مقالات رأي

“بيبي” على خطى “العياط”!

علاقة المتطرفين بالقضاء وخاصة المحاكم العليا فيه هي علاقة عداء سافر ومستمر. المتطرفون لا يقبلون سلطة أعلى منهم. لا يأنسون لمن بيده شرعية إلغاء قراراتهم. المحاكم العليا دائما ما تكون في مرمى نيران المتطرفين. قبل ما يزيد على عشر سنوات، أعلن محمد مرسي العياط بصفته رئيسًا لمصر إعلانًا دستوريًا توهم أنه سيكون الطلقة المميتة للمحكمة الدستورية العليا، حيث حصن قراراته السابقة واللاحقة من أحكام المحكمة. لم تكن محاولة فقط لعقاب المحكمة على حكمها في يوليو 2012 بحل مجلس مجلس الشعب الذي سيطر عليه الإخوان والسلفيين، بل كانت إجراء ضمن إجراءات الحرب ضد القضاء أو ما قال الإخوان عنه “تطهير القضاء” والتي جاء في سياقها عزل النائب العام المستشار عبد المجيد محمود. انتفض المجتمع المصري، فقرر العياط أن يكمل الخناق على المحكمة فأرسل جماعته ليحاصروا المحكمة حتى تستقر الطلقة في قلب المحكمة ويرتاح مرسي وجماعته منها للأبد. النتيجة النهائية كانت انتصار مصر ومحكمتها العليا على العياط وجماعته للأبد. رحل العياط وجماعته وبقت المحكمة الدستورية شامخة راسخة في مكانها ومكانتها. 

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نيتنياهو (بيبي) ومنذ بداية ولايته الحالية قبل نحو سبعة أشهر يقدم نسخة أخرى من محمد مرسي العياط، ولا ينقصه سوى ذقن بيضاء واستخدام نفس المفردات التي طالما استخدمها العياط. فبيبي جاء إلى تلك الولاية محمولًا على أعناق اليمين المتطرف الذي ما كان ليحكم لولا وجود شخص نيتنياهو وحاجته لهم ليسترد رئاسة الوزراء فقبلوه على مضض. اليمين المتطرف في إسرائيل يعتقد أن الحالة الموجود عليها الرأي العام الإسرائيلي تبرر له اليوم أن يحكم باسم التوجهات السائدة لدى الشارع الإسرائيلي والتي يصبغها ويتحكم فيها أفكار اليمين المتطرف كما لم يحدث من قبل، وهي أيضا نفس الحالة التي كان عليها الإخوان في مصر بعد ما حدث في عام 2011. اليمين الإسرائيلي المتطرف إذن يحكم إسرائيل من خلال نيتنياهو، إنه بتعبيرات الإخوان في مصر مندوب اليمين المتطرف وما عليه سوى السمع والطاعة! وعدم انصياعه لأوامر اليمين المتطرف يعني انقضاء لحكمه بكل ما يعنيه ذلك من تهديد لمصالحه الشخصية المتمثلة في البقاء في منصبه والافلات من ملاحقة القضاء له. تخيل الرجلان (العياط وبيبي) أن الشارع الذي حملهما إلى سُدة الحكم لا يمكن أن ينقلب عليهما. انتفض الشارع المصري وأسقط العياط وأهله وعشيرته، كما ينتفض الشارع الإسرائيلي منذ عدة أشهر في وجه نيتنياهو وائتلافه الحاكم.

 وما زالت المعركة مستمرة ومفتوحة على كل الاحتمالات بين نيتنياهو والشارع الذي يرى أن بيبي يتلاعب بهوية إسرائيل ويحيد بها عن الطريق التي رسمها قادة وشعب إسرائيل. وكما كان الخلاف مع العياط في مصر أبعد وأكبر مما يقوم به مع القضاء فالمسألة في إسرائيل أيضا أبعد وأكبر ومن مسألة التعديلات القضائية. إنها هوية اسرائيل التي يعتقد فيها الإسرائيليون رغم ما يعتريها من تصدعات، ولذا هتف المتظاهرون “أوقفوهم” معتبرين أن ما يقوم به بيبي يجعل إسرائيل على بعد ساعات قليلة من التحول من الدولة الديمقراطية إلى الديكتاتورية. علاوة على ذلك أبدى المتظاهرون قلقهم على مستقبل إسرائيل مؤكدين “إذا تمّ إمرار هذا القانون، لن نتمكّن من العيش كما نرغب”. المعارضة شاركت الشارع في أن المعركة التي يخوضها نيتنياهو ضد القضاء هي بمثابة “عملية تدمير داخلي لا مثيل لها” على حد وصف زعيم المعارضة يائير لابيد. أما وزير الدفاع الإسرائيلي السابق بيني جانتس فقال إن ما يحدث قد يقود إسرائيل إلى حرب أهلية، مؤكدًا أن الشعب الإسرائيلي “يتفكك إلى شظايا”. أما البروفيسور دانيال كانمان الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2002 فأكد إنه قلق على إسرائيل أكثر مما كان خلال حرب أكتوبر 1973. ولخص الأمر بالقول “بالنسبة لي، هذه نهاية العالم تقريبا، هذه نهاية إسرائيل كما كنت أعرفها”.

إذن الخوف على إسرائيل كما يعرفها الإسرائيليون والمخاوف من تشظي المجتمع واندلاع حرب أهلية هو أصل المعركة الدائرة في إسرائيل وإن كان ميدانها الآن هو المعركة مع القضاء. لقد كان الخلاف مع الإخوان والعياط منبعه الخوف على مصر كما عرفها المصريون عبر آلاف السنين والمخاوف أيضا من تقسيم المجتمع على اعتبارات دينية بما قد يفضي به إلى الحرب الأهلية وضياع الهوية المصرية، فكانت ثورة 30 يونيو 2013. وهذا هو الدرس الأهم الذي قدمته مصر لكل من يتوهمون أن بإمكانهم التلاعب بهوية أي دولة كما يؤمن بها شعبها. ومع ذلك فما زال نيتنياهو تحت أوهام قوة اليمين وتوجهاته المتحكمة في الشارع الإسرائيلي يتصور أن بإمكانه أن يخرج منتصرًا في معركته لتحجيم المحكمة العليا، وإقناع الإسرائيليين أن انتصاره ذلك انتصارًا لإسرائيل ودفاعًا عن ديموقراطيتها، متحديًا المعارضة والرئيس بايدن الذي بدا وكأنه يهتف مع المتظاهرين “لا يمكنهم (نيتنياهو وائتلافه) الاستمرار في هذا الطريق”. وكما صم العياط وجماعته آذانهم واستمتعوا بسماع أصواتهم فقط، فإن بيبي ويمينه المتطرف يفعل الشئ نفسه في إسرائيل، مستغلًا أن الإسرائيليين والمعارضة الآن لا يطمعون في أكثر من وقف المعركة ضد القضاء. المعركة الحالية في إسرائيل لا تمثل أكثر من عرض لمرض اسمه التطرف بات متحكمًا في الساحة الإسرائيلية، وينذر بأن لعنة العقد الثامن على الابواب، فالتاريخ كما يدعي بيبي نفسه يقول إن دولة لليهود لم تعمر لأكثر من ثمانين عامًا.

نقلًا عن جريدة الأهرام

كاتب

د.صبحي عسيلة

رئيس وحدة دراسات الرأي العام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى