
“الاقتصاد” يحدد رئيس الوزراء الإسرائيلي!
لا صوت يعلو في إسرائيل حاليًا فوق صوت التوقعات المتعلقة برئيس الوزراء القادم، بعد ماراثون انتخابي شهد خمس جولات في نحو ثلاث سنوات في سابقة لم تعرفها إسرائيل من قبل. استطلاعات الرأي العام الإسرائيلي تتابع بشكل يومي تقريبًا التغيرات في توجهات الرأي العام إزاء الأحزاب والكتل السياسية والشخصيات المرشحة لقيادة إسرائيل.
المعتاد في إسرائيل خلال السنوات الماضية أن القضايا الأمنية غالبًا ما تكون لها الكلمة في تحديد هوية رئيس الوزراء والمعسكر الذي يتولى تشكيل الحكومة. ومن ثم لم يكن غريبًا أن ترتفع نسبيًا أسهم رئيس الوزراء الحالي يائير لابيد بعد المواجهة الأخيرة بينه وبين حركة الجهاد في قطاع غزة، بل ولم يكن غريبًا أيضًا إقدامه على تلك المواجهة قبيل الانتخابات. لقد فعل كما فعل العديد من أسلافه، وفي مقدمتهم نيتنياهو. مشكلة لابيد أنه فعل فعلة أسلافه بينما لا تسمح الأجواء له بتأمين الاستفادة من تلك المواجهة في رفع شعبيته كما فعل أسلافه، متصورًا أن صورته مع بايدن وتوقيع إعلان القدس كافية هي الأخرى لاستمراره في رئاسة الوزراء.
الأجواء في إسرائيل يخيم عليها حديث الاقتصاد وموجة الغلاء غير المسبوقة التي يعاني منها الإسرائيليون؛ ففي عودة لما كان عليه مستوى التضخم قبل عشر سنوات، ارتفع التضخم في إسرائيل بنهاية 2021 ليتجاوز حاجز الـ 2%، ومن المتوقع أن يصل إلى 4.5% خلال العام الجاري. معدل التضخم هو تعبير عن حالة غلاء الأسعار التي يشهدها المجتمع الإسرائيلي في ظل الظروف الاقتصادية التي سببتها جائحة كورونا.
فأظهر التضخم المالي في الأشهر الـ 11 الأولى من العام 2021 أن الاقتصاد الإسرائيلي سيسجل لأول مرة منذ ثماني سنوات تضخمًا ماليًا يتجاوز نسبة 2.2%، إذ إن آخر نسبة كهذه كانت في العام 2013، تبعتها سبع سنوات من التضخم القريب للصفر. إضافة إلى ذلك، فقد أدت الأزمة بالبنك المركزي الإسرائيلي إلى رفع أسعار الفائدة بمقدار نصف نقطة مئوية، في الرابع من يوليو الماضي، لتصبح 1.75%، وهو أعلى معدل لأسعار الفائدة في إسرائيل في 9 سنوات، في مسعى لكبح التضخم. جدير بالذكر أن هذا الارتفاع هو ثالث مرة يرفع فيها المركزي الإسرائيلي أسعار الفائدة في ثلاثة أشهر، ليصل معدل الفائدة حاليا إلى أعلى معدل له منذ سبتمبر عام 2013.
وقد أدت تلك الحالة من الغلاء إلى ظواهر ليست معتادة أو غير متكررة في إسرائيل وأخرى لم تعرفها إسرائيل من قبل. فقد قام عدد من النشطاء في بداية العام الجاري بوضع ملصقات على منتجات تابعة لشركة “أوسم” يدعون فيها إلى مقاطعة الشركة التي أعلنت عن رفع الأسعار على منتجاتها منذ بداية العام الجاري بنسبة تتراوح ما بين 3%-7%. و”أوسم” هي واحدة من كبرى الشركات المصنعة لسلع غذائية أساسية الاستهلاك في السوق الإسرائيلية.
الأمر الذي يعيد إلى الأذهان ما شهدته إسرائيل قبل نحو 11 عامًا، عندما شهدت احتجاجات واسعة النطاق بشأن الأسعار في عام 2011 على خلفية ارتفاع أسعار جبنة “كوتج”، وهو غذاء إسرائيلي أساسي، لتنطلق حينها الشرارة الأولى التي أشعلت ما يعرف بالاحتجاج الكبير أو “ثورة الخيام” والتي قادها غضب الإسرائيليين من الزيادات الحادة في الإيجارات وغلاء المعيشة، حتى وصل بهم الأمر إلى نصب الخيام والاعتصام في شوارع مدينة تل أبيب، مرددين الهتافات المطالبة بالعدالة الاجتماعية.
إضافة إلى ذلك، فقد انتشرت ظاهرة لم تعرفها إسرائيل من قبل وهي تسوق الإسرائيليين من الأراضي الفلسطينية، فوفقًا لصحيفة “إسرائيل هايوم” فإن المستوطنين الإسرائيليين يقومون بالشراء والتسوق من المدن والمحلات الفلسطينية في الضفة الغربية؛ هربا من ارتفاع الأسعار داخل الأراضي المحتلة. وهو أمر كما وصفته الصحيفة آخذ في التزايد بما يجعل منه ظاهرة.
والأمر لا يقتصر على المستلزمات المنزلية والمواد الغذائية، بل وصل إلى حد التزود بالوقود من المحطات، فسعر البنزين في الضفة الغربية أرخص بمقدار شيكل لكل لتر عن الأسعار في إسرائيل، فضلًا عن أن سعر السولار يعادل نصف سعره في إسرائيل، رغم ما يحمله ذلك التصرف من مخاطر تهدد حياة المستوطنين. أي أن المستوطنين باتوا يتصرفون بناء على اعتبارات اقتصادية بحتة دون مراعاة الأبعاد الأمنية كعادتهم.
قبل نحو شهرين من الآن، بدأ الوضع الاقتصادي يتقدم على أجندة اهتمامات الرأي العام الإسرائيلي. ففي الاستطلاع الذي أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية ونشرت نتائجه في يوليو الماضي اتضح أن الوضع الاقتصادي ووباء كورونا، وما يقترن بهما، هما القضيتان الرئيستان اللتان تشغلان الجمهور الإسرائيلي وتثير قلقه. وما هو ملفت أيضًا أن الملف الأمني (الأوضاع الأمنية) تراجع لأسفل سلم الاهتمامات بنحو 9%. وفي الثالث من يوليو الماضي أوضح الاستطلاع الذي أوردت نتائجه هيئة البث الإسرائيلية العامة “كان 11″، أن 44% من المستطلعة آراؤهم، أكدوا أن معالجة موجة الغلاء الحالية، الدافع الأهم بالنسبة لهم، لاختيار لأي حزب سيصوتون، فيما أجاب 14% بأن قضية الأمن هي الأهم.
باختصار، فإن إسرائيل تشهد تراجعًا غير مسبوق في أهمية ملف الأمن لدى الرأي العام تحت ضغط الأزمة الاقتصادية التي لا يبدو أن فرص يائير لابيد في التعامل معها تكون أفضل من سلفه نفتالي بينيت، وهو ما يعني أنهما ومعهما الأحزاب التي أطاحت بنتنياهو سيدفعان ثمن المعاناة الاقتصادية التي يواجهها المجتمع رغم أنهما بكل تأكيد لم يشاركا في صنعها.
وبالتالي سيركز نتنياهو وتحالفه اليميني على الوضع الاقتصادي محملًا الفشل في معالجته لمن تصدوا للمسئولية بديلا عنه؛ أي أن الحملة الانتخابية لنتنياهو ستدور حول فكرة أن الاقتصاد كفيل بصناعة الملوك وسيرفع شعار “إنه الاقتصاد” بعدما ظل لسنوات عديدة يرفع لواء الأمن وفقط، دافعًا الرأي العام الإسرائيلي إلى التصويت لكتلة اليمين بقيادته.
نقلًا عن صحيفة الأهرام
رئيس وحدة دراسات الرأي العام