الأمريكتان

ماذا يعني تشكيل الاستخبارات الأمريكية مراكز جديدة لمجابهة النفوذ الصيني وللتكنولوجيا العابرة للحدود؟

في أوج “الحرب الباردة الجديدة” بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين والتي تختلف عن الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق في القرن المنصرم، تسعى واشنطن وبكين إلى بسط نفوذهما والمحافظة على تفوقهما العسكري والتكنولوجي والاستخباراتي، فضلًا عن تعزيز تحالفاتهما. لذا، أعلنت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي. آي. إيه) مؤخرًا تشكيل وحدات ومهمات جديدة لمجابهة النفوذ المتنامي للصين على المسرح العالمي وللحفاظ على التفوق التكنولوجي الأمريكي. سنتعرف في هذه الورقة على تأثير هذا الإعلان على الحرب الباردة الجديدة بمقاييس القرن الحادي والعشرين.   

ما هي المراكز الجديدة التي تم الإعلان عنها مؤخرًا وما هو دورها وأهدافها؟

في إطار جهود الولايات الأمريكية لتطويق الصين بعد أن كانت تندرج تحت مركز مهمة آسيا والمحيط الهادئ، لاسيما مع تحذير جهاز الاستخبارات الأمريكية من سقوط العديد من العملاء والوكلاء الأمريكيين على أيد أجهزة استخباراتية أخرى؛ أعلن وليام بيرنز رئيس الاستخبارات الأمريكية، في الثامن من أكتوبر الجاري عن إحداث تغييرات تنظيمية داخل (السي آي إيه) من أجل مواجهة التحديات الأمنية الجديدة بالنسبة لأمريكا والتي تتغير من حين لآخر وفقًا لأولويات السياسة الخارجية الأمريكية. فقد تم الإعلان عن إنشاء مركز لمواجهة الصين والتعامل مع التهديدات والتحديات التي تمثلها الصين بالنسبة لأمريكا، وكذلك تشكيل مركز للتهديدات التكنولوجية والتهديدات العابرة للحدود. وكذلك، أعلن إعادة إدماج عدد من المراكز، ومنها المركز الخاص بإيران داخل مركز الشرق الأوسط.  

  • المركز الأول: مركز المهام الخاص بالصين (The China Mission Center):

أُنشئ هذا المركز خصيصًا لمواجهة الصين التي تشكل تهديدًا جيوسياسيًا بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية؛ حيثُ أشار بيرنز إلى إن هذا المركز سيعزز من عملهم الجماعي تجاه أكبر تهديد عالمي في القرن الحادي والعشرين ألا وهو الصين التي تزداد عدوانية، وذلك بعدما اكتشفت الولايات المتحدة من خلال (السي آي إيه) و(الإف بي آي) عن وجود العشرات من حملات التجسس لصالح الصين على الصعيدين العسكري والسياسي خلال السنوات القليلة الماضية، إلى جانب سقوط العديد من عملاء أمريكا ومخبريها. وأوضح بيرنز أن الولايات المتحدة الأمريكية تواجه أصعب اختبار جيوسياسي في صراع القوى الجديد. 

ويتضح من تصريحات بيرنز أن الهدف من إنشاء هذا المركز هو تنسيق العمل الجماعي داخل الاستخبارات الأمريكية وتوحيد جهودها الاستثنائية لفهم ولدراسة الصين واستراتيجيتها. كما تولى أمريكا اهتمامًا كبيًار بمواجهة الجهود الاستخباراتية وأعمال التجسس الصينية، وكذلك تسعى إلى تعزيز حماية البنية التحتية التجارية والتكنولوجية لأمريكا التي صارت تحت تهديد الصين.

يشار إلى أن هذا المركز هو الأول من نوعه نظرًا لكونه المركز الوحيد داخل الاستخبارات الأمريكية الذي أنشئ لمواجهة دولة بعينها، وهو ما يعد استكمالًا لجهود أمريكا في مجابهة الصين والتي قد بدأت في يونيو الماضي عندما طلب بايدن بإنشاء وحدة خاصة في البنتاجون لتقييم التهديد الذي تمثله الصين على الولايات المتحدة الأمريكية عسكريًا. 

وهذا الأمر يعطي دلالة أخرى على أنه يأتي في إطار استراتيجية أمريكا في تكثيف الجهود والتركيز على المنافسة مع الصين، حسبما أعلن بيرنز في جلسة الاستماع بالكونجرس في فبراير الماضي. وبالإضافة إلى ذلك، إن إنشاء مثل هذا المركز يؤكد على إصرار الولايات المتحدة في تقويض طموحات الصين العسكرية والسياسية والاقتصادية والتكنولوجية، فضلًا عن نفوذها الاستبدادي، حسبما أكد الرئيس بايدن في وقت سابق.

  • المركز الثاني: المركز الخاص بالتهديدات التكنولوجية والتهديدات العابرة للحدود (The Transnational and Technology Mission Center):

أما هذا المركز قد تم تدشينه للتركيز على التطورات التكنولوجية في الدول الأخرى، وكذلك التركيز على التغير المناخي والصحة الدولية والأمن الاقتصادي. ويتضح من ذلك، أن الولايات المتحدة لا تسعى فقط إلى مواجهة التهديدات العالمية المختلفة، بل إنها تسعى أيضًا لمجابهة التطور التكنولوجي الصيني الذي تعترف به الولايات المتحدة، لاسيما بعد تزايد البحوث في مجال الذكاء الاصطناعي الذي زادت استخداماته في المجال العسكري ووجود تكنولوجيا الجيل الخامس (5G)، وبعدما كشف تقريرًا صدر عن لجنة الاستخبارات الأمريكية العام الماضي خطورة التفوق الصيني في المجال التكنولوجي الذي قد يقلص من تميز الولايات المتحدة الأمريكية وتفوقها في هذا المجال الذي يتطور بشكل سريع نتيجة لوجود خطة صينية وطنية للعمل ضد الولايات المتحدة. 

ومن بين أهداف الولايات المتحدة تعزيز استخداماتها من التكنولوجيا الجديدة والناشئة لتعزيز المهام العملياتية والتحليلية في مجال الاستخبارات التي باتت تواجه تحديات كثيرة للعمل الاستخبارات في ظل وجود تقنيات التعرف على الوجه (Facial Recognition) والتعلم الآلي (Machine Learning) والرصد البيوميتري (Biometric Tracking) والذكاء الاصطناعي.

واتساقًا مع ذلك، تم استحداث منصب كبير مسؤولي التكنولوجيا، إلى جانب جذب المواهب في مجال التكنولوجيا من خلال إطلاق ما يسمى بـ”Technology Fellows”، وهو ما يشير إلى رغبة أمريكا في تعزيز تفوقها التكنولوجي والذي يضمن تفوقها العسكري والاقتصادي والأمني والاستراتيجي. ويتضح مما سبق أن الولايات المتحدة تتعامل مع التكنولوجيا بوصفها تهديدًا عابرًا للحدود نتيجة لتزايد الهجمات السيبرانية من جانب الصين وتعيين الصين لوكلاء أمريكيين يقومون بنشر معلومات سرية عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

William J. Burns (diplomat) - Wikipedia

لماذا هذه الخطوة الآن؟

حسب ورقة بحثية لمعهد بروكينجز صدرت في مطلع العام الجاري، فإن الإنفاق العسكري الصيني قد تزايد بنسبة ٨٥٪ خلال العقد الماضي. بينما تمثل النفقات العسكرية لحلفاء الولايات المتحدة (أعضاء حلف الناتو وأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية) ٦٠٪ من حجم الإنفاق العسكري العالمي. وأشارت الدراسة إلى تزايد الرفض لدى الرأي العام في أغلب حلفاء أمريكا، ومنها المملكة المتحدة وكوريا الجنوبية وفرنسا واليابان وألمانيا وأستراليا، فيما عدا بولندا وإيطاليا، وهو ما يعزز الموقف الأمريكي ومن فرصها في تقويض الصين في إطار الحرب الباردة الدائرة بينهما.

وذلك على الرغم من تنامي النفوذ الاقتصادي للصين الذي تزايد خلال الـ١٥ عامًا الماضية. فقد وقعت ١٥ دولة آسيوية، من بينها الحلفاء الخمس لأمريكا في آسيا، على الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة في نوفمبر ٢٠٢٠ والتي تخرج الولايات المتحدة من أكبر تكتل تجاري في العالم. فمن ثم، تتردد العديد من الدول الحليفة لأمريكا في آسيا من تصنيف الصين على كونها تهديد أمني مباشر على الرغم من قلقهم من تزايد التحديثات في الجيش الصيني. 

فمن ثم، يمكن القول إن مراجعات بيرنز في الاستخبارات الأمريكية ما هي إلا انعكاس لرغبة الولايات المتحدة في إعادة توجيه البوصلة في أولويات السياسية الخارجية والأمنية والدفاعية والعسكرية والاقتصادية من التركيز على مكافحة الإرهاب إلى تقليص نفوذ الصين، لاسيما نفوذها المتزايد في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. 

فعلى الرغم من أنها ليست المرة الوحيدة والأولى التي تعلن فيها الولايات المتحدة صراحة عن أن الصين تمثل تهديدًا للولايات المتحدة ومصالحها، إلا أن تصريحات بعض المسؤولين الأمريكيين تعكس المخاوف الأمريكية الشديدة. فقد قال جون برينان؛ المدير السابق لجهاز الاستخبارات الأمريكية، بأنه إن كان هناك دولة تستحق أن يُنشأ لها مركز مهام خاص فستكون الصين التي لديها طموحات عالمية تمثل تهديدًا لمصالح الولايات المتحدة وللنظام العالمي. بينما صرح ليون بانيتا؛ الذي شغل منصب مدير وكالة الاستخبارات ووزير الدفاع السابق في إدارة أوباما، بأن الصين هدف يصعب اختراقه. 

وفي حين أن الولايات المتحدة اتخذت العديد من الخطوات خلال السنوات الماضية منذ إدارة الرئيس أوباما حتى الآن، ومنها إعادة تشكيل وبناء تحالفاتها مع دول المنطقة في آسيا والمحيط الهادئ مثل صفقة “أوكوس” ( The AUKUS Deal) التي بموجبها تحصل أستراليا على غواصات نووية، إلى جانب تعزير قواعدها العسكرية الموجودة في المنطقة، إلا أن الخطوة الأخيرة تشير إلى أن أمريكا ستعمل على تقويض الصين – التي تنفق على البحوث والتطوير أعلى بكثير من ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية مجتمعة – من خلال إعادة توجيه العمل الاستخباراتي، في خضم الحرب الباردة الجديدة الدائرة بينهما، بحيث يكون المركز المُنشأ حديثًا هو المظلة الرئيسية والمحركة لكافة الجهود الاستخباراتية الموجهة ضد الصين سواء أكانت عسكرية أو اقتصادية أو أمنية أو سياسية أو دبلوماسية أو تكنولوجية.

ومن ثم، يمكن يقول إنه قد يعيد صياغة تحالفات أمريكا في المنطقة والتي قد بدأت في صياغتها بالفعل منذ فترة، وهو ما يؤثر بدوره على علاقة أمريكا بدول المنطقة من ناحية، والدول الأعضاء في حلف الناتو التي لديها مصالح في منطقة آسيا والمحيط الهادئ من ناحية أخرى. وهو ما يعني أيضًا صعود الحرب الباردة الجديدة إلى مستوى جديد والتي قد تغير شكل النظام العالمي وتؤثر على الهيمنة الأمريكية، بخلاف الحرب الباردة السابقة.  

وهذا يقودنا للحديث عن أهداف أمريكا في المنطقة تتمثل في ضمان حصول جميع الدول في المنطقة على كل ما يتم التوصل إليه في مجال الفضاء والمجال السيبراني والمجال البحري، لاسيما فيد ظل الحضور الصيني القوي في بحر الصين الجنوبي والاستمرار في عسكرة الصراعات مع جيرانها في المنطقة، وهو ما يضمن سيطرة الصين على تدفق التجارة. ولذا، تسعى الولايات المتحدة لزيادة تعاونها الاقتصادي مع دول جنوب شرق آسيا التي تطبق نظام الاقتصاد الحر والواقعة على نقاط التفتيش البحرية الهامة في المنطقة مثل إندونيسيا وماليزيا والفلبين وسنغافورة. وتعمل أمريكا أيضًا على تعزيز الحوار من خلال الـQuad الذي أنشأ في ٢٠٠٧ والذي يمثل ٣٥٪ من حجم الاقتصاد العالمي مع السعي لضم دول كإندونيسيا وفيتنام. 

تباين المواقف لدى حلفاء أمريكا حول الصين

على الرغم من اتفاق أغلب حلفاء أمريكا على خطورة الصين، إلا أن هناك مصالح واعتبارات سياسية وأمنية واقتصادية تحكم المسألة كالآتي: 

  • الحلفاء في منطقة أسيا المحيط الهادئ (الإندوباسيفيك):

هناك تباين في مواقف ومصالح دول المنطقة تجاه الصين. فوفقًا لدراسة أعدتها مؤسسة راند العام الماضي، نجد أن أغلب دول المنطقة تتمتع بعلاقات ومصالح أكبر مع الولايات المتحدة على الصعيد الدبلوماسي والسياسي، والاقتصادي، والعسكري والأمني. بينما تتمتع الصين بنفوذ أكبر من فيتنام ويتساوى نفوذها مع الولايات المتحدة في كل من اليابان وسنغافورة وتايلاند. ولكننا نجد في الوقت نفسه أن إندونيسيا –عند قيادة جهودها في الآسيان- لديها رؤية للمنطقة تتمثل في إيجاد نظام إقليمي لا يتطلب الاختيار بين الولايات المتحدة والصين. وكذلك، تتجنب فيتنام الانحياز لأي من الدولتين. وكذا، تتمتع الصين بنفوذ سياسي أكبر في ماليزيا وتايلاند بسبب اتساق رؤيتهما مع رؤية الصين بشأن التزامات أمريكا في المنطقة.

ووفقًا لنفس الدراسة، تمارس الصين نفوذًا اقتصاديًا أقوى من الولايات المتحدة في دول المنطقة فيما عدا اليابان؛ حيثُ إنهم قلقون من القوة الاقتصادية للصين ومن قدرتها على استخدام قوتها الاقتصادية على نحو يتعارض مع مصالحهم مثلما قامت الصين بفرض تعريفات وقيود تجارية على استراليا بعدما دعت أستراليا لإجراء تحقيق عن أسباب فيروس كورونا. ورغم ذلك، ترغب دول المنطقة في تعزيز تعاونها الاقتصادي مع الصين من أجل تحقيق أهدافهم التنموية. وفي الوقت ذاته، ترغب تلك الدول في زيادة تعاونها وارتباطها الاقتصادي بالولايات المتحدة واليابان وغيرهما من الفواعل لتنويع شركائهم وتقليل اعتمادهم الاقتصادي على الصين. 

وكذلك، استخلصت الدراسة أن الولايات المتحدة تتمتع بنفوذ عسكري وأمني أكبر من الصين مع جميع دول المنطقة -ما عدا ماليزيا وتايلاند– كونها تنظر للصين بوصفها تهديدًا أمنيًا. ولكن في الوقت نفسه، نصف هذه الدول لديها شكوك عما إذا كانت الولايات المتحدة ستساعدهم في أي صراع عسكري مستقبلي مع الصين. وعلى العكس من تايلاند التي تقيم علاقات عسكرية مع الصين، نجد أن أستراليا ينتابها مخاوف كبيرة من الصين، وهو ما دفعها لتوقيع صفقة أوكوس مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي؛ سعيًا منها لتعزيز تواجدها على المسرح العالمي.

وإضافة إلى ما سبق، على الرغم من أن التحالفات الأمريكية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ كالتحالف الأمريكي الياباني تفتقد لآلية السيطرة والتحكم الموجودة في حلف الناتو وما هو يصعب التعاون الاستخباراتي، إلا أن وصول حكومة جديدة في اليابان –التي يتولى رئاستها كيشيدا؛ وزير الخارجية السابق والمنتمي للحزب الليبرالي الديمقراطي– قد يساهم في تعزيز الهيمنة الأمريكية وتحقيق أهداف أمريكا في المنطقة؛ حيثُ أشارت الحكومة الجديدة إلى أن مجابهة الصين تعد بمثابة أولوية بالنسبة لليابان، وإلى تبنيها سياسات ثابتة إزاء تعزيز الحوار الأمني بين اليابان وأمريكا وأستراليا والهند، فضلًا عن العمل علي تحسين العلاقات بين كوريا الجنوبية واليابان. ومن أجل ذلك، دعا رئيس الحكومة لزيادة النفقات الدفاعية بنسبة ١٪ من الناتج المحلي الإجمالي وإلى بناء قدرات صاروخية ضر الصين وكوريا الشمالية. 

ولكن هذا يطرح تساؤلًا عما إذا كانت ستظل كل من اليابان وكوريا الجنوبية، على سبيل، خارج الترتيبات الأمنية مثل الـFive Eyes الذي بموجبه تشارك الولايات المتحدة أسرارها الاستخباراتية الحساسة مع هذه الدول (المملكة المتحدة وكندا ونيوزيلاندا وأستراليا). وعلى الرغم من عدم وجود دلالات تفيد بوجود نية لدى أمريكا في عمل ذلك، إلا أنه يتعين على أمريكا تعزيز تعاونها الاستخباراتي والمعلوماتي معهما، لاسيما بعد إنشاء مركز مهمة الصين ومركز مهمة التكنولوجيا الجديدة والناشئة التي تتفوق فيها الصين بشكل كبير وفي ضوء اعتماد الصين على نقل التكنولوجيا في إطار مبادرة الحزام والطريق. 

ويشير تباين المواقف بسبب خوف عدد من دول المنطقة من النفوذ الاقتصادي للصين، بالرغم من تعاونهم العسكري مع أمريكا، إلى ضرورة أخذ مخاوف تلك الدول واعتباراتها السياسية في الحسبان، ناهيك عن تأكيد التزام أمريكا الأمني لدول المنطقة. فحسبما أشار جيمز ماكفونيل؛ رئيس الأركان، في وبينار (Webinar) نظمه مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وضع قوات مشتركة متكاملة قادرة على القيام بضربات دقيقة بهدف درء الردع الصيني الرامي لإخراج القوات الأمريكية من شرق وجنوب بحر الصين يتطلب التواصل مع حلفاء أمريكا في المنطقة للتعرف ما هي القدرات التي ستقبلها كل دولة بتواجدها على أراضيها، مشيرًا إلى أن تواجد صواريخ طويلة المدى في اليابان قد يسبب رفض سياسي. 

  • الحلفاء الأوروبيون والاتحاد الأوروبي:

يأتي تأسيس هذا المركز في خضم الخلاف بين الأمريكيين والأوروبيين بشأن علاقاتهم مع الصين. فالأوروبيون بقيادة ألمانيا يريدون أن يكونوا مستقلين استراتيجيا بحيث يكون لديهم علاقات كبيرة مع الصين من ناحية وكذلك الاحتفاظ بعلاقاتهم الأمنية مع الولايات المتحدة من ناحية أخرى. فقد قام الاتحاد الأوروبي بتدشين (EU-China- A Strategic Outlook) في ٢٠١٩ والذي اعتبر الاتحاد الأوروبي بموجبه الصين كمنافس استراتيجي ومنافس اقتصادي مع التشديد على ضرورة الاحتفاظ به كشريك يمكن التعاون معه، وذلك بعدما أدرك الاتحاد الأوروبي التحديات التي يمثلها النموذج الصيني في إدارة الاقتصاد والذي يعتمد على الدعم الحكومي الكبير مع سعيها لقيادة العالم في القطاعات الاقتصادية المهمة من خلال نقل التكنولوجيا بشكل إجباري.

ويسعى الاتحاد الأوروبي إلى إعادة التوازن في علاقاته مع الصين من خلال التعاون على الصعيدين الثنائي ومتعدد الأطراف. وبالإضافة إلى ذلك، يتوقع الاتحاد الأوروبي أن تقوم الصين بتحديث قواعد منظمة التجارة العالمية وقد تم إنشاء مجموعة العمل المشتركة بين الصين والاتحاد الأوروبي لإصلاح منظمة التجارة العالمية في ٢٠١٨ لمناقشة القواعد الخاصة بالدعم على الصناعات. 

بينما يرى الأمريكيون أن هذا التقارب يقوض من جهود أمريكا في تحجيم النمو والنفوذ الصيني؛ حيثُ ترى الولايات المتحدة أن تحالف الولايات المتحدة مع الاتحاد الأوروبي الذي يمثل ما يزيد عن ٤٠٪ من مخرجات الاقتصاد العالمي سيمثل ضغطًا كبيرًا على الصين؛ حيثُ يرى توماس فريدمان أن الحرب الباردة الجديدة ستنتهي في ألمانيا مثلما انتهت الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي في ألمانيا أيضًا. 

كما أن إنشاء ذلك المركز يأتي في أعقاب صفقة ” أوكوس” التي أثارت غضب فرنسا التي سعت من خلالها أمريكا تعزيز شراكاتها وتعاونها الأمني مع أستراليا على حساب فرنسا. فمن ثم، يرى الأوروبيين أن أمريكا تحت إدارة بايدن، أسوة بإدارة ترامب – تضع مصلحة أمريكا أولًا بغض النظر عن اختلاف الشعارات. بعبارة أخري، شعار “أمريكا تعود من جديد” يعنى أنها تعود من جديد من أجل تحالفات وشراكات بما يتوافق مع مصالحها وعلى النحو الذي يتوافق مع مصالح وأهداف أمريكا في محاربة الصين سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا وأمنيًا. كل ما سبق، يعكس انعدام التوافق بين الأوروبيين والأمريكيين والأسيويين حول الصين والدور الأمريكي في منطقة أسيا المحيط الهادئ. 

تأثير تباين المواقف وتضارب المصالح حول الصين على نشاط حلف الناتو

NATO Support and Procurement Agency (NSPA) | LinkedIn

مما لا شك فيه، أن حلف الناتو هو الأداة التي تستخدمها الولايات المتحدة لبسطت نفوذها في العالم ويتضح ذلك في تغير الأولويات الأمنية للحلف وفقًا لأولويات أمريكا. فإلى جانب إعلان الحلف عن أنه سيظل تحالفًا عسكريًا نوويًا طالما أن هناك أسلحة نووية واعتبار روسيا تهديدًا مباشرًا له، إلا أنه أعلن لأول مرة في اجتماع الناتو في لندن عام ٢٠١٩ عن اعتبار الصين تهديدًا لموازين القوى، مما يؤثر على نظام الأمن للدول الأعضاء في الحلف ويزيد من حالة عدم الاستقرار في العالم، لاسيما في ظل التهديدات السيبرانية والمتنوعة والتطورات التكنولوجية السريعة، ناهيك عن عزمها استخدام القوة ضد جيرانها في المنطقة، وهو ما قد يقوض من قدرة الحلف على المرونة الجماعية ويضر بالتوازن الاستراتيجي بين الحلف والصين. 

ويري الحلف أن الصين قد تحمي القوة العسكرية عالميًا، بما فيها المنطقة الأوروبية الأطلسية، على المدى البعيد في ضوء التحديث العسكري المستمر في كل المجالات، وفي ضوء سعي الصين إلى أن تصبح دولة رائدة في تقنيات الذكاء الاصطناعي بحلول عام ٢٠٣٠ وأن تصبح قوة عظمى في المجال التكنولوجي بحلول عام ٢٠٤٩. 

وقد رأى الحلف أن الفضاء ضمن النطاق العسكري بسبب التنافس الشديد في الفضاء.  وعلاوة على ذلك، اقترحت مجموعة العمل التي قامت بمراجعة عمل الحلف وضع رؤيته بحلول عام٢٠٣٠ بعمل استراتيجية سياسية للتقارب من الدول التي تزداد فيها أهمية الصين؛ وتقييم الآثار الاستراتيجية لتفوق الصيني في مجال التكنولوجيا. وكذلك، أوصى التقرير الصادر في العام الماضي بتنسيق السياسات الغربية حيال الصين وتسليط الضوء على أنشطتها التي تزايد بشكل كبير خلال الفترة الماضية وكذلك معرفة سبل تأثيرها على الغرب؛ حيثُ إن الحلف لم يتعامل معها بالقدر الكافي. كما أوصى التقرير بإنشاء مراكز تحليلية لدراسة التكنولوجيا الجديدة والناشئة وتعزيز الردع في إطار الحرب المعلوماتية السيبرانية، ناهيك عن الالتزام بقواعد الديمقراطية.

ولكن حسب الدراسة التي أجرها معهد بروكينجز، يوجد خلاف بين الولايات المتحدة وحلفائها حول الصين؛ فقد وقعت ٢٣ من أصل ٣٠ عضوا في حلف الناتو إلى جانب أستراليا واليابان، علي بيان ينتقد سياسات الصين في هونج كونج وإقليم الإيغور، على سبيل المثال. ولذا، أوصت مجموعة العمل في تقريرها الصادر العام الماضي بالتركيز على بناء الثقة مع الأوروبيين وبضرورة ترحيب الحلف بجهود الاتحاد الأوروبي لتعزيز قدراته الدفاعية، وهو ما يعزز من قوة الحلف ويساهم في تقاسم الأعباء عبر الأطلنطي على نحو عادل ويضمن مشاركة الدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، حسب وجهة النظر الأمريكية. كما يتعين على الناتو تعزيز التعاون مع الشركاء في منطقة الإندوباسيفيك من خلال تبادل المعلومات حول الصين وإجراء حوارات على نحو مستمر بشأن التعاون التكنولوجي وجمع البحوث. 

ويتضح مما سبق، أن هناك ضرورة لتعزيز التعاون بين الدول الأعضاء في الحلف لوضع رؤية مشتركة حول كيفية مواجهة النفوذ الصيني المتنامي في ظل اختلاف الرؤي حول سبل التعاون مع الصين وسبل مواجهتها؛ فالدول الأوروبية ترى الصين كمنافس وشريك استراتيجي، ومن ثم، تتبع استراتيجية مختلفة عن تلك التي تنتهجها الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيثُ إنها تقوم على أساس التعاون في المجال الاقتصادي ونقل التكنولوجيا. 

فنجد أن هناك اتجاهًا داخل الاتحاد الأوروبي للاستعانة بالصين لإدخال تقنية الـ5G وقيام الاتحاد بتوقيع اتفاقية مع الصين لتطوير هذه التقنية. كل هذا بخلاف، سعى الاتحاد الأوروبي للاستقلال استراتيجيًا عن الولايات المتحدة بعدما شعر أعضاء الاتحاد الأوروبي بتراجع الالتزام الأمريكي وبزوغ النزعة القومية في بعض دول الاتحاد كفرنسا. وذلك، على الرغم من التأكيدات المتعددة لبايدن. وهذا يعود لقلق الأوروبيين من تباين المواقف في الإدارة الأمريكية مع توجه الإدارات الأمريكية منذ إدارة أوباما للتركيز على منطقة الإندوباسيفيك. 

فعلى الرغم من إدراك جميع أعضاء في الحلف بخطورة الصين، لاسيما مع تزايد الاعتماد على التكنولوجيا الجديدة والناشئة، إلا أنه من غير المتوقع الوصول لتوافق بين الأمريكيين والأوروبيين خلال الأجل القريب حول كيفية التعامل مع الصين، لاسيما بعد توقيع صفقة الأوكوس. كما أنه من غير المتوقع أن يتخلى الأوروبيون عن تعاونهم الاقتصادي مع الصين خاصة في مجال التكنولوجيا. ف

ومن ثم، يمكن القول إن التعاون مع الصين يخدم مصالح الاتحاد الأوروبي الاقتصادية والسياسية. ولكنه في الوقت نفسه، سيسعى للحفاظ على علاقاته الوثيقة والأمنية مع الولايات المتحدة الأمريكية. وبالتالي، سيظل حلف الناتو هو المظلة الحاكمة لمنظومة التعاون الأمني بين أوروبا وأمريكا ما لم تتفوق الصين اقتصاديًا وتكنولوجيًا على الولايات المتحدة. ولتجنب حدوث ذلك، على الولايات المتحدة دراسة قدرات الدول الأوروبية التكنولوجية في مواجهة التحديات غير التقليدية من خلال معرفة الاستثمارات الصينية هناك.

وعن دور الناتو في منطقة الإندوباسيفيك، فإن تباين التفوق الاقتصادي بالرغم من التفوق الأمريكي عسكريًا واستراتيجيًا وسياسيًا في المنطقة يزيد من أمد الصراع ويحد من فرص الولايات المتحدة تقويض الصين اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا. وسيصعب على الحلف -رغم اعتباره للصين مصدرًا للتهديد المباشر بعد روسيا- التدخل بشكل مباشر في منطقة الإندوباسيفيك لسببين: الأول: أنه بموجب المادة الخامسة من اتفاق واشنطن التي تعتبر وقوع هجوم ضد دولة أو عدد من الدول الأعضاء في الحلف من أوروبا أو أمريكا من الصعب على الناتو من الناحية الفنية تطبيق مبدأ الدفاع المشترك والأمن الجماعي حتى وإن شاركت القوات الأمريكية عند حدوث حرب في منطقة أسيا المحيط الهادئ، لاسيما أن هذا يتطلب موافقة مجلس الأمن وهو أمر يستحال حدوثه لكون الصين عضو دائم في مجلس الأمن. والثاني، هو الردع النووي والاقتصادي.  

وختامًا، يمكن القول إن إنشاء مركز للصين داخل الاستخبارات الأمريكية سيعيد صياغة سياسات حلف الناتو في محاولة لتعزيز النفوذ الأمريكي والحفاظ على النظام الدولي، إلا أن النظام الدولي آخذ في التغير نتيجة لنجاح الصين اقتصاديًا ولتقدمها الملحوظ في التكنولوجيا الجديدة والناشئة التي باتت تؤثر على موازين القوى والتوازن الاستراتيجي نتيجة للتوسع في استخدامها عسكريًا. بعبارة أخرى، إذا تفوقت الصين على أمريكا في التكنولوجيا الجديدة والناشئة، إلى جانب الردع الاقتصادي الذي يُمارس على دول الإندوباسيفيك والتعاون الاقتصادي والتكنولوجي مع دول الاتحاد الأوروبي، فإنها ستقلص من الهيمنة الأمريكية بشكل تدريجي، خاصة وأن استخدام التكنولوجيا الجديدة في الجيوش يخلق حالة من الردع أسوة بالسلاح النووي.

المصادر: 

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى