ذلك يعني تغيير النظام الدولي، وهذا يعني أن هذه الحرب عليها أن تكون محسومة عسكريًا لصالح أوكرانيا بأي ثمن، ومن هنا يمكن أن نسلط الضوء على “الثمن” العسكري الذي ستدفعه روسيا، وستتكبد عناءه كل دولة أوروبية من أجل تحقيق هذا الهدف، فبين السير على ما اتفق عليه الاتحاد الأوروبي ومعاقبة روسيا، أو الاضطرار للانشقاق عنه بسبب الضغوط الاقتصادية التي تعانيها بشكل عام.
بدأت فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة وبريطانيا في توفير المزيد من المعدات الهجومية، بما في ذلك الدبابات، لتعزيز جهود أوكرانيا المضادة للهجوم. وإذا تطرقنا داخل الموقف البريطاني، نجد أن ريشي سوناك، حتى عندما كان وزيرًا للمالية وقبل توليه رئاسة الوزراء، قد وعد بدعم منذ بدء الأزمة يفوق 4 مليارات جنيه إسترليني، لتصبح بريطانيا ثاني أكبر دولة مانحة عسكريًا لأوكرانيا بعد الولايات المتحدة، وهو ما يعكس مدى إيمان سوناك بقضية دعم أوكرانيا ضد روسيا والميل نحو دفة الولايات المتحدة حول القضية، بالرغم من أن استمرار الدعم يعني الضغط على الحكومة البريطانية التي تعاني من ضغوط داخلية بالفعل.
وخلال زيارته الأخيرة لأوكرانيا، وعد سوناك باستمرار الدعم البريطاني بأكثر من ملياري جنيه إسترليني، ولكنه حتى الآن لم يعلن هل تم بالفعل اعتماد هذه الدعم أم لا، خاصة مع اختفاء التصريحات حول الأمر بعد الزيارة; نظرًا لما تواجهه بريطانيا الآن من أزمة اقتصادية وتضخم وإضرابات ومشكلات جمة يعاني منها الشعب البريطاني.
ولعل هذا ما يجعل التحليلات تميل نحو عدم قدرة بريطانيا على الاستمرار في هذا الدعم لفترة طويلة، ومن المتوقع أن يضغط الصدع الداخلي والاضطرابات الناشئة بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة، وارتفاع الأسعار، وارتفاع الأصوات المعارضة للدعم داخل حزب المحافظين نفسه، وبالتالي لن يكون الدعم خيارًا، وقد تستسلم بريطانيا وتنسحب من دعم أوكرانيا رغمًا عنها، لهذا، فمن المنطقي أن يجري سوناك بعض التحليل بخصوص الكلفة والفائدة، وإرجاء كلمة “مع أوكرانيا حتى النهاية” جانبًا، والبحث عن حلول جذرية.
هذا الأسبوع، تكاثرت الأقاويل حول إرسال بريطانيا دبابات من نوع “تشالنجر 2” بريطانية الصنع، ولكن المتحدث باسم سوناك أعلن أن المملكة المتحدة لم تتخذ بعد أي قرارات نهائية بشأن توفير دبابات قتال حديثة، لكنها أيضًا لم تنكر أن الحكومة تدرس هذه القضية، ولكن إذا وافقت الحكومة البريطانية، ستكون بريطانيا أول دولة غربية تقدم هذا النوع من الدروع الثقيلة إلى كييف.
كما ستؤدي هذه الخطوة إلى زيادة الضغط على ألمانيا للسماح للحلفاء بدبابات ليوبارد 2 الألمانية الصنع بنقل بعضها إلى أوكرانيا، قبل اجتماع لوزراء الدفاع الغربيين في 20 يناير لتنسيق الدعم العسكري للدولة التي مزقتها الحرب، وقد قاومت برلين كثيرًا هذه الخطوة، خشية أن تؤدي إلى تصعيد، وأن ينظر إليها الكرملين على أنها خطوة بعيدة جدًا بالنسبة لحلف شمال الأطلسي في الحرب بين أوكرانيا وروسيا.
وقد بلغ إجمالي قيمة الدعم المقدم من ألمانيا إلى أوكرانيا من الأسلحة والمعدات العسكرية حتى الشهر الماضي، أكثر من مليارَي يورو، شملت نظام الدفاع الجوي إيريس-تي و30 دبابة دفاع جوي طراز جيبارد، ومدفعية طراز هاوتزر 2000، وقاذفات صواريخ متعددة من طراز “مارس 2”.
وباتحاد أكبر الدول الغربية وإرسال دبابات قتالية غربية التصميم إلى القوات الأوكرانية، نجد أننا أمام محاولات غربية متحدة للضغط على موسكو لتسريع الاتجاه للحل الدبلوماسي، فهذا الدعم جاء عكس رهانات روسيا التي اعتبرت أن الغرب ستنهكه العواقب الاقتصادية للحرب، وأنه لن يكون قادرًا على إمداد كييف بالأسلحة، وأن من مصلحته إنهاء الحرب بأقصى سرعة، وهو ما كان يعول عليه بوتين بشكل كبير، خاصة مع الإجماع على استحالة أي مفاوضات قريبة لإنهاء الحرب بطرق سياسية سلمية.
ووفقًا لما سبق، نجد أننا أمام حالة من الإجبار الغربي على إطالة أمد الصراع، أو إنهائه للصالح الأوكراني، عبر الاستفادة من كل وقت، وتحسين القدرات الدفاعية والعسكرية بدون تجاوز الخطوط الحمراء لموسكو التي قد تؤدي إلى مواجهة مباشرة بين حلف الناتو وروسيا، كل هذا وسط أزمات اقتصادية طاحنة داخليًا، وضغط أوكراني بتكثيف الجهود الغربية وكميات الدعم، ما يجعلنا نتساءل عن إلى أي مدى سيبقى الغرب قادرًا على الاستمرار؟ وهل تُجبر التخبطات الاقتصادية أوروبا على الوقوف مكتوفة الأيدي أمام دعم أوكرانيا عسكريًا والاكتفاء بهذا القدر وترك الأمر برمته للولايات المتحدة؟
باحثة بالمرصد المصري