
أكتوبر 1973 وحتمية تحرير الأرض
هلت النسائم السنوية العطرة لحرب رمضان أكتوبر المجيدة، قادمة من أرض سيناء الحرة، ومعبأة برائحة الأرواح الطاهرة والدماء الذكية التي بذلها شهداء مصر الأبرار بشجاعة وفخر وعن طيب خاطر؛ راغبين وجه الله في أوقات مباركة من أجل تحرير قطعة من أرض الوطن التي هي بمثابة العرض لكل الوطن.
وقد كانت تلك الحرب عادلة وحتمية لعدة أسباب؛ هي: تحرير أرض سيناء من الاحتلال الإسرائيلي، وإنهاء آثار هزيمة حرب يونيو1967 التي كانت هزيمة بلا حرب، وإعادة فتح قناة السويس لصالح الملاحة الدولية ومصر، ثم استئناف مسيرة المشروع القومي الوطني الذي بدأته مصر منذ ثورة 1952 وتوقف منذ 1967.
بدأ الإعداد الفعلي لحرب التحرير لحظة الرفض العارم لشعب مصر تنحي الرئيس جمال عبد الناصر في 9 يونيو1967 وإعلان الرئيس تحمل نتيجة الهزيمة، حيث أعلن دستور المرحلة “أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة، وأنه لا صوت يعلو على صوت معركة التحرير القادمة لا محالة”.
فتمت إعادة بناء القيادات والقوات والتسليح الذي يأتي تباعًا من الاتحاد السوفيتي خلال ما سُمي بمرحلة حرب الاستنزاف التي تدرجت من مرحلة الصمود إلى التصدي والدفاع النشيط وصولًا إلى الردع بعبور القوات الخاصة والفدائيين المتطوعين لقتال العدو في عمق سيناء (كان للكاتب شرف قيادة إحداها عدة مرات حيث حصل على نوط الشجاعة العسكري من الطبقة الأولى من الرئيس جمال عبد الناصر)، مما أجبر إسرائيل على قبول وقف إطلاق النار في أغسطس 1970بعد نجاح مصر في بناء حائط صواريخ الدفاع الجوي الثابتة. ليرحل الرئيس عبد الناصر إلى بارئه في 28 سبتمبر التالي ويخلفه الرئيس السادات صاحب قرار حرب أكتوبر المجيدة.
كان جوهر ما اشتمل عليه التوجيه السياسي العسكري للرئيس السادات-بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة- إلى القيادات العسكرية هو(كسر وقف إطلاق النار- القيام بعمل هجومي باقتحام قناة السويس وتدمير خط بارليف وصد وتدمير الاحتياطيات الإسرائيلية -إلى عمق مظلة الدفاع الجوي- في ظل تفوق العدو الجوي وإمكانية استخدامه لأسلحة الدمار الشامل)، وأضاف خارج الوثيقة: “نخطط بما هو في أيدينا من سلاح فلن يأتينا جديد”، خاصة بعد مغادرة الخبراء السوفييت في يوليو 1972 لعدم حصول مصر على ما يقارب في الحداثة ما لدى اسرائيل خاصة طائرات القتال والدفاع الجوي المتحرك وبعض الدبابات.
تم التخطيط الواقعي دون تهويل أو تهوين، مع أهمية تحقيق المفاجأة الاستراتيجية من خلال خطة خداع محكمة عن توقيت الحرب بالشهر واليوم والساعة (نعرضها في مقال آخر) خدعت العدو ومَن خلفَه، وفقد ميزة التعبئة التي يعتمد عليها، فكان اقتحام مانع قناة السويس الصعب واجتياح خط بارليف الذي تساقطت قلاعه تباعًا وطلب بعضها الاستسلام ورفع عليها العلم المصري خفاقًا إلى الأبد، وتم صد وتدمير الاحتياطيات المدرعة وأسر العديد من دباباتها وقادتها.
وعبرت دباباتنا ليلًا على كباري الإقحام لدعم الدفاعات ورؤوس الكباري حتى أقصى تغطية لدفاعنا الجوي (الثابت) وإلا لتقدمت قواتنا إلى أعماق كبيرة. كما اغلقت البحرية المصرية مضيق باب المندب بالتنسيق مع اليمن في وجه الملاحة من وإلى إسرائيل، مما أفقدها الإمدادات البترولية الإيرانية لعدة أشهر وأصابها بالشلل. وفى التاسع من أكتوبر، سمع العالم استغاثة رئيسة وزراء إسرائيل: “انقذوا إسرائيل”، فلبت الولايات المتحدة فورًا وتم الإمداد الجوي إلى العريش من قواتها وذخائرها في غرب أوروبا ثم من مصانعها في أمريكا، ولم ينسوا رسم نجمة داود-توفيرًا للوقت-على الطائرات والدبابات! وتم تدمير وأسر العديد منها بواسطة قواتنا.
أدى الدعم إلى توفير احتياطي تم دفعه كورقة أخيرة إلى غرب القناة لتدمير بعض مواقع الدفاع الجوي أرضًا لإعطاء حرية للطيران الإسرائيلي، وهوما تم جزئيًا وخاصة بعد عبور الفرق المدرعة إلى سيناء، لينجح العدو في مرحلتها الأولى جزئيًا ولكنه حكم على نفسه بالحصار كفأر في مصيدة تزداد كثافة حصارها يومًا بعد يوم من جميع الجهات فيما عرف بالخطة “شامل”.
فقد طلب كيسنجر من الرئيس السادات عدم تعرض القوات المصرية للإسرائيلية عند انسحابها، ولذلك احتفلوا بالألعاب النارية لضمان سلامتهم. هذا ويحدد العلم العسكري الاستراتيجي مقياس النصر والهزيمة بمن يستطيع كسب أكبر عدد من المعارك المكونة للحرب، والأهم أن يحقق الهدف من الحرب، ولذلك فقد كسبت مصر مرتين بينما خسرت إسرائيل مثلهما. لتتحرك مصر لاستكمال النصر السياسي الذي لم يكن ليتحقق لولا النصر العسكري في حرب رمضان أكتوبر المجيدة. عاشت مصر حرة قوية آمنة منتصرة ..