اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل.. من المستفيد الأكبر؟
تاريخيًا مرت العلاقات اللبنانية الإسرائيلية بمحطات عديدة من المفاوضات وسنوات من الخلافات، مفاوضات توقف فيها الجانبان كثيرًا لإيجاد اتفاق أو تفاهم يضع حدًا للنزاع بينهما. غير أن تلك الاتفاقات الهشة سرعان ما تنهار على أرض الواقع لتبدأ جولات جديدة من المفاوضات والعودة إلى الصراع مجددًا. ولكن هذه المرة عاد ملف ترسيم الحدود البحرية إلى الواجهة مجددًا من بوابة انتهاء مرحلة المفاوضات والتوصل إلى اتفاق بين الجانبين بوساطة أمريكية بدأت منذ أكتوبر 2020، يبحث فيه الجميع عمّن المستفيد الأول؟
احتياطيات الغاز في لبنان
جُمعت بيانات المسح السيزمي ثنائي وثلاثي الأبعاد على مدار العقدين الماضيين وذلك في المنطقة الاقتصادية الخالصة التي تبلغ مساحتها حوالي 22 ألفًا و730 كيلومترًا مربعًا. وبحسب المعطيات الأولية، توجد نحو 30 تريليون قدم مكعبة (احتياطيات غير مؤكدة) من الغاز في الركن الجنوبي الغربي. تضم المنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان 10 مناطق بحرية تتراوح مساحتها مابين حوالي 1201 و2374 كيلو متر مربع للمربع الواحد.
أُسندت عمليات البحث في قطاعين منها (قطاع 4 وقطاع 9) إلى ائتلاف مكون من 3 شركات، هي “توتال” الفرنسية، و”إيني” الإيطالية، و”نوفاتك” الروسية، وانسحبت الأخيرة مؤخرًا لتؤول حصتها إلى الحكومة اللبنانية. وتُعد تلك الاحتياطيات من الغاز الطبيعي كافية لسد احتياجات لبنان من الطاقة وتصدير الفائض مستقبلًا (فى حال تأكيدها بحفر آبار استكشافية في تركيب قانا بعد التوقيع الرسمي).
وأعلنت الرئاسة اللبنانية، 11 أكتوبر 2022، أن الصيغة النهائية لاتفاق ترسيم الحدود مع إسرائيل مرضية للبنان ولا سيما أنها تلبي المطالب اللبنانية التي كانت محور نقاش طويل خلال الأشهر الماضية، وتطلبت جهدًا وساعات طويلة من المفاوضات الصعبة والمعقدة، وفيما يلي أبرز الملاحظات على بنود الاتفاق:
● الاعتراف بالخط الحدودي في البحر بين لبنان وإسرائيل، ولن تكون هناك مطالبات بتغيير الخط ما لم يتم التوصل إلى اتفاق مستقبلي آخر بين الطرفين، وهنا يجب الإشارة إلى أنه قد تتم إعادة التفاوض بين لبنان وإسرائيل على الحدود البحرية بينهما إذا جرت مفاوضات بشأن الحدود البرية الفاصلة بين البلدين والتي لم يتم التطرق لها.
● بعد خط العوامات (الخط الافتراضي من الجانب الإسرائيلي)، سيعتمد الخط البحري على الخط 23 (الحدود البحرية المستقبلية بين البلدين)، بحيث يكون هناك في نهاية المطاف حقل قانا على الجانب اللبناني وحقل كاريش بالجانب الإسرائيلي.
● ستحصل إسرائيل على تعويضات مالية عن عائدات حقل قانا (المحتمل) وفقًا لمفاوضاتها مع شركة توتال الفرنسية.
● ستتلقى إسرائيل من الحكومة الأمريكية ضمانات تؤكد التزام واشنطن بكافة حقوقها الأمنية والاقتصادية، حال إن قرر حزب الله أو طرف آخر الطعن في الاتفاقية بشأن ترسيم الحدود البحرية مع لبنان.
● تشمل الضمانات، الدفاع عن إسرائيل وحماية حقوقها الاقتصادية في حقل قانا (المحتمل)، بالإضافة إلى منع عائدات الحقل (في حال نجاحه) من الوصول إلى حزب الله وفقًا لنظام العقوبات القائم في الولايات المتحدة الأمريكية.
● يرسم الاتفاق الحدود بين المياه اللبنانية والإسرائيلية للمرة الأولى.
دوافع وراء تغيير وجهة النظر اللبناني
بشكل عام، شكّل الوضع الكارثي الذي يعاني منه قطاع الطاقة اللبناني أحد أهم الأسباب الرئيسة التي دفعت بيروت نحو انهيار اقتصادي وسياسي واسع النطاق؛ فعقب الفشل في تنفيذ إصلاحات حقيقية طوال عقود، لم يُعد لبنان يملك ترف الوقت ولا حتى الموارد المالية لتنفيذ أي إصلاحات، في وقت باتت شوارعه وطرقه الرئيسة تغرق في ظلام دامس أثناء الليل بسبب انعدام الإضاءة وعدم قدرة الحكومة على توفير الكهرباء للشعب اللبناني.
فعلى المستوى المحلي، هناك ضغوط متزايدة لإيجاد حل لأزمة الطاقة في البلاد، بينما على المستوى الدولي، باتت أنظار الولايات المتحدة وأوروبا تتجه نحو موارد الطاقة في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط وذلك وسط مخاوف كثيرة من أزمة طاقة باتت تلوح في الأفق في أوروبا بسبب الحرب الروسية الأوكرانية. ومن هنا نستطيع استنتاج أن التغير المفاجئ في الموقف اللبناني وتنازله عن المطالبة بأن يتم ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل على أساس خط 29 (الذي يشمل حقل غاز كاريش)، والقبول بالترسيم وفق خط 23 (الذي يستثني حقل كاريش ويطالب فقط بحقل قانا بأكمله)، يعود جزئيًا لعوامل خارجية، أهمها المقاربة التي تتبعها الإدارة الأمريكية لحل أزمة الطاقة في لبنان.
من المستفيد من هذا الاتفاق التاريخي؟
مع انتهاء المفاوضات غير المباشرة بين بيروت وتل أبيب عبر عاموس هوكشتاين الوسيط الأميركي، يتساءل الكثيرون عن من الرابح في تلك الصفقة، بالإضافة إلى الموعد المتوقع أن ينجح فيه لبنان في استخراج الغاز تجاريًا. وبشكل عام نلقى الضوء على تداعيات الاتفاق على جميع الأطراف:
هناك العديد من النقاط المتعلقة بالجانب اللبناني ومنها:
● إنهاء الخلاف حول ترسيم الحدود البحرية يمكّن بيروت من بدء التنقيب عن الغاز الطبيعي، مما سينعكس في حال نجاحها على وضع لبنان في حل ملف الطاقة وعجز الكهرباء.
● حقل قانا (المحتمل) طبقًا للدراسات المعلنة تبلغ احتياطاته حوالي 3 أضعاف حقل كاريش، ومن الممكن أن تجني بيروت في السنة الأولي حوالي 8 مليارات دولار، وقُدرت الاحتياطيات الممكنة للمنطقة بحوالي 250 مليار دولار على مدي 20 عامًا (بشرط نجاح تركيب قانا واكتشاف الغاز الطبيعي).
● خسارة جزء من المياه الإقليمية (حوالي 5 كيلومتر/مجرد مؤشرات) بسبب حدود العوامات والتي تم وضعها من الجانب الإسرائيلي.
● إن استخراج الغاز تجاريًا من لبنان سيحتاج إلى مدة لا تقل عن حوالي 7 سنوات.
حقق الجانب الإسرائيلي من هذا الاتفاق العديد من الإيجابيات (اقتصادية وسياسية)، ومنها:
● سيكون حقل كاريش تحت السيطرة الكاملة للجانب الإسرائيلي وهو الحقل الذي قدرت احتياطياته من الغاز الطبيعي بأكثر من حوالي 1.5 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي
● استغلال حقل كاريش سيزيد من قدرة إسرائيل الإنتاجية والتصديرية من الغاز الطبيعي، حيث تصدر تل أبيب حوالي 40% من الإنتاج المحلي من الغاز. وبالفعل أعلنت شركة إنرجيان للطاقة يوم 9 أكتوبر بدء ضخ الغاز لمنصة الإنتاج العائمة في حقل كاريش ضمن اختبارات التدفق العكسي.
● الاتفاق يدعم استراتيجية إسرائيل بالوصول بإمدادات الغاز الطبيعي إلى حوالي 10% مما كانت تصدره روسيا لأوروبا.
● ستحصل إسرائيل على العائدات قبل أن تشرع في عملية الاستخراج من حقل قانا وكذلك العائدات المستقبلية من الإنتاج، وبالتالي الحفاظ على مصالحها الاقتصادية في مياه المتوسط.
● اتفاق تاريخي مع بيروت سيؤدي إلى حماية كل المصالح الأمنية الإسرائيلية ويلبي جميع متطلبات المؤسسة الدفاعية في منطقة المتوسط.
يسعى الجانب الأمريكي كذلك إلى تحقيق العديد من الأهداف من خلال هذا الاتفاق، ومنها:
● واشنطن تريد زيادة إمدادات الغاز الطبيعي للغرب مما يعمل على تسريع تخلص دول الاتحاد الأوروبي من الاعتماد على الغاز الروسي.
● اتفاق سياسي تسعي إليه الإدارة الأمريكية في المنطقة قد يخلق حالة من الهدوء بين الجانب اللبناني والإسرائيلي مما ينعكس على تراجع أهمية حزب الله وقد لا يكون هناك سببًا لإثارة التوتر مع تل أبيب، وبالتالي تصب نتائج هذا الاتفاق في ملف آخر مهم وهو الورقة الإيرانية لأنه سيؤدي إلى تحجيم دورها في المنطقة نتيجة سحب أهم أوراقها التي تتفاوض بها مع الغرب.
● ورقة مهمة للإدارة الأمريكية قبل انتخابات التجديد النصفي المقبلة، وذلك ظهر في سعي الرئيس الأمريكي جو بايدن فيما يخص بتسريع وتيرة المفاوضات والمطالبة بضرورة توقيع الاتفاق الأيام المقبلة وبالتحديد قبل موعد الانتخابات.
وبشكل عام، على المستوي الإقليمي سيؤدي الاتفاق إلى تأمين إمدادات الغاز الطبيعي وخلق حالة من الاستقرار فيما يخص مسألة غاز شرق المتوسط. فإذا نجح كل من لبنان وإسرائيل في الوصول إلى المحطة الأخيرة وهى التوقيع الرسمي فقد يُساهم في إمكانية إنشاء نظام إقليمي لنقل الغاز الطبيعي إلى القارة الأوروبية يشارك فيه جميع دول شرق المتوسط وبالأخص مصر لأنه من الممكن أن يكون عبر مرافق التسييل المصرية لما تمتلكه من بنية تحتية هائلة في صناعة الغاز الطبيعي ومن هناك عبر ناقلات للغاز المسال إلى الموانئ الأوروبية (خيار مناسب وسريع).
ردود فعل أطراف الاتفاق
● الرئيس اللبناني، ميشال عون، وكبير المفاوضين اللبنانيين نائب رئيس مجلس النواب، إلياس بو صعب، وصفا الاتفاق بالتاريخي. وقال بو صعب إن لبنان تسلم المسودة النهائية لاتفاق بوساطة أمريكية لترسيم الحدود البحرية مع الاحتلال الإسرائيلي تفي بجميع متطلبات لبنان، ويمكن أن تؤدي قريبًا إلى اتفاق تاريخي. وقال الرئيس عون إنه يأمل إنجاز كل الترتيبات المتعلقة بترسيم الحدود البحرية الجنوبية خلال الأيام القليلة المقبلة، وذلك بعدما قطعت المفاوضات غير المباشرة التي يتولاها الوسيط الأميركي شوطًا متقدمًا، وتقلّصت الفجوات التي تم التفاوض في شأنها خلال الأسبوع الماضي.
● وفي إسرائيل، أكد رئيس الوزراء، يائير لبيد التوصل إلى اتفاق مع لبنان ووصفه هو أيضًا بالتاريخي. وقال إن الاتفاق يعزز أمن إسرائيل ويؤدي إلى ضخ مليارات الدولارات إلى خزينتها ويضمن الاستقرار الأمني. وقال رئيس مجلس الأمن القومي في الحكومة، إيال حولاتا، الذي يتولى إدارة المفاوضات مع لبنان، إنه تمت تلبية جميع مطالب إسرائيل في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية. وعليه نحن في طريقنا إلى اتفاق تاريخي مع لبنان، وأضاف لقد تم تعديل وتصحيح التغييرات التي طلبناها حيث حافظنا على مصالح إسرائيل الأمنية.
● ما زالت هناك بعض علامات الاستفهام حول الدلالات السياسية والقانونية في إسرائيل لهذه التطورات، وذلك على إثر الالتماسات التي قُدمت إلى المحكمة العليا الإسرائيلية ضد الاتفاق، وحملة المعارضة الشديدة للاتفاق والتحريض عليه التي يشنها نتنياهو، ويهاجم فيها ليس لبيد وحده بل أيضًا الإدارة الأميركية. وقد نقل على لسان نتنياهو قوله، إن الرئيس الأمريكي جو بايدن تجند ضده في الانتخابات واعتبر الاتفاق مصيدة ينصبها كل من بايدن ولبيد في طريقه، عندما يفوز وينتخب مجددًا رئيس للحكومة. وكان قد صرح مؤخرًا بأنه في حال فوزه في الانتخابات وعاد إلى منصب رئيس الحكومة، فإنه لن يحترم الاتفاق مع لبنان، إلا أنه يدرك بأن التراجع عن اتفاق كهذا سيشكل أزمة مع الإدارة الأمريكية وسيضر بمصالح إسرائيل ويثير الشكوك حول مصداقيتها كدولة لا تحترم الاتفاقيات.
● أبدى الرئيس الأميركي جو بايدن ترحيبه باتفاق ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل.
وعلى الرغم من إشادة الولايات المتحدة الأمريكية ولبنان وإسرائيل بانتهاء المحادثات المباشرة، لم يحصل الاتفاق نفسه بعد على الموافقات النهائية في لبنان أو إسرائيل، والأمر قد يحتاج إلى أسابيع. ويدخل هذا الاتفاق حيز التنفيذ في التاريخ الذي تُرسل فيه حكومة الولايات المتحدة الأمريكية إشعارًا يتضمن تأكيدًا على موافقة كل من الطرفين على الأحكام المنصوص عليها في هذا الاتفاق. وفي اليوم الذي ترسل فيه واشنطن هذا الإشعار، سيرسل لبنان وإسرائيل في نفس الوقت إحداثيات متطابقة إلى الأمم المتحدة تحدد موقع الحدود البحرية المتفق عليها.
خلاصة القول، الاتفاق اللبناني الإسرائيلي يُشكل تسوية مهمة بين البلدين فيما يخص النزاع البحري، ويفتح الطريق للتنقيب عن مصادر الطاقة قبالة الساحل، ويخفف من مصدر للتوترات الأحدث بين البلدين. وبغض النظر عمن هو المستفيد من هذا الاتفاق، هو اتفاق سيؤدي إلى خلق حالة من الاستقرار في منطقة المتوسط. ومع ارتفاع الطلب عالميًا على الغاز وارتفاع الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة، على وقع أزمة الطاقة التي أثارتها الحرب الروسية الأوكرانية، يأمل لبنان أن يسهم أي اكتشاف بحري في التخفيف من حدة الانهيار الاقتصادي. ولكن بعد أكثر من عقد من الزمن على إعلان حدوده البحرية ومنطقته الاقتصادية الخالصة، لا يملك لبنان اليوم دلائل على احتياطات مؤكدة من الغاز الطبيعي. ولكن من أجل جذب شركات الطاقة والاستفادة من استكشافات محتملة، فإن لبنان في حاجة ماسة إلى تنفيذ إصلاحات. وفي الأخير، تتكثف الأحداث لتؤشر إلى أن منطقة البحر المتوسط ستشهد مرحلة جديدة من مراحل تجميع الأوراق، مما قد يفتح المنطقة على سيناريوهات جديدة.