
لماذا تأخر الإعلان عن الحكومة العراقية الجديدة؟
تبددت حالة التفاؤل الإقليمي التي حظيت بها نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية (10 أكتوبر 2021) على ضوء مرور 5 أشهر دون أن تتفق الأحزاب السياسية على اختيار رئيس للوزراء وانتخاب رئيس للجمهورية وإعلان التشكيلة الوزارية، ووزراء الحقائب السيادية. الانتخابات العراقية المبكرة التي أتت نتيجة للاحتجاجات الشعبية (1 أكتوبر 2019 – 3 يناير 2020)، نالت اهتمام المراقبين لمعرفة هل النفوذ الإيراني في العراق يمكن أن يهزم بالانتخابات البرلمانية؟
وكانت النتيجة أن الجمود الذي تشارك إيران في صنعه في المشهد اللبناني قد انتقل إلى المشهد العراقي في مفردات لبنانية بامتياز، ليصبح العنوان الرئيس من بيروت إلى بغداد “إيران لا تهزم بالانتخابات، حتى لو هزمت في الانتخابات”.
التفاؤل الإقليمي –العربي بالأساس– أتى بالرهان على التيار الصدري وزعيمه مقتدى الصدر على ضوء ظفر التيار الصدري بالترتيب الأول في الانتخابات، يليه حزب تقدم الذي يتزعمه محمد الحلبوسي وعلى فرحان الدليمي ويحيي المحمدي، ولكن المفاجأة كانت في وجود ائتلاف دولة القانون لزعيمه نوري المالكي في الترتيب الثالث. وحل حلفاء الصدر في المراتب التالية بما يجعله قادرًا على تشكيل حكومة أغلبية بشكل فوري.
ولكن أنصار التفاؤل العربي نسوا حقيقة أن مقتدى الصدر ليس بعيدًا عن دوائر “الوفاق الأمريكي الإيراني” الذي حكم “عراق ما بعد صدام حسين” وصنع توازناته السياسية القائمة حتى اليوم، ويكفي القول إن التيار الصدري هو جزء من منظومة سياسية اسمها “البيت الشيعي” صنعها مكتب المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران، وهي تضم كافة الأحزاب والشخصيات العراقية الموالية لإيران.
التعطيل هواية إيران المفضلة في الدول العربية، مورس تلك المرة من داخل “البيت الشيعي”؛ إذ إن القوى الشيعية التي خسرت الانتخابات وأصبحت خارج لعبة صناعة الحكومة للمرة الأولى منذ عام 2003 سارعت إلى تشكيل “الإطار التنسيقي” ليصبح كيانًا موحدًا بوجه “التيار الصدري”، لتتكرر “الثنائية الشيعية” التي نراها في لبنان مع حزب الله وحركة أمل، وكان كلاهما على خلاف في الثمانينات قبل أن تتوحد الرؤى عقب انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية عام 1990.
الإطار التنسيقي يضم كلًا من:
1 – تحالف «الفتح» بزعامة هادي العامري.
2 – ائتلاف «دولة القانون» بزعامة نوري المالكي.
3 – تحالف «العصائب» بزعامة قيس الخزعلي.
4 – تحالف «قوى الدولة» بزعامة عمار الحكيم.
5 – تحالف «النصر» بزعامة حيدر العبادي.
الخلافات الشيعية – الشيعية بدأت مع الفيتو الإيراني الموجه لمقتدى الصدر، بأنه لا يمكن أن يشكل الحكومة إلا بقبول ائتلاف المالكي للتشكيلة الوزارية، فكان الخلاف بين الصدر والمالكي هو أحد أهم أسباب التعطيل العراقي على الطريقة اللبنانية.
الخلافات الكردية
الصدر دخل الانتخابات بقائمة انتخابية أطلق عليها “التحالف الثلاثي”، مع الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود برزاني وتحالف السيادة الذي يضم حزب تقدم برئاسة محمد الحلبوسي وتحالف عزم برئاسة خميس خنجر. وقد أدى الانتصار الكبير للديمقراطي الكردستاني وتحالفه البرلماني مع الكتلة الأكبر في البرلمان، كتلة التيار الصدري، إلى تشدد زعيم الحزب الملا مسعود برزاني في فكرة تسمية المرشح الكردي لمنصب رئيس الجمهورية.
وكان الاتفاق بين الثنائي الكردي، الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، أن يتولى الاتحاد الوطني منصب رئيس الجمهورية بينما يتولى الحزب الوطني المناصب الرئيسة في رئاسة إقليم كردستان العراق، وكان هذا الاتفاق بين مسعود برزاني وجلال طالباني، ولكن على ضوء الانقسامات التي جرت داخل الاتحاد الوطني الكردستاني عقب وفاة طالباني، فإن الديمقراطي الكردستاني برئاسة برزاني طرح فكرة تقديم حزبه مرشحًا لمنصب رئيس الجمهورية وفض الاتفاق بين الثنائي الكردي.
وبالفعل قدم الحزب هوشيار زيباري مرشحًا رئاسيًا، إلا أن المحكمة الاتحادية أقصت زيباري من السباق الرئاسي. ولم يتحمل مسعود بارزاني ما جرى لخاله هوشيار زيباري وأعاد الكرة بترشيح اللواء (جيش) ريبر أحمد خالد يوسف بارزاني وزير داخلية إقليم كردستان لمنصب رئيس الجمهورية. ولم تكن إيران بعيدة عن الخلافات الكردية؛ اذ إن بافيل طالباني رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني قرر التنسيق مع الإطار التنسيقي، في حين يتمتع مسعود برزاني بعلاقات تاريخية مع إيران.
اجتماع أنقرة يثير مخاوف الصدر والمالكي
وفى مقابل خلافات الثنائي الشيعي العراقي والثنائي الكردي، فإن تركيا خطت في الداخل العراقي بترتيبات أمريكية عدة خطوات مهمة في الآونة الأخيرة، أبرزها حسم الخلافات بين قطبي القوى السياسية السنية، محمد الحلبوسي وخميس خنجر، وحرص الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ومدير المخابرات التركية هاكان فيدان على التقاط صورة رباعية في أنقرة.
الاجتماع الرباعي في أنقرة –كما أطلقت عليه الصحف العراقية– كان مثار قلق البيت الشيعي، من فكرة أن تنجح تركيا في ملء الفراغ الذي تصنعه إيران، وسارع الصدر والمالكي إلى اجراء مباحثات هاتفية هي الأولى من نوعها منذ 12 عامًا من أجل الاتفاق على تسمية السفير العراقي في العاصمة الألمانية برلين جعفر محمد باقر الصدر رئيسًا للوزراء.
إن هذه التسمية توضح بجلاء حقيقة أن حزب الدعوة الإسلامية الذي سيطر على الوزارة العراقية أغلب سنوات ما بعد عام 2013، لا يبتعد كثيرًا عن التيار الصدري؛ إذ إن كلا الحزبين، الدعوة الإسلامي والتيار الصدري، هو ابن أفكار وقادة عائلة الصدر العراقية، فالسفير جعفر الصدر هو ابن عم مقتدى الصدر، وهو أيضًا ابن مؤسس حزب الدعوة الإسلامية.
ولكن إيران تدخلت عبر الإطار التنسيقي وطرحت إلى جانب الصدر أسماء أربع شخصيات لمنصب رئيس الوزراء هم: حيدر العبادي وقاسم الأعرجي ومحمد توفيق علاوي وعبد الحسين عبطان، مما يوضح أن طهران لا تشارك الصدر والمالكي قلقهما من النفوذ التركي، إذ اعتادت طهران أن يقوم أردوغان كل بضعة سنوات –وبدعم أمريكي– بمحاولة لمد النفوذ في العراق قبل أن تخفق أمام حقيقة أن أغلب النخب العراقية لديها اتصالات ومصالح مشتركة مع إيران.
توحيد الصوت السني لم يكن خطوة تركيا الوحيدة في العراق في الآونة الأخيرة، والحاصل أن الدور التركي في العراق كان مرحبًا به أمريكيًا وبريطانيًا منذ عام 2003، وما تأخر تركيا في هذا المضمار إلا فشل أمام النفوذ الإيراني القوي. وترغب واشنطن ولندن في تحويل العراق بشكل دائم إلى “فرق تسد” إقليمي، ما بين تركيا وإيران والعرب، ووجود صراع عربي كردي، وسني شيعي داخل العراق حتى يبقى العراق دولة ضعيفة للأبد.
وقد اتفقت أنقرة مع رئيس إقليم كردستان العراق نيجيرفان بارزاني أن يتم تصدير الغاز العراقي الموجود في الإقليم الكردستاني إلى تركيا ومنها إلى أوروبا، وتعهد نيجيرفان بارزاني بأن يقنع الحكومة العراقية حال تشكيلها على أن تكون تركيا هي منفذ الغاز العراقي إلى أوروبا.
توحيد الصوت السني العراقي يأتي في اطار حقيقة أن انتخابات 2021 رسخت زعامات السنة الجدد، إذ إن انتفاضة غرب العراق أو الأنبار (21 ديسمبر 2012 – 30 ديسمبر 2013) وما تلاها من الحرب على داعش (2013 – 2017) قد أنهت دور الزعامات السنية التي برزت عقب حرب 2003، والتي كانت إما تنتمي إلى دوائر النظام البعثي أو الإسلام السياسي مثل طارق الهاشمي ورافع العيساوي وإياد السامرائي وأسامة النجيفي وصالح المُطلك، وخرجت إلى الساحة العراقية أسماء جديدة تنتمي إلى العشائر بعيدًا عن دوائر البعث الاشتراكي أو الإسلام السياسي.
ورغم الطمأنة الإيرانية للبيت الشيعي جراء التمدد التركي، إلا أن أركان البيت الشيعي ناقشوا احتمالية أن تقوم أنقرة بمصالحة تاريخية بين الكرد السنة والعرب السنة، وبالتالي يتم ضم الكتل الكردية والكتل السنية في البرلمان لتصبح كتلة واحدة، أكبر من الكتلة الشيعية، ويصبح المكون الشيعي للمرة الأولى منذ عام 2003 هو أقلية في العمل السياسي العراقي.
مستقبل الازمة
عودنا العراق في السنوات الأخيرة على حلول اللحظات الأخيرة، أي انعقاد مفاجئ لمجلس النواب ويتم تسوية رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء على التوالي، ولكن على ضوء الأزمة الحالية والوفاق الأمريكي الإيراني على تجميد المشهد العراقي ونسخ الأزمة اللبنانية في الداخل العراقي، فإنه من المتوقع أن يطول أمد الأزمة. هذا بجانب أن التفاؤل العربي بمقتدى الصدر يجب أن يذهب إلى بدائل أخرى، خاصة أن خيار الانتخابات العراقية الجديدة ليس ببعيد على ضوء ما يجري.
باحث سياسي