الأزمة الأوكرانية

المحطة الأخيرة … ماذا بعد “التعبئة الجزئية” في روسيا؟

ربما من الجائز الربط -ولو من حيث الشكل- بين قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إعلان التعبئة الجزئية لقوات الاحتياط التابعة للجيش الروسي وبين التطورات الميدانية الأخيرة في أوكرانيا، خاصة شمالي الجبهة الشرقية وعلى الأطراف الغربية للجبهة الجنوبية، إلا أن واقع الحال يشير إلى ارتباطات أكثر جدية وواقعية بين قرار بوتين وبدء عمليات الاستفتاء الشعبي على انضمام أربع مناطق أوكرانية إلى الاتحاد الروسي.

لفهم هذه الارتباطات، لابد من العودة إلى المسار التكتيكي الذي سلكته موسكو في أوكرانيا منذ انطلاق “العملية العسكرية الخاصة”، وصولًا إلى اللحظة الراهنة، وهو مسار طابق في البداية التوقعات الغربية على المستوى الميداني، لكنه تعرض لتصدعات أساسية دفعت المخطط العسكري الروسي إلى النزول بسقف الأهداف العسكرية الاستراتيجية للقوات الروسية في أوكرانيا إلى مستوى يمكن -بالنظر إلى كافة الظروف القائمة- أن نطلق عليه “أفضل ما يمكن الحصول عليه”.

منذ عام 2015، كانت التقديرات الغربية والأوكرانية تشير إلى أن احتمالات التحرك العسكري الروسي داخل أوكرانيا تقترب بشكل كبير من سيناريو السيطرة على كامل الأراضي الواقع شرقي نهر “دنيبر”، بما يشمل العاصمة كييف والمناطق الشرقية والجنوبية الشرقية والشمالية الشرقية لأوكرانيا. هذا السيناريو ترافق مع عدة سيناريوهات أخرى أهمها سيناريو “الربط البري” بين إقليم الدونباس وشبه جزيرة القرم، عبر السيطرة على المناطق الجنوبية في أوكرانيا، وبشكل خاص الساحل المطل على بحر آزوف. 

حقيقة الأمر أن المجريات الميدانية التي طرأت على العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا تراوحت -للمفارقة- بين كلا السيناريوهين؛ ففي بداية العملية، بدا أن القوات الروسية تنفذ فعليًا السيناريو الأول، عبر التقدم من الجبهة الشمالية نحو كييف، ومن الجبهة الشمالية الشرقية والشرقية نحو الدونباس وخاركيف، ومن الجبهة الجنوبية نحو خيرسون وزابوريجيا وساحل آزوف. 

لكن ما لبثت القوات الروسية أن انهت المرحلة الأولى من عمليتها العسكرية بتراجع تام عن التواجد في الجبهة الشمالية التي كانت قد وصلت فيها إلى التخوم الشمالية الغربية للعاصمة، واكتفت بالقتال في بقية الجبهات بدرجة متفاوتة، وهو ما كان السمة الأساسية للمرحلتين الثانية والثالثة من العملية الروسية اللتين بدا فيهما التركيز بشكل كبير على الجبهة الشرقية “الدونباس”، مع تحركات دفاعية محدودة في الجبهة الجنوبية، على الأطراف الشمالية لمقاطعتي “خيرسون” و”زابوريجيا”.

وبغض النظر عن الأسباب اللوجيستية والتكتيكية التي أجبرت القوات الروسية على تغيير طرق انفتاحها القتالي في أوكرانيا -وهي أسباب وجيهة ومتنوعة- يمكن القول إن تسويق التراجع الذي طرأ على الخطوط الروسية شمالي الجبهة الشرقية، وتحديدًا جنوبي وشرقي مدينة خاركيف، على هيئة “هزيمة عسكرية”، ربما يحمل بعض المبالغات؛ فعلى الرغم من أن هذا التراجع ينضوي على ميزات تكتيكية مهمة للقوات الأوكرانية، من بينها الاقتراب بشكل أكبر من خط الحدود من روسيا، بشكل يهدد تدفق الإمدادات العسكرية نحو إقليم الدونباس.

ناهيك عن أن التراجع الروسي كانت باكورة مجموعة من النقائص الميدانية واللوجستية التي عانت منها القوات الروسية منذ اليوم الأول للقتال، إلا أن العبرة هنا تكمن في تحقيق الأهداف الميدانية، خاصة أن العمليات الأوكرانية تمت بأنساق لا تشي بأنها جزء من “هجوم مضاد” يمكن أن يشكل تهديدًا وجوديًا للقطاعات الروسية الموجودة في الشرق والجنوب.

هذا يمكن فهمه أكثر من خلال ردة الفعل الروسية على التحركات العسكرية الأوكرانية التي اتخذت طابعًا هجوميًا محضًا منذ أوائل الشهر الجاري شمالي الجبهة الشرقية، مضافًا إليه زخم هجومي -تضليلي- نحو ستة محاور قتال شمال غرب الجبهة الجنوبية “خيرسون”. رد الفعل الروسي هذا تمثل في إجراءين أساسيين، هما: إعلان بدء الاستفتاء على انضمام أربع مناطق أوكرانية إلى الاتحاد الروسي، والبدء في التعبئة “الجزئية” لنحو 300 ألف جندي من قوات الاحتياط الروسية. 

اللافت أن أحد هذين الإجراءين وهو الاستفتاء لا يرتبط بشكل مباشر بالجانب العسكري من الصراع، بل يرتبط بالتغير الذي طرأ على الهدف الروسي الاستراتيجي من العمليات في أوكرانيا، والذي تم تخفيضه إلى الحد الأدنى، ألا وهو “الدونباس وساحل بحر آزوف، في حين يمكن الربط بين الإجراء الثاني، ومستقبل الأوضاع في مرحلة ما بعد إتمام تنفيذ الإجراء الأول.

استفتاء “المحطة الأخيرة” للحرب في أوكرانيا

من حيث المبدأ، لم تكن النوايا الروسية مستترة أو غير معلنة حيال ضم بعض المناطق الأوكرانية إلى الاتحاد الروسي، لكن النقطة الأساسية الملحوظة في عملية الإعلان عن الاستفتاء على انضمام لوهانسك ودونيتسك وزابوريجيا وخيرسون إلى روسيا أن هذه العملية كان من المفترض أن تتم في نوفمبر المقبل، وبالتالي هذا يعني -عمليًا- أن عمليات الإعداد اللوجيستي والإداري لتنظيم هذا الاستفتاء لا تزال في طور التجهيز، لكن الواقع يشير إلى أن موسكو كانت تعد العدة لإنجاز هذا الاستفتاء في النصف الثاني من الشهر الجاري، وهو ما يشير إلى وجود خطة روسية مسبقة تتضمن هذا الموعد، وأن بدء عملية الاستفتاء -لا يرتبط بشكل أو بآخر- بالتطورات في شمال الجبهة الشرقية كما تشير بعض التحليلات.

الإعلان المفاجئ عن موعد الاستفتاء ربما يستهدف قطع الطريق على أي خطط أوكرانية تستهدف عرقلة عملية الاستفتاء التي بدأت في الثالث والعشرين من الشهر الجاري وتنتهي في السابع والعشرين منه. هذه العملية، وإن كان من الجائز عدّها مؤشرًا مهمًا على التغير الجذري في الأهداف العسكرية للعملية الروسية الخاصة في أوكرانيا؛ والتي بدأت بأهداف واسعة النطاق معززة بالثقة في تنفيذ عملية خاطفة وسريعة مثل عملية السيطرة على شبه جزيرة القرم ووصلت إلى مرحلة تقاتل فيها القوات الروسية بشكل دفاعي في مناطق عدة. رغم جواز هذا الرأي، إلا أنه يمكن القول أيضًا إن موسكو ستتحصل على ميزات استراتيجية كبيرة من خلال السيطرة على المناطق الأوكرانية الأربع.

تبلغ مساحة هذه المناطق مجتمعة نحو 108 آلاف كيلو متر مربع، بما يمثل 20 بالمائة من مساحة أوكرانيا، ويقطن هذه المناطق نحو 8 ملايين نسمة أي 21 بالمائة من سكان البلاد. على المستوى الاقتصادي، تمتلك منطقة خيرسون نحو 2 مليون هكتار من القمح، بجانب مساحات شاسعة أخرى من الخضروات والفاكهة، في حين تضم مقاطعة دونيتسك أحد أهم مناجم الفحم الحجري باحتياطي نحو 60 مليار طن، وتضم مقاطعة لوهانسك احتياطيات ضخمة من الوقود ومصانع مهمة خاصة بصناعة الصلب، ناهيك عن وجود أكبر محطة نووية في أوروبا في مقاطعة “زابوريجيا”. 

استراتيجيًا يمكن القول إن دخول هذه المناطق ضمن المنظومة الروسية بشكل كامل سيوفر بعض الميزات التكتيكية لموسكو، أهمها تأمين إمدادات المياه والطاقة الخاصة بشبه جزيرة القرم، وكذا تحويل بحر آزوف بشكل عملي إلى بحر داخلي مسيطر عليه بالكامل من موسكو، ناهيك عن خلق تواصل بري مستدام بين شبه جزيرة القرم والدونباس.

سيبقى السؤال الأبرز في هذا الإطار هو مآلات ملف انضمام المناطق الأربع إلى الاتحاد الروسي بالنظر إلى تمايز الوضع القانوني لبعضهم عن البعض؛ فمنطقتا لوهانسك ودونيتسك قامتا بإعلان استقلالهما عن كييف في مايو 2014 بعد تنظيم استفتاء شعبي كان من المفترض أن يتبعه استفتاء آخر خاص بالانضمام لروسيا، علمًا بأن موسكو اعترفت باستقلال الإقليمين عن أوكرانيا في فبراير الماضي، في حين لم تخرج مقاطعتا زابوريجيا وخيرسون -حتى الآن- من الولاية القانونية لكييف، وبالتالي يجب أن تمر عملية انضمام هاتين المقاطعتين إلى الاتحاد الروسي على عدة مراحل: أولها الاستفتاء على انفصالهما عن أوكرانيا، وآخرها هي الانضمام رسميًا لروسيا.

تراهن موسكو -في الجانب السياسي من هذا الملف- على اتباع نفس الاستراتيجية التي تم اتباعها خلال الاستفتاء على ضم شبه جزيرة القرم، والتي تلخصت في اتخاذ خطوات متسارعة الوتيرة أجبرت كييف والجانب الغربي على اللجوء إلى خيار التهدئة، خاصة أن كييف في هذه المرحلة كانت فعليًا غير مستعدة لأي مواجهة عسكرية مع موسكو، لكن بالطبع الوضع الحالي يختلف بشكل كبير عن الأوضاع في تلك المرحلة، وهو ما كان سببًا رئيسًا في اتخاذ موسكو الخطوة الثانية في رد فعلها على التحركات الهجومية الأخيرة لكييف، ألا وهي “التعبئة الجزئية”.

التعبئة الجزئية … مسافة وسطى بين التصعيد وتبريد الجبهات

ليس خافيًا على أي متابع للحرب في أوكرانيا حقيقة أن موسكو عانت منذ بداية عملياتها العسكرية من مشاكل في توفير القوة البشرية اللازمة للقتال في الجبهات الرئيسة الثلاث الذي تم القتال فيهما خلال المرحلة الأولى من العمليات، وهذا العامل بالتحديد كان من الأسباب الموجبة للتغيرات الكبيرة في الأهداف المرحلية للجيش الروسي في أوكرانيا خلال المرحلتين الثانية والثالثة من العمليات العسكرية.

النقطة الأساسية في هذا الصدد تتعلق بأن القيادة العسكرية الروسية تفادت خلال الأشهر الماضية إعلان التعبئة العامة لقوات الاحتياط البالغ قوامها نحو 25 مليون فرد، وفضلت القتال بما توفر من جنود متعاقدين ووحدات رديفة ومتطوعة -خاصة من الشيشان- وهي الاستراتيجية التي أثمرت نتائج ميدانية مهمة خلال المرحلة الأولى من المعارك؛ نظرًا إلى قصر خطوط الإمداد وتمركز القتال في محاور محددة. لكن ظهر القصور في هذه الاستراتيجية بعد أن باتت القوات الروسية تقاتل على خط مواجهة يتعدى طوله 1000 كيلو متر، في ظل تدفق مستمر للذخائر والأسلحة لكييف.

إذًا، ما الداعي الأساسي لقيام موسكو باللجوء إلى تعبئة قسم من جنود الاحتياط بعد أشهر من رفض اللجوء إلى هذا الخيار؟ هل هذا يعزى إلى خطط هجومية كبيرة ستنفذها القوات الروسية خلال الشتاء المقبل؟ أم هو رد فعل طبيعي على الاختراق الأوكراني في الشمال الشرقي؟

المؤشرات المتاحة تشير إلى أن هذه الخطوة ربما ترتبط بمرحلة ما بعد انضمام المناطق الأوكرانية الأربع إلى روسيا؛ فعلى الرغم من الغموض الذي بدت عليه الصياغة الخاصة بمرسوم إعلان التعبئة -خاصة فيما يتعلق بالبنود الخاصة بمن سيشمله الاستدعاء ومن سيتم استبعاده، ناهيك عن عدم تحديد المرسوم للأعداد المطلوب تجنيدهم- إلا أن وزير الدفاع الروسي أعلن أن التعبئة الجزئية ستشمل 300 ألف جندي هم من قاموا بالخدمة سابقًا في الجيش الروسي، ولديهم خبرة قتالية أو يمتلكون معرفة متخصصة في فرع عسكري معين.

خريطة السيطرة في المقاطعات الأوكرانية الأربع التي تستهدف موسكو ضمها للأتحاد الروسي، ربما تحمل إجابة على التساؤلات المتعلقة بخلفيات خطوة التعبئة الجزئية للجيش الروسي، فعمليًا مازالت القوات الأوكرانية تسيطر على القسم الشمالي من مقاطعة زابارويجيا، والقسم الشمالي الغربي من مقاطعة دونيتسك، مع اقتراب هذه القوات من التخوم الشمالي لمقاطعة لوهانسك، وتنفيذها منذ أواخر الشهر الماضي، هجمات مستمرة على القطاع الشمالي بمقاطعة خيرسون.

هذا الوضع الميداني يمكن عاملًا دافعًا أساسيًا لتعزيز الجيش الروسي قواته بوحدات جديدة؛ بهدف خلق ما يشبه “خط صد” لحماية المقاطعات الأربع حال تأكيد انضمامها إلى الاتحاد الروسي، وهذا التعزيز سيتم عبر القوات التي سيتم تعبئتها من قوات الاحتياط، بجانب الوحدات التي ستتطوع من سكان هذه المقاطعات، بالإضافة إلى الوحدات الأجنبية المتطوعة التي ستتزايد أعدادها بفعل التسهيلات التي أقرها مجلس الاتحاد الروسي مؤخرًا، ومنها فتح إمكانية حصول الأجانب على الجنسية الروسية بشرط الخدمة في الجيش الروسي كمتعاقدين بحد أدنى عام واحد. هذا التعزيز الجديد في القوات الروسية سيسهم في تعزيز الدفاعات الموجودة في الأقاليم الأربعة في مواجهة القوات الأوكرانية التي بدأت أواخر فبراير الماضي في حالة التعبئة العامة، ووصلت حاليًا إلى المرحلة الرابعة منها.

خلاصة القول، إن التعبئة الجزئية للقوات الاحتياطية الروسية وكذا عملية الاستفتاء على انضمام الأقاليم الأوكرانية الأربعة إلى الاتحاد الروسي يمكن عدّها خطوات أقرب ما تكون إلى محاولة روسيا إنهاء عملياتها في أوكرانيا منها إلى تصعيد النزاع أكثر مع كييف والغرب. هذه القراءة يمكن تطبيقها أيضًا على التلويح النووي الروسي، والذي لا يحمل “منطقًا” فيما يتعلق بالجانب الاستراتيجي منه، ولا ينطوي على ضرورات ميدانية فيما يتعلق بالجانب التكتيكي منه.

محاولات موسكو إنهاء عملياتها العسكرية في أوكرانيا “بانتصار ميداني” يتم تسويقه داخليًا وإقليميًا ربما يواجَه بتحدٍ يتمثل في ماهية رد الفعل الأوكراني والغربي على عملية ضم الأقاليم الأربعة، وما إذا كان الزخم الهجومي الأوكراني على هذه الأقاليم -التي ستصبح عمليًا جزءًا من الأراضي الروسية- سيستمر ومعه سيتصاعد الدعم العسكري الغربي ويصل إلى مستويات أخرى أكبر مثل: صواريخ “ناسامز” المضادة للطائرات، وصواريخ “أم جي أم-140” التكتيكية؛ أم ستلجأ كييف إلى القبول بالأمر الواقع كما حدث فيما يتعلق بشبه جزيرة القرم، وهو ما يتضمن تكريسًا لواقع جيوسياسي جديد ستكون كييف هي ضحيته الأولى؟ هذا ما ستكشف عنه الأسابيع المقبلة.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى