
الردع بعيد المدى.. أبعاد استراتيجية طوكيو الدفاعية الجديدة
في خضم التطورات الدولية المتسارعة، سواء فيما يتعلق بالحرب الأوكرانية، أو التوترات المتكررة حول تايوان وبحر الصين الجنوبي، تجد طوكيو نفسها أمام وضع جيواستراتيجي متطور بشكل أسرع في وتيرته مما كان الحال عليه في العقود الماضية، خاصة في ظل تعاظم القدرات الصاروخية لكوريا الشمالية والصين، بشكل دفعها خلال السنوات الأخيرة، مثلها في ذلك مثل دول أخرى مثل كوريا الجنوبية، إلى البحث حثيثًا في كيفية التعامل مع هذا الوضع المتطور، خاصة على مستوى الردع العسكري.
حقيقة الأمر أن حجم التحديات الحالية أمام اليابان فيما يتعلق بالجانب العسكري، عبر عنه بشكل واضح تحليق صاروخ باليستي كوري شمالي فوق الأراضي اليابانية أوائل أكتوبر الماضي، للمرة الأولى منذ عام 2017، وهو العام الذي شهد تحليقات مماثلة للصواريخ الكورية الشمالية. الصاروخ السالف الإشارة إليه من نوع “هواسونج-12″، سقط في المحيط الهادئ، على بعد نحو 3200 كيلو متر من الساحل الياباني، ليقطع بذلك مسافة تصل إلى 4600 كيلومتر، وهي أطول مسافة قطعها صاروخًا كوريًا شماليًا على الإطلاق خلال تجارب الإطلاق حتى الآن.
أهمية هذه التجربة الصاروخية بالنسبة لليابان، فاقت مسألة نوعية هذا الصاروخ وخصائصه، لتشمل أيضًا حقيقة ان هذه التجربة قد تمت بشكل مباغت، دون وجود اية مؤشرات واضحة على إمكانية قيام بيونج يانج بها، ناهيك عن شمولها عبور الأجواء اليابانية، وبشكل محدد أجواء مدينة “أوموري”، التي حلق الصاروخ الكوري الشمالي في أجوائها لمدة دقيقة واحدة، بسرعة تعدت سرعة الصوت بنحو سبع عشرة مرة، ما دفع السلطات اليابانية، إلى تفعيل منظومة الإنذار المبكر، وإصدار تعليمات تقضي بإيقاف حركة القطارات ولجوء السكان في بعض المناطق إلى الملاجئ.
من هذه الزاوية، وزوايا أخرى تتعلق بالأنشطة الصينية والروسية في النطاقات المتنازع عليها بينهما وبين طوكيو، خاصة التجارب الصاروخية الصينية الأخيرة، لم يكن مستغربًا إقدام الحكومة اليابانية على خطوة تاريخية وغير مسبوقة، تتمثل في القيام بمراجعة شاملة لاستراتيجيتها الدفاعية، وتعديل هذه الاستراتيجية بشكل يجعل – عمليًا – لقوات الدفاع الذاتي اليابانية، هامش حرية حركة أكبر مما كان الحال عليه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. النقطة المركزية في هذا الإطار تكمن في أن التعديلات الجديدة على هذه الاستراتيجية، تعتبر بمثابة امتداد لمسار بدأ عمليًا خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، استهدفت من خلاله طوكيو تحديث قدرة الردع التي تمتلكها، بشكل تدريجي لا يتسبب في استفزاز الأطراف الأخرى، أو يحثها على إطلاق سباق للتسلح في منطقة المحيط الهادئ وبحر الصين.
مسار تطور الاستراتيجية الدفاعية اليابانية بعد عام 1945
التعديلات الأخيرة التي طالت الاستراتيجية الدفاعية اليابانية، تركزت بشكل رئيس على إحدى الوثائق الرئيسة الثلاث التي تشكل هذه الاستراتيجية، وهي الوثيقة المتعلقة باستراتيجية الدفاع الوطني، التي تعد الأهم بين الوثائق الثلاث، نظرًا لأنها تحدد بشكل عام المصالح الوطنية والأهداف الأمنية لليابان ونهجها في تحقيقها. ويعود تاريخ إعداد الاستراتيجية الدفاعية اليابانية إلى شهر ديسمبر 2013، حين تم إقرارها من جانب مجلس الوزراء الياباني، ليتم بذلك التأسيس لعقيدة دفاعية مستدامة لم تكن واضحة المعالم قبل ذلك التاريخ، حيث ظلت طوكيو من نهاية الحرب العالمية الثانية، تعتمد في هذا الإطار على المبادئ الأساسية للدفاع الوطني، التي أعلنتها حكومة رئيس الوزراء الياباني الأسبق “كيشي نوبوسوكي” في مايو 1957.
نصت المبادئ الأساسية السابقة للدفاع الوطني الياباني، على أن الهدف الأساسي من أي مجهود عسكري ياباني يقتصر على “منع العدوان المباشر وغير المباشر الذي يتم على الأراضي اليابانية جراء تعرضها لغزو، وبالتالي الحفاظ على استقلال وسلام اليابان على أسس ديمقراطية”. كما تضمنت هذه المبادئ مجموعة من العناصر العامة، مثل دعم أنشطة الأمم المتحدة، وتعزيز التعاون الدولي، والالتزام بتحقيق السلام العالمي، وبناء قدرات دفاعية تركز على أمن الأراضي اليابانية فقط. احتوت هذه المبادئ على أوجه ضعف عدة، أهمها العمومية الشديدة لمحتواها، وكذلك عدم معالجتها الدقيقة لكيفية التعامل مع أي عدوان خارجي، حيث نصت على أن التعامل مع هذا العدوان يتم على أساس “الترتيبات الأمنية والعسكرية الموجودة بين طوكيو والولايات المتحدة الأمريكية، حتى تتمكن الأمم المتحدة من أداء وظيفتها في وقف هذا العدوان بشكل فعال في المستقبل”.
لمعالجة أوجه الضعف السالف ذكرها فيما يتعلق بالمبادئ الأساسية للدفاع الوطني الياباني، قامت الحكومات اليابانية بين عامي 1995 و2010، بإعداد مبادئ أساسية محدثة للدفاع الوطني، تمت إضافتها على المبادئ التي تم إقرارها عام 1957، وكانت هذه الإضافة تتم عبر جلسات “مجلس القدرات الأمنية والدفاعية”، وهو هيئة استشارية يابانية مشكلة من ضباط كبار سابقين في الجيش الياباني، ومسؤولين سبق أن خدموا في وزاراتي الدفاع والخارجية، بجانب شخصيات مستقلة أخرى لها أنشطة سياسية وعلمية وصناعية، حيث يقوم أعضاء هذه الهيئة بأعداد توصياتهم حول البنود الجديدة التي يجب إضافتها لمبادئ الدفاع الوطني، ومن ثم يقومون برفع هذه التوصيات إلى الحكومة لبحثها جنبًا إلى جنب مع المقترحات الأخرى الواردة من المؤسسات الأمنية والعسكرية.
اللافت فيما يتعلق بهذه المراجعات الدورية لمبادئ الدفاع الوطني اليابانية، أنها كانت دومًا ترتبط بتطورات مهمة على المحيط الإقليمي لليابان، فمثلًا كان إعداد هذه المبادئ عام 1995، نتيجة رئيسة لبدء الحكومة اليابانية بحث ما إذا كان البلاد ما زالت تحتاج إلى المعاهدة الأمنية الموقعة بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة بعد أن انتهى بشكل كامل التهديد العسكري الذي كان يمثله الاتحاد السوفيتي السابق.
ارتبطت مراجعة هذه المبادئ خلال العقد الأول من القرن الحالي، ببحث مدى تأثير موجات الإرهاب المتزايدة على المستوى الدولي على أمن اليابان، أما في النصف الأول من العقد الثاني، فقد كانت القدرات الصاروخية الكورية الشمالية، بمثابة هاجس أساسي خلال مراجعة هذه المبادئ، علمًا أن الصين لم يكن لها وجود معتبر في هذه المبادئ خلال كافة المراحل السابقة، وبدأ هذا الظهور بشكل تدريجي والمراجعة التي تمت لهذه المبادئ عام 2010، نتيجة للتوتر الذي شاب العلاقات بين طوكيو وبكين، على خلفية النزاع حول ملكية جزر “سينكاكو”، حيث بدأ البحث منذ ذلك التوقيت في إمكانية تحويل نقطة الدفاع الأساسية عن الجزر اليابانية، من جزيرة هوكايدو إلى المناطق الجنوبية.
نقطة التحول فيما يتعلق بمبادئ الدفاع الوطني اليابانية كانت عام 2013، حين تم تحويل هذه المبادئ إلى استراتيجية دفاعية متكاملة، تضمنت تحديدًا واضحًا لمبادئ وأهداف السياسة الأمنية لليابان، وتفصيلات التحديات والتهديدات التي تواجهها الأراضي اليابانية، ضمن إطار عام أطلقت عليه طوكيو “السلم الاستباقي”، والذي يربط بين التسلح الذاتي وبين التعاون مع القوى الدولية الكبرى لحفظ أمن اليابان. هذه الاستراتيجية الدفاعية تكونت بشكل أساسي من ثلاث وثائق أساسية، الوثيقة الأولى تتعلق بتحديد الخطوط العامة لاستراتيجية الأمن القومي اليابانية، أما الثانية فترتبط باستراتيجية الدفاع الوطني اليابانية التي تحدد الأهداف الدفاعية وتضع وسائل تحقيقها، في حين تعلقت الوثيقة الثالثة ببرنامج البناء الدفاعي الذي يحدد إجمالي نفقات الدفاع وحجم المشتريات للمعدات العسكرية الرئيسة.
بشكل عام كانت الاستراتيجية الدفاعية اليابانية المشكلة عام 2013، تضع في اعتبارها -بشكل أساسي – التهديد الكوري الشمالي كتهديد أساسي، وركزت على تكامل العمليات البرية والجوية والبحرية في أفرع “قوات الدفاع الذاتي” اليابانية.
هذه الاستراتيجية تعرضت بدورها لعدة مراجعات خلال السنوات اللاحقة، ففي عام 2014، تبنى مجلس الوزراء الياباني، بنود خاصة باستيراد المعدات العسكرية المختلفة والمشاركة في إنتاجها، لأنه قبل ذلك التاريخ، كانت صادرات الأسلحة إلى اليابان محظورة بشكل كبير، ولم تتمكن اليابان من الانخراط في مشاريع مشتركة للتصنيع العسكري، كما شهد العام التالي إعادة التقييم الأولى للمادة التاسعة من الدستور الياباني، التي تحظر استخدام القوة المسلحة اليابانية للانخراط في أي صراع عسكري، إلا في حالات الدفاع عن النفس. عملية إعادة التقييم هذه، جوبهت بمعارضة شرسة من الأحزاب اليابانية المعارضة، وقطاعات شعبية عدة، حيث دفعت الحكومة اليابانية حينها – برئاسة شينزو آبي – إلى تعديل تفسير هذه المادة، ليسمح باستخدام القوة المسلحة في عدة حالات، من بينها تعرض اليابان لغزو، أو تعرض قوات حليفة لليابان إلى هجوم عسكري، بشكل يهدد سلامة أراضي اليابان، وهو التفسير الذي تم قبوله لاحقًا ضمن الاستراتيجية الدفاعية اليابانية، رغم إنه ما زال مثار جدل داخلي كبير حتى اليوم.
فترة حكومة “شينزو آبي” شهدت بشكل عام التعديلات الأكثر أهمية على هذه الاستراتيجية الدفاعية، خاصة عام 2016، حين تم إقرار مبدأ “منطقة المحيطين الهندي والهادئ المفتوحة”، والذي من خلاله أعلنت طوكيو عن انفتاح غير مسبوق على التعاون الدفاعي والمعلوماتي مع دول هذا النطاق البحري، لضمان أمن واستقرار الممرات البحرية المهمة بالنسبة لليابان، وهو ما شكل تطورًا مهمًا في التوجهات الاستراتيجية والدفاعية اليابانية، نظرًا لأن هذا التعاون تضمن مجموعة من المبادرات العسكرية المشتركة مثل المناورات البحرية والاجتماعات والتدريبات مع دول عدة في المنطقة، مما رفع بشكل كبير من وتيرة الانخراط الياباني العسكري الخارجي.
شهد عام 2018 المراجعة الأخيرة للاستراتيجية الدفاعية اليابانية، والتي ركزت على القدرات الدفاعية متعددة المجالات التي تشمل الفضاء الخارجي والفضاء السيبراني والمجالات الكهرومغناطيسية، ولكن نتيجة لبعض التعقيدات الداخلية في اليابان، لم يتم تطوير هذه الاستراتيجية لتواكب النظرة التي بدأت في التشكل سابقًا عام 2016، بشأن تصاعد حدة التهديد الصادر من الصين، لدرجة تجعله يتعدى بمراحل التهديدات التي يمكن أن تشكلها كوريا الشمالية على الأراضي اليابانية. رغم هذا، كانت المناقشات التي تمت خلال هذه المراجعة الاستراتيجية الدفاعية اليابانية، بمثابة تمهيد أولي للتعديلات التي تمت على هذه الاستراتيجية خلال المراجعة الحالية التي نحن بصددها، خاصة فيما يتعلق بضرورة تخلي هذه الاستراتيجية عن مبدأ “السلم الاستباقي”، وعن المبدأ التكتيكي المتعلق بامتلاك القدرة فقط على مهاجمة قواعد العدو الأساسية، والتحول نحو بناء قدرات عسكرية نوعية تسمح بشن هجمات مضادة مؤثرة، بما يسمح لاحقًا بتشكيل “معادلة ردع”.
ميزانية دفاعية هي الأكبر في التاريخ الياباني المعاصر
الملمح الأول فيما يتعلق بالتعديلات اليابانية على وثيقة استراتيجيتها الدفاعية الوطنية، يتعلق بالمخصصات المالية الخاصة بالدفاع والتسليح، فلسنوات عديدة، كانت ميزانية الدفاع اليابانية مقيدة بالعديد من الاعتبارات الداخلية والخارجية، من بينها الضغوط الداخلية المتعلقة بعدم رغبة قطاعات شعبية وحزبية عريضة، في توسيع نسبة المخصصات المالية للدفاع من الدخل القومي الياباني، لمستويات تزيد عن النسبة التي كانت سائدة حتى عام 2020، وهي أقل من 1 بالمائة، فقد ظلت نسبة المخصصات المالية للقطاع العسكري الياباني، كحصة من الناتج القومي الإجمالي، ثابتة منذ عام 1988 وحتى عام 2019، عند مستوى 0.9 بالمائة، وارتفعت عام 2020 لتصبح 1 بالمائة، حيث بلغت نحو 49.1 مليار دولار، احتلت بها اليابان المركز التاسع ضمن أكبر الميزانيات العسكرية على مستوى العالم.
التعديل الأساسي في هذا الإطار تم فيه رفع مستوى المخصصات المالية الخاصة بالدفاع والتسليح إلى ما نسبته 2 بالمائة من الناتج القومي الياباني بحلول عام 2027، حيث تم رصد ميزانية دفاعية تتراوح بين 315 و320 مليار دولار للسنوات الخمس المقبلة، وهو ما يمثل زيادة بنسبة تقترب من 55 بالمائة مقارنة بالميزانية الدفاعية التي تم تخصيصها خلال السنوات الخمس الأخيرة. وتستهدف طوكيو رفع الميزانية السنوية المخصصة للدفاع إلى حدود 86 مليار دولار بحلول عام 2027، وهو ما سينقل موقع اليابان ضمن أكبر الميزانيات العسكرية حول العالم، إلى المركز الرابع أو حتى الثالث في المدى المنظور.
بشكل عام يمكن القول إن التحدي الرئيس أمام الحكومة اليابانية في هذا الصدد، يرتكز على وضع خطة ملموسة لتوفير السيولة المالية الكافية لتغطية الزيادة في ميزانية الدفاع، وهي خطة قد تتضمن تعديلات جذرية في بنود الإنفاق الحكومي، وفي كيفية استخدام الموارد المالية المتوفرة، خاصة الحصيلة الضريبية، علمًا أن النسبة “الفعلية” للإنفاق الدفاعي من مجمل الدخل القومي الياباني، قد تصل إلى نحو 1.3 بالمائة، إذا ما تم وضع بنود مالية أخرى مثل معاشات العسكريين والمخصصات المالية لقوات حرس السواحل في الاعتبار.
البواعث الأساسية لإقدام طوكيو على رفع ميزانيتها العسكرية، تتمحور بشكل أساسي حول نقطتين أساسيتين، الأولى هي الضغوط المستمرة منذ سنوات من جانب واشنطن لتوسيع دور طوكيو في المعادلة الأمنية المشتركة بين البلدين، والثانية ترتبط بالتغيرات الاستراتيجية التي طرأت على النطاق الجغرافي المحيط بالجزر اليابانية، وزيادة حجم ونوع التسليح الصيني والكوري الشمالي – خاصة فيما يتعلق بالقدرات الصاروخية والنووية – بشكل فاقم من الفجوة القائمة في الميزان التسليحي بين الجانبين – كوريا الشمالية والصين من جهة، واليابان وكوريا الجنوبية من جهة أخرى – وهو ما تزايدت حدته بشكل أو بآخر، بعد بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، علمًا أن طوكيو تحتفظ مع موسكو بملف قديم وهام وهو ملف جزر “الكوريل” (يمكن مراجعة مقال سابق حول النزاع بين الجانبين حول جزر الكوريل).
الملمح الثاني الذي يتعلق بالاستراتيجية الدفاعية اليابانية الجديدة، يرتبط – بطبيعة الحال – بالملمح الأول، ونتحدث هنا عن الخطة اليابانية لتصعيد تسلحها النوعي لمستويات كانت البنود السابقة لاستراتيجيتها الدفاعية، تحول دون وصولها إليها. فالمخصصات المالية الجديدة الموجهة للقطاع الدفاعي الياباني، تستهدف – من حيث المبدأ – نقل القدرات القتالية للجيش الياباني من تموضعها السابق حول تكتيك “التصدي للضربات الصاروخية المعادية” – وهو تكتيك دفاعي محض – إلى شكل آخر من أشكال التكتيكات الدفاعية، وإن كان أكثر تقدمًا، وهو “القدرة على شن هجمات دفاعية مضادة” ضد مرابض المدفعية والصواريخ المعادية، والمواقع العسكرية ذات الأهمية الاستراتيجية.
تصعيد التسليح النوعي والتحول نحو “الضربات الدفاعية المضادة”
كانت التهديدات الصاروخية من كل من الصين وكوريا الشمالية، بمثابة المحفز الأساسي للتحول الياباني من التكتيك الأول إلى التكتيك الثاني، خاصة أن طوكيو بدأت فعليًا منذ عام 2010، في وضع احتمالية قيام الصين بهجوم على الجزر اليابانية الجنوبية الغربية، بالتزامن مع هجوم صيني أساسي على تايوان، ضمن السيناريوهات المحتملة للتهديدات الموجهة لأراضيها، وهو سيناريو يرتكز على توجيه بكين ضربة صاروخية أساسية نحو الجزر اليابانية، وهي ضربة تجد طوكيو أنه من الصعب بمكان – في ظل ميزان التسلح الحالي – الحد من تأثيراتها أو تقليص القدرات الصينية على تنفيذها.
خطورة هذا الوضع دفع طوكيو خلال السنوات الأخيرة، للعمل على التخلي التدريجي عن استراتيجيتها المتمحورة حول “رد الفعل”، وبدأت في الميل نحو استراتيجية تحمل في طياتها “ملامح” هجومية، وإن كانت في المجمل ما زالت في طور الدفاع، سواء فيما يتعلق بتكتيكات نشر الأسلحة، أو عمليات تطوير وشراء أسلحة جديدة، وكذا محاولة تقليل الفجوة بينها وبين كوريا الشمالية والصين فيما يتعلق بالقوة الصاروخية. ومن النقاط الواجب ذكرها فيما يتعلق بالتكتيك الدفاعي الجديد، أنه تضمن وضع شروط معينة لتنفيذ الضربات “الدفاعية المضادة” ضد الدول المعادية، منها وجود تهديد جدي وعاجل للأراضي اليابانية أو لأراضي دول حليفة لليابان، وأن يتم قبل تنفيذ هذه الضربات استنفاد الوسائل الأخرى لتحييد هذا التهديد، وأن تتم هذه الضربات بوتيرة تقع ضمن أدنى حدود ممكنة لاستخدام القوة لإنهاء هذا التهديد.
لامتلاك القدرة على تنفيذ هذه الضربات، يمكن القول إن طوكيو بدأت منذ فترة مسارات متعددة يمكن من خلالها الاستحواذ على قدرات قتالية متعددة يمكن من خلالها شن هذه الضربات، فعلى المستوى الصاروخي، تزايد اهتمام طوكيو بالقدرات الصاروخية الفرط صوتية منذ عام 2018، بعد أن بدأت في بحث إمكانية امتلاكها عدة أنواع من الصواريخ الجوالة، والصواريخ الباليستية المزودة بمركبات انزلاقية فرط صوتية، يتجاوز مداها المدى الحالي للصواريخ اليابانية، والذي يتراوح بين 100 إلى 200 كيلو متر فقط، بهدف الوصول إلى معادلة ردع يكمل فيها كلا النوعين بعضهما البعض، حيث تتسم الصواريخ الجوالة المطلقة من منصات أرضية بدقتها وتكلفتها المحدودة وإمكانية استخدامها في إطلاق هجمات متعددة الاتجاهات، في حين تمتلك الصواريخ الباليستية المزودة بمركبات انزلاقية عالية السرعة، قدرات تمكنها من اختراق منظومات الدفاع الجوي المعادية، وتنفيذ هجمات دقيقة بقوة تدميرية عالية.
هذه التوجهات أتت ثمارها بشكل مبدئي أواخر عام 2020، حين قدمت شركة “ميتسوبيشي للصناعات الثقيلة” إلى وزارة الدفاع اليابانية، خطة لتطوير نوعين من الأسلحة التي تفوق سرعة الصوت، هما الصاروخ الجوال “HCM”، والمركبة الانزلاقية “HVGP” التي يتم إطلاقها من على متن الصواريخ الباليستية. هذان النوعان سيمثلان في حالة بدء إنتاجهما الكمي، تحدي جدي للدفاعات الجوية الصينية، خاصة أن خطة تصنيعهما تتضمن نشر شبكة من الأقمار الصناعية، ستكون المسؤولة عن توجيه هذه الصواريخ. وفقًا للخطة اليابانية، ستبدأ اختبارات النماذج الأولية لهذين النوعين بشكل مبدئي بعد عام 2024، على أن تدخل الخدمة بحلول عام 2030، علمًا أن الاختبارات الأولية على محركات هذه الصواريخ، بدأت بالفعل في يوليو الماضي.
تهدف وزارة الدفاع اليابانية إلى نشر مثل هذه الصواريخ خلال النصف الثاني من العقد الحالي. ويتوقع أن يكون مدى الصاروخين الجديدين ما بين 2000 و3000 كيلو متر، وتتراوح سرعتهما بين خمسة وستة أضعاف سرعة الصوت، مع إمكانية إطلاقهما من على متن السفن البحرية أو الطائرات المقاتلة، ليتم بذلك تحقيق جانب رئيس من الخطة اليابانية لحشد القدرات الصاروخية، والتي تم إعلانها في أغسطس الماضي، وتتضمن امتلاك ونشر أكثر من 1000 صاروخ جوال وباليستي حول جزر “نانسي” الجنوبية، وسلسلة الجزر التي تربط أوكيناوا بتايوان والفلبين، بجانب جزيرة هوكايدو.
يضاف إلى هذين النوعين، ما أعلنته طوكيو مؤخرًا حول بدء دراسة إمكانية شراء ما يصل إلى 500 صاروخ جوال أمريكي الصنع من نوع “توماهوك” بحلول عام 2027، ويصل مدى هذا النوع إلى 1600 كيلو متر، من المرجح أن يتم تثبيتها على المدمرات والغواصات اليابانية. جدير بالذكر هنا، أن طوكيو تتفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 2018، على أن تتزود قواتها الجوية بنوعين من أنواع الصواريخ الجوالة التي يتم إطلاقها من الجو، يشكلان معًا إضافة نوعية لقدرات مقاتلات “أف-35” الشبحية في الترسانة اليابانية، الأول هو صاروخ الضربة المشتركة النرويجي الصنع “JSM” البالغ مداه 500 كيلومتر، وصاروخ “JASSM-ER” جو-أرض الذي تنتجه شركة “لوكهيد مارتن” الأمريكية، والبالغ مداه 1000 كيلو متر، ناهيك عن تفاوض طوكيو مع واشنطن لشراء عدد إضافي من مقاتلات “أف-35”.
الجهود اليابانية في إطار مواجهة التفوق الصاروخي الكوري الشمالي والصيني، شملت ايضًا جانب أساسي من جوانب التسليح وهو الدفاع الجوي، خاصة بعد أن أدت تعقيدات دولية وإقليمية ومالية، إلى تعليق وزارة الدفاع اليابانية في يونيو 2020، عملية نشر نظام الدفاع الصاروخي “إيجيس”، في محافظتي “أكيتا” و”ياماغوتشي”. وأعادت طوكيو إحياء خطة سابقة لإنتاج مدمرتين معدلتين خصيصًا لتثبيت منظومة “إيجيس” الدفاعية الصاروخية على متنها، ويتوقع أن تشهد هذه الخطة تطورات عملية على ضوء الاستراتيجية الدفاعية الجديدة، خاصة أن هاتين السفينتين ستمنحان الجيش الياباني القدرة على رصد واعتراض الصواريخ الباليستية المعادية بشكل فعال أكثر وعلى نطاق أوسع.
يضاف إلى هذا إطلاق اليابان برنامج لتحديث صواريخ الدفاع الجوي محلية الصنع “تايب-3″، لمنحها إمكانية اعتراض الصواريخ الباليستية الأسرع من الصوت، علمًا أن هذا الصاروخ الذي دخل الخدمة لأول مرة عام 2003 ، تم تحديثه سابقًا عام 2017، لتحسين قدرات المناورة والاعتراض الخاصة به، وتستهدف طوكيو حاليًا إتمام تحديثه بحلول عام 2026، ومن ثم بدأ الإنتاج الكمي له بحلول عام 2029، ليساهم في مهام الاعتراض الصاروخي، جنبًا إلى جنب مع منظومة “باتريوت” وصواريخ “SM-6″ الأمريكية، علمًا أن هذه الأخيرة قامت واشنطن في أكتوبر الماضي، بالموافقة على بيع اليابان نحو 32 صاروخًا إضافيًا منها، إضافة إلى معدات أخرى خاصة بها، بقيمة إجمالية بلغت 450 مليون دولار. على المستوى العملياتي، تخطط اليابان لزيادة عدد وحدات الدفاع الصاروخي المتمركزة في نطاق جزر” نانسي”، القريبة من تايوان، من أربع وحدات حاليًا إلى إحدى عشرة وحدة خلال الأشهر القادمة، تمتلك جميعها القدرة على اعتراض الصواريخ الباليستية.
التوجهات السابقة تعتبر جميعها مكملًا أساسيًا لإحدى أهم المنظومات الدفاعية التي تمتلكها اليابان حاليًا، وهي الصواريخ البحرية الجوالة “تايب-12″، حيث تستهدف طوكيو خلال المرحلة القادمة، رفع مداها العملياتي إلى أكثر من 1000 كيلو متر، بدلًا من المدى الحالي الذي لا يتجاوز 200 كيلو متر. خطة تحديث هذا النوع من الصواريخ، الذي يتم إطلاقه من راجمات أرضية، ويتم توجيهه بنظام ملاحة بالقصور الذاتي، معززًا بنظام تحديد المواقع العالمي “GPS”، تتضمن توسيع إمكانية إطلاقه لتشمل الطائرات المقاتلة والغواصات، حيث تستهدف طوكيو تحديث هذا الصاروخ على ثلاث مراحل، بحيث يتم نشر النسخ المحدثة المضادة للقطع البحرية بحلول عام 2026، ونشر النسخ البرية والجوية بحلول عام 2028، وإتمام نشر وتجهيز النسخ الكاملة منها بحلول عام 2030.
هذا النوع من الصواريخ سبق ونشرته طوكيو في نطاق الجزر الجنوبي الغربية اليابانية، وتخطط لنشره في نطاق بحر الصين الشرقي، خاصة في جزر محافظة “أوكيناوا”، مثل جزيرة “يوناجوني” التي سبق وتمركز عليها منذ عام 2016، رادار للرصد البحري. وسينضم إلى هذا الصاروخ المحدث قريبًا، نوع آخر من الصواريخ المضادة للقطع البحرية، وهو الصاروخ “XASM-3″، الذي تعمل شركة “ميتسوبيشي” على تطويره منذ عام 2016، ويتوقع أن يتراوح مدى النسخ الثلاث التي يتم تطويرها منها، بين 150 و400 كيلو متر، وسيخصص للعمل من على متن المقاتلات اليابانية “F-2” التي تنتجها نفس الشركة.
جدير بالذكر أن الاستراتيجية اليابانية الجديدة، تتضمن أيضًا إعطاء مزيد من الاهتمام للتسليح المتعلق بالطائرات المسيرة، وهو مضمار لم توله اليابان الاهتمام المطلوب خلال العقد الأخير. هذا التوجه تمثل في بدء الحكومة اليابانية في سبتمبر الماضي، في بحث إمكانية امتلاك طائرات مسيرة هجومية – أو ما يعرف بالذخائر الانتحارية الجوالة – وهو توجه لا يمكن فصله عن دروس العمليات العسكرية الجارية حاليًا في أوكرانيا، فقد أدرجت وزارة الدفاع اليابانية في ميزانيتها للعام المقبل، بنودًا تتعلق بهذا الموضوع، خاصة أن الترسانة اليابانية من الطائرات المسيرة، لا تتضمن أية أنواع محلية الصنع، وتتضمن فقط طائرات المراقبة والاستطلاع الأمريكية “جلوبال هوك” و”سكان إيجل”. أهمية هذا التوجه تكمن في أنه سيكون ضمن إطار خطة يابانية للردع، تتضمن نشر أعداد كبيرة من الطائرات الهجومية المسيرة دون طيار، في جزر يابانية محددة، خاصة جزر “ريوكيو” القريبة من تايوان، لتكون بذلك جزء من الجهد الأولي للتصدي لأي هجوم برمائي أو بحري صيني، وتتضمن هذه الخطة بحث عدة أنواع من الطائرات المسيرة دون طيار والذخائر الجوالة، مثل الذخيرة “الإسرائيلية” الجوالة “هاروب”، والطائرة التركية الهجومية “بيرقدار”، والذخيرة الهجومية الأمريكية “سويتش بلايد”، كما أن وزارة الدفاع اليابانية وضعت بندًا في ميزانيتها المقترحة، للحصول على تمويل أبحاث تتعلق بإنتاج طائرات محلية دون طيار.
جهود التحديث اليابانية فيما يتعلق بالتسليح تشمل أيضًا مجموعة من المشاريع المشتركة مع دول أخرى، فقد أعلنت طوكيو في مارس الماضي، عن مضيها قدمًا في برنامج بدأته عام 2018، بالاشتراك مع المملكة المتحدة، لتصنيع صاروخ اشتباك جوي جديد، يجمع بين الخصائص الفنية لصاروخ “ميتيور” البريطاني، وآليات التوجيه والرصد اليابانية. البرنامج الثاني – والأهم – في هذا الصدد، يتعلق بما تم إعلانه في يوليو الماضي، عن بدء مباحثات بين لندن وطوكيو، لدمج برنامج تصنيع المقاتلة اليابانية “إف-إكس” مع برنامج تصنيع المقاتلة البريطانية الجديدة “تمبست”، علمًا كلا البلدين سبق وتعاونا فيما يتعلق بالمقاتلة البريطانية، سواء لتصنيع صواريخ اعتراض جوي خاصة بها، أو لإنتاج محركاتها. هذا التوجه يخدم جانب التسليح الجوي الخاص باليابان، خاصة في ظل اقتراب مقاتلات الصف الأول الخاصة بها من نوع “إف-2” من نهاية عمرها العملياتي، وعدم إحرازها تقدم ملموس فيما يتعلق بالإنتاج الكمي لمقاتلات “إف-إكس” الجديدة.
الملامح الاستراتيجية للتوجهات الدفاعية اليابانية الجديدة
بجانب التطورات المهمة على المستوى التسليحي، والتعزيز الواضح في جانب “الدفاع المتقدم” من التموضع الياباني القتالي في حالة الطوارئ، يمكن القول إن التعديلات الجديدة على الاستراتيجية الدفاعية اليابانية، تضمن معالجة لبعض أوجه القصور السابقة، مثل ما يتعلق بمجال الفضاء والدفاع السيبراني، فقد خصصت طوكيو بناء على التعديلات الجديدة نحو تريليوني ين لتعزيز قدراتها في مجال الفضاء والدفاع السيبراني، بهدف إعادة تنظيم وحدات الدفاع الجوي، لتصبح تحت اسم “قوات الدفاع الجوي والفضائي”، وتأسيس فرق إلكترونية لرصد ومواجهة محاولات الهجوم السيبراني.
النقطة الجوهرية في هذه التعديلات – على المستوى الاستراتيجي – أنها حملت للمرة الأولى إشارة واضحة للصين، بوصفها “التحدي الاستراتيجي الأكبر لطوكيو”، ناهيك عن أن الإشارة الإيجابية لروسيا في التعديلات السابقة للاستراتيجية الدفاعية اليابانية، اختفت في التعديلات الجديدة، وتم استبدالها بإشارة إلى مخاطر التعاون بين موسكو وبكين على الأمن القومي الياباني. هذا يضاف إلى التواجد المستمر لكوريا الشمالية في هذه الاستراتيجية، كمصدر تهديد خطير لليابان. يضاف إلى هذا أن طوكيو قد ثبتت في هذه التعديلات الجديدة، التزامها بدور أكبر في منطقة المحيطين الهادئ والهندي، ضمن الإطار الذي تم رسمه عام 2016، وبالتالي يتوقع أن يشهد هذا النطاق مزيدًا من الانخراط العسكري الياباني على كافة المستويات.
رغم ما سبق، إلا أنه تبرز عدة تحديات على ضوء هذه الاستراتيجية، من بينها ردود فعل بكين وبيونج يانج على
أية تحركات عسكرية يابانية خلال المستقبل القريب، وكذا حقيقة أن عدم امتلاك طوكيو قوة برمائية قوية، يمثل نقطة قصور واضحة أمام البحرية الصينية المتفوقة، ناهيك عن المعضلة الأساسية المتعلقة بالنقص في أعداد الأفراد الصالحين للتجنيد في اليابان، نظرًا لطبيعة التركيبة السكانية، حيث تتقلص نسبة الشباب ضمن إجمالي عدد السكان بوتيرة متسارعة. حتى على مستوى البنية التحتية العسكرية، أظهرت التقارير الأخيرة لوزارة الدفاع اليابانية، أن أكثر من 40 بالمائة من المنشآت العسكرية اليابانية، تم بناؤها وفقًا لمعايير الزلازل القديمة المستخدمة قبل مراجعة قانون معايير البناء في البلاد، وأن نسبة كبيرة منها قد تعدى عمره الافتراضي.
ويبقى التحدي الأكبر، متعلقًا بالداخل الياباني، سواء على المستوى الحزبي أو الشعبي، فرغم ما يبدو أنه توافق داخلي حول التعديلات الجديدة في الاستراتيجية الدفاعية، إلا أنه ما زال نحو نصف عدد السكان، رافضين أية مراجعات جديدة للمادة التاسعة من الدستور، التي تنص على عدم الانخراط في أية نزاعات عسكرية خارجية. هذا إن وضعناه جنبًا إلى جنب مع الجدل الداخلي بشأن العلاقات العسكرية بين طوكيو وواشنطن – والذي للمفارقة انعكس على بنود التعديلات الجديدة على الاستراتيجية الدفاعية، والتي تضمنت حديثًا عن وجود قيادة عسكرية مشتركة بين البلدين من جهة، ومن جهة أخرى تضمنت إشارة لضرورة عمل طوكيو بشكل مستقل على تطوير قدراتها العسكرية – يجعلنا نصل إلى خلاصة مفادها أن التطور الجديد في توجهات طوكيو الدفاعية، يحمل في طياته تفاعلات داخلية وإقليمية كبيرة ومتشعبة ستظهر خلال المدى المنظور.
باحث أول بالمرصد المصري