مقالات رأي

الميليشيا عندما تكون في مواجهة الدولة!

صباح الأحد؛ تعرَّض رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي لمحاولة اغتيال، عبر استهداف مقر إقامته بالمنطقة الخضراء ببغداد العاصمة، بهجوم نفذ بـ”3 طائرات مسيرة” محمّلة بالمتفجرات، حيث تمكنت قوات الأمن العراقي من إسقاط اثنتين منها وتمكنت الثالثة من الإفلات وإصابة هدفها. نجا «الكاظمي» وأصيب عدد من قوات الحرس جرَّاء ما أحدثته المسيرة المفخخة من تدمير، بحسب ما صدر عن خلية الإعلام الأمني العراقي بعد ساعات من وقوع الهجوم في هذه المنطقة التي توصف بـ”شديدة التحصين”. وكان إيجابيًا خروج رئيس الوزراء في بث متلفز عاجل كي يتحدث للشعب العراقي والعالم، مؤكدًا سلامته بداية، وواصفًا الصواريخ والمسيرات الجبانة التي حاولت اغتياله بأنها لا تبنى أوطانًا ولا تبنى مستقبلًا، وحقيقة بدا التوصيف وكأنه يضع إصبعه مباشرة على مكمن الداء العراقي.

منذ أسبوعين تقريبًا، يعتصم عدد من مناصري الحشد الشعبي وسط بغداد، منددين بنتائج الانتخابات النيابية الأخيرة، معتبرين أنها زورت بحسب زعمهم، لا سيما بعد أن أظهرت النتائج تراجعهم بشكل كبير، وخسارتهم لعدد ليس بالقليل من المقاعد النيابية التي ظنوا أنها مضمونة لهم. الجمعة الماضي تحولت احتجاجات أنصار الأحزاب التي تعارض نتائج الانتخابات إلى أعمال عنف تمثلت في رشق متظاهرين لأفراد الشرطة بالحجارة بالقرب من المنطقة الخضراء، ما أسفر عن إصابة عدد من الضباط، ما استدعى ردًا من قوات الشرطة بإطلاق الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي، وما زال التحقيق جاريًا بشأن الكثير مما شهدته الأحداث. لكن المشهد العام جعل هؤلاء المتظاهرين يتوعدون بالرد على الكاظمي نفسه؛ كونه -من وجهة نظرهم التي يلحون في ترديدها- يقف وراء عملية تلاعب في الأصوات، تسببت في خسارتهم لمقاعدهم. متجاهلين أن جميع المراقبين للانتخابات العراقية الأخيرة أجمعوا على أن “التصويت العقابي” لهؤلاء كان ظاهرًا بقوة في العديد من الدوائر، على خلفية الغضب تجاه الجماعات المسلحة المدعومة من إيران، والمتهمة على نطاق واسع بالتورط في قتل ما يقرب من (600 متظاهر) خرجوا إلى الشوارع في مظاهرات عدة منفصلة، ومناهضة للحكومة في شأن تعاطيها مع تلك الجماعات المسلحة في عام 2019.

العملية الأخيرة حقيقة لم تأت منفردة أو خارج سياق الأحداث المتتابعة، فقبل أيام فقط، وفى نفس موعد هجوم المسيرات فجر يوم 31 أكتوبر الماضي، أطلقت حزمة من أربعة صواريخ “عيار 107 ملم” باتجاه حي المنصور، غرب بغداد، حيث استهدفت للمرة الثانية مبنى “جهاز المخابرات الوطني العراقي” الذي تعرض لهجوم صاروخي مماثل قبل ثلاثة أشهر. هذه المرة أصابت ثلاثة صواريخ مجموعة من المنشآت المدنية القريبة من مقر المخابرات، منها مستشفى “الهلال الأحمر” ومحطة لمعالجة المياه. ولم تقع إصابات بشرية رغم إحداث إتلاف كبير في تلك المباني. لكن ما أثبتته التحقيقات الأولية أن الإطلاق جاء من منطقة “الشعلة”، شمال بغداد، وهى المنطقة التي تخضع لسيطرة ميليشيا “عصائب أهل الحق”، أحد أشهر وأقوى مكونات الحشد الشعبي، فضلًا عن كونها أحد أبرز الخاسرين في المعركة الانتخابية الأخيرة بفقدانها ما يتجاوز 10 مقاعد، بعد انخفاض تمثيلها وفق النتائج الرسمية من 15 إلى 4 مقاعد فقط، لذلك ولغيره من الدلائل أشارت أصابع الاتهام إلى الميليشيا باعتبارها تقف وراء الهجوم الصاروخي، وبالتبعية بدا الهجوم على مقر رئيس الوزراء، فجر الأحد، معلقًا في رقبة نفس الميليشيا رغم التغيير النوعي في أداة التنفيذ.

اللافت أن هناك ما يشبه التمرد الداخلي على الضغوط الإيرانية التي تمارس من قبَل طهران تجاه تلك الميليشيات، من أجل تقييد استخدامها لسلاح القصف الصاروخي تجاه الأهداف الأمريكية والعراقية، حتى يمكن لإيران احتواء حالة الحرج التي تستشعرها كلما خرجت حزمة صواريخ مشابهة. لهذا وُصفت زيارة قائد “فيلق القدس” إسماعيل قاآني الأخيرة للعراق بالفشل، حين حمل للميليشيات رسالة بهذا المعنى، لترد الميليشيات في 29 يوليو بتنفيذ الهجوم الصاروخي الأول تجاه مبنى المخابرات تزامنًا مع هذه الزيارة. 

وتركيز الميليشيات على استهداف “جهاز المخابرات الوطني” مرجعه أن هذا الجهاز يمثل دائرة الدعم الأساسية لـ”الكاظمي”، ويستخدمه كرأس حربة في مواجهة نفوذ الميليشيات وفى ملاحقة عناصرها بجمع دقيق للمعلومات عن أنشطتها وأعضائها. وترى أيضًا أن خطة رئيس الوزراء باستدراجها للانتخابات المبكرة، قبل استعدادها بالشكل الكافي، ما تسبب في هزيمتها، تمت ما بين رئيس الوزراء وجهاز المخابرات الوطني، وأن تحركاتها المضادة للاعتراف بنتائج الانتخابات تحظى بمباركة المرجعية الدينية العليا، ودليلهم في هذا النموذج الأخير تأخر صدور بيان يدين الهجوم على مقر “الكاظمي”، ما يفسر سلبية موقفها تجاه رئيس الوزراء العراقي. وهو يتناغم إلى حد ما مع البيان الإيراني الذي ذهب إلى اعتبار الهجوم بالمسيرات المفخخة مجرد “توتر”، تتحمل مسؤوليته القوى الخارجية، في إشارة مبطنة إلى الولايات المتحدة ورفعًا للتهمة عن عنق الميليشيات.

في الداخل العراقي هناك من يرى أن تصعيد ميليشيات “الحشد الشعبي” جاء باعتماد من “اللجنة التنسيقية” للأحزاب الشيعية، وأن الهجمات الأخيرة، بما فيها استهداف مقر شخصية بوزن رئيس الوزراء بغرض اغتياله، لا تعدو كونها تعبيرًا عن استمرار الرفض المطلق من قبَل تلك الأحزاب للنتائج الانتخابية، ونوعًا من الضغط الأمني والسياسي الخشن على غيرها من الكتل من أجل ضمانة التمثيل، والعبور على النتائج إلى الإرغام تجاه توافق سيأسى يضمن للميليشيات “حصة تمثيل” في الحكومة القادمة. 

ولا مانع من أن تشمل رسالة الهجوم أيضًا تلويحًا بأن بقاء مصطفى الكاظمي بشخصه وبمشروعه الوطني لبناء دولة عراق المستقبل، غير مرحب به، وقد يكون إزاحته من المشهد مقابلًا للتهدئة ولعودة الأمن. هكذا تجرى التجاذبات السياسية بلغة الميليشيات عندما تمتلك سلاحًا على هذه الدرجة من الخطورة، ولا يبقى هناك كوابح يمكن أن تردعها أو تقيد حركتها طالما ظل الدعم الخارجي على هذا النحو الذي يدفعها أحيانًا للتمرد على الداعم الذي استثمر فيها وأوصلها لهذا المستوى من الطموح والقدرات.

+ posts

المدير العام للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية

د. خالد عكاشة

المدير العام للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى