
بين قم والنجف.. تأثير اختلاف ولاءات الكتل الشيعية على مسار الانتخابات العراقية المقبلة
مع اقتراب موعد الانتخابات العراقية المقرر عقدها مطلع الشهر القادم تتجه الأنظار إلى الكتل والتحالفات السياسية لمتابعة كيفية تعاطيها مع العملية الانتخابية، ونظرًا لأن الخريطة السياسية العراقية تقوم على تمايز طائفي إلى حد كبير يتم على أساسه تقاسم السلطة تحتل الكتل السياسية الشيعية صدارة المشهد، وتحتل هذه التكتلات قمة الهرم السياسي العراقي منذ سنوات عدة وتتنافس هذه التكتلات فيما بينها نظرًا لتباين ولائها، إذ يدين البعض منهم بالولاء الكامل للمرجعية الشيعية في قم الإيرانية بينما يدين الآخر بالولاء الكامل للمرجعية الشيعية العراقية في النجف وهو الأمر الذي قد يكون له أصداء على الانتخابات المقبلة.
أسباب الخلاف بين مرجعيتي قم والنجف
من المعروف في الفقه الشيعي أن الحوز العلمية تعد نموذجاً للتشكل التقليدي للمذهب الشيعي وترفض الدخول في السياسة كما أنها تطالب بفصل الدين عن الدولة وتأسيس دولة مدنية، وقد اتبع المرجع الشيعي الأعلى في العراق “علي الحسيني السيستاني” الذي تتلمذ على يد “أبي القاسم الخوئي” وخلفه في زعامة الحوزة العلمية في النجف بعد وفاته في عام 1993 هذه المدرسة وهذا الفقه الذي يرفض تسييس الدين والمذهب لصالح الدولة والحكم.
أما المرجع الشيعي الأعلى في إيران “علي الحسيني خامنئي” فيتبع مرجعية الحوزة في قُم التي اتخذت من أفكار “الخميني” وأطروحته لمفهوم الدولة الإسلامية المتمثلة بولاية الفقيه قاعدة أساسية لها، وخاصة بعد انتصار الثورة الإسلامية، كما أن للكثير من رجال الدين الشيعة في إيران دورًا وتأثيرًا في الشارع الإيراني لا يقل عن القوى السياسية الفاعلة هناك، ومن الواضح أن مرجعية الحوزة في قُم وعلمائها يؤمنون بتولي المرجع الديني (أي المرشد) قيادة الجماهير سياسيًا، بمعني آخر يجب ألا تنحصر فتاوى المرجع الديني (ولي أمر المسلمين) في القضايا الأخلاقية والبيع والشراء والزكاة والزواج والطلاق والصلاة والصوم والحج وغيرها من شؤون الحياة، وإنما تمتد لتشمل السياسات الخارجية وعلاقات الدولة مع بعضها البعض كما أنه – أي ولي أمر المسلمين – يجب أن يقود العالم الإسلامي.
وهو ما يمثل لب الخلاف بين الحوزة العلمية في النجف العراقية بزعامة “على السيستاني” والحوزة العلمية في قُم الإيرانية إلى فكرة ولاية الفقيه، فالمرجعية الدينية في النجف ترفض وبشدة فكرة ولاية الفقيه وتطالب بفصل الدين عن الدولة، بينما المرجعية في قُم بزعامة المرشد “خامنئي” تعمل وبشدة على تطبيق ولاية الفقيه في العراق.
وفي عام 2014 وصلت الخلافات بين الطرفين إلى مرحلة متقدمة بسبب هيمنة الفصائل الموالية لإيران على قوات الحشد الشعبي وتعاملها بشكل سلبي مع الفصائل الموالية للسيستاني، وخلال الفترة القصيرة الماضية زادت الهوة بينها بشكل أكبر مما سبقه، ففي 13 أغسطس الماضي هاجم الشيخ حميد الياسري المقرب من آية الله علي السيستاني وزعيم فصيل “لواء انصار المرجعية” أحد فصائل الحشد الشعبي، قوى وجهات فاعلة في العراق، وقال إن “ولاءها لمن هم خارج الحدود”، معتبرًا أن ما يقومون به “خيانة”، في إشارة إلى إيران دون أن يذكرها بشكل مباشر.
ويمتلك آية الله السيستاني رصيدًا ضخمًا لدى الشارع الشيعي العراقي، إذ حافظ على رصيده الاجتماعي من خلال انخراطه في العمل السياسي عند الحد الأدنى، ويمثل المرجعية التي يلجأ لها الفرقاء للبحث عن مخرج وتحظى الحلول التي يقدمها السيستاني بتأييد كبير بين الأوساط الشيعية، ويتضح ذلك في ثلاث وقائع، الأولى، فتوى الجهاد الكفائي التي أصدرها في يونيو عام 2014 والتي بموجبها تم تشكيل قوات الحشد الشعبي لمواجهة تنظيم داعش الإرهابي، والثانية، إعلانه خارطة طريق في 28 يوليو 2018 عقب الاحتجاجات التي شهدتها المدن العراقية بسبب تدنى الخدمات والبطالة والفساد وتقوم الخارطة على مسارين، الأول، أن تقوم الحكومة حينها بتحقيق ما يمكن تحقيقه بصورة عاجلة من مطالب المواطنين وتخفف بذلك من معاناتهم وشقائهم، والثاني أن تتشكل الحكومة المقبلة في أقرب وقت ممكن على أسس صحيحة من كفاءات فاعلة ونزيهة، وحظيت الخارطة بتأييد كبير في الداخل العراقي، والثالثة، دعمه مطالب المتظاهرين العراقيين التي تركز غالبيتها في المحافظات الشيعية، وأكد السيستاني في خطبة الجمعة يوم 15 نوفمبر 2019 والتي ألقاها ممثله الشيخ أحمد الصافي في كربلاء أن “المواطنين لم يخرجوا إلى المظاهرات المطالبة بالإصلاح بهذه الصورة غير المسبوقة ولم يستمروا عليها طوال هذه المدة بكل ما تطلّب ذلك من ثمن فادح وتضحيات جسيمة، إلا لأنهم لم يجدوا غيرها طريقا للخلاص من الفساد”، وهو ما عدّ انتقادًا صريحًا للسلطة الحاكمة آنذاك.
اختلاف الولاءات
تعيش الكتل السياسية الشيعية حالة من التخبط بعد الاحتجاجات الشعبية التي شهدها العراق التي كان أحد أسبابها الأساسية النظام السياسي القائم على المحاصصة، وكانت الكتل الموالية لإيران في مرمى هتافات المتظاهرين الذين حملوا هذه الكيانات مسؤولية تدهور الظروف المعيشية والبنية التحتية وانتشار الفساد والمحسوبية، وهو ما فرض على تلك الكيانات اتباع نمطًا مغايرًا عن النمط الذي اتبعته سابقا في انتخابات عام 2018، يهدف إلى استمالة عواطف العراقيين الشيعة وكسب أصوات الشرائح الاجتماعية الغير مستقرة في الرأي والتوجه السياسي.
ويتباين ولاء التحالفات والكتل السياسية الشيعية الرئيسية التي تخوض الانتخابات المقبلة، إذ يدين تحالف “الفتح” بالولاء للمرجعية الإيرانية ويرأسه هادي العامري قائد منظمة بدر التي تأسست عام 1982 بمبادرة من الاستخبارات الإيرانية وكان العامري أحد كوادرها، كما يضم التحالف قيس الخزعلي الأمين العام لـ”عصائب أهل الحق” وعدد من الكيانات الشيعية الأخرى، ويعد هذا التحالف أقوى تكتل سياسي شيعي في الانتخابات، ويتوفر للتحالف موارد مالية ضخمة بسبب سيطرة بعض قوى التحالف على أوجه متعددة للنشاط الاقتصادي والمالي في العراق بالإضافة إلى الدعم المادي والسياسي من إيران، فضلاً عن تبعية عدد من الميليشيات العسكرية والتي تمثل أذرعًا عسكرية له.
كما يدين تحالف “دولة القانون” بزعامة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي الأمين العام لحزب الدعوة الإسلامية إلى المرجعية الإيرانية بالتحالف مع عدد من الأحزاب الشيعية البسيطة، والجدير بالذكر أن صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية قد كشفت في 17 نوفمبر 2019 عن وثائق استخباراتية كتبها ضباط وزارة الاستخبارات والأمن الإيرانية في عامي 2014 و2015 تحدثت عن أن المالكي كان شخصية إيران المفضلة واعتبره الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما سبب ظهور تنظيم داعش بسبب سياساته القمعية ضد العراقيون السنّة.
بينما يميل تحالف “قوى الدولة الوطنية” الذي شكله تيار “الحكمة” بقيادة عمار الحكيم بعد انشقاقه عن المجلس الإسلامي الأعلى التابع لإيران عام 2017، وكتلة “النصر” بقيادة حيدر العبادي رئيس الوزراء الأسبق وحزب “المؤتمر العراقي” إلى المرجعية العراقية وذلك من خلال اعتماد مبادئ استقلالية القرار الوطني العراقي والنأي بالعراق عن الصراعات الإقليمية وإقامة علاقات معتدلة بين العراق ومحيطها الإقليمي دون التبعية لطرف محدد وهي ذات الأهداف التي تتمحور حولها مرجعية النجف بقيادة السيستاني.
كما تميل “كتلة سائرون” بقيادة الزعيم الشيعي مقتدى الصدر إلى المرجعية العراقية ولم تقم بأية تحالفات مع القوى السياسية الشيعية الأخرى، وأعلن في منتصف يوليو الماضي مقاطعته للانتخابات ولكنه تراجع عنها لاحقًا وتحديدًا في 27 أغسطس الماضي، والجدير بالذكر أن التيار الصدري يعد تيارًا قويًا على الساحة السياسية العراقية ويحظى بشعبية واسعة وأرضية صلبة وصاحب الأكثرية في البرلمان العراقي الحالي بعد النتائج التي حققها في انتخابات 2018 فضلاً عن امتلاك التيار الصدري لميليشيا جيش المهدي الذي قاد ضده نوري المالكي حينما كان رئيسًا للوزراء حملة عسكرية عام 2008، وهو ما تسبب في حالة من العداء الواضح بين الطرفين حتى اليوم.
وحول التخوفات الإيرانية من فوز كتلة مقتدى الصدر في الانتخابات أشار المتحدث الرسمي باسم الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي، أثناء مؤتمر صحفي عقده في 21 مايو 2018 إلى أن فوز تحالف “سائرون” لن يكون له تأثير على العلاقات بين الدولتين، قائلا إن ما يشاع عن رغبة “سائرون” في “إخراج إيران من العراق” أمر غير صحيح، ولكن يتنافى هذا التصريح مع ما أعلنه مقتدى الصدر في 21 يونيو الماضي عقب وصول الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى الحكم، إذ قال الصدر “نأمل منه (رئيسي) أن يحكم العقل والشرع والحوار لإنهاء الصراعات السياسية والطائفية في المنطقة”، ووجه الدعوة إلى السعودية وإيران إلى “حل مشاكلهم من جهة”، و”إخراج العراق من هذا الصراع” و”عدم التدخل بشؤونه، مُشددًا على أن أولى أسس حسن الجوار “عدم التدخل بشؤون البلد الداخلية والتعاون على تذليل الصعاب المشتركة وعدم زج الجار في مشاكل هو في غنى عنها، وأن يكون التعاون على مستوى واحد بلا تعال ولا تبعية”.
تأثير الولاءات على مسار الانتخابات
لا يعول على الانتخابات القادمة في إحداث تغيير كبير على الساحة السياسية العراقية، وعلى الرغم من أن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة العراقية لإجراء الانتخابات المقبلة تبدو جيدة من الناحية الإجرائية والقانونية وتكشف عن مسعى حقيقي لإجراء انتخابات قوية مستقلة، إلا أن الوضع الحقيقي يشير إلى أن التحالفات الشيعية التي احتلت الساحة عقب انتخابات 2018 ستعيد إنتاج نفسها مرة أخرى سواء من خلال استخدام المال السياسي أو الحشد الطائفي من خلال استمالة المحافظات الشيعية عبر بوابة مصالح المكون الشيعي والحفاظ عليه أو استخدام سلطات الدولة بسبب توغلهم بها على مدار سنوات أو حتى من خلال استخدام الميليشيات المسلحة التابعة لها لترهيب الناخبين حال ظهور مؤشرات على خروج الأمور عن سيطرتها، وسيكون الحفاظ على ما حققته الكتل السياسية الشيعية من مكتسبات سياسية ومادية خلال السنوات الماضية دون السعي إلى تحقيق المزيد منها أحد الأهداف الرئيسية لها.
وستبدأ الكتل السياسية الشيعية بعد ظهور النتائج في إعادة التحالفات فيما بينها بهدف الحفاظ على منصب رئيس الوزراء بصفته أهم المناصب وأول محطات اختبار طبيعة هذه التحالفات، خاصة في ظل سعي نوري المالكي رئيس الوزراء الأسبق العودة إلى رئاسة الوزراء من خلال ائتلاف دولة القانون، وهو ما يتعارض مع التحركات التي يقودها مقتدى الصدر زعيم كتلة سائرون مع عدد من القوى السنية والكردية، وقد يتعثر تسمية رئيس الوزراء المقبل بسبب هذه التناقضات والصراعات وهو ما يعزز إمكانية طرح رئيس الوزراء الحالي “مصطفى الكاظمي” كمرشح توافقي في ضوء ما حققه من خطوات جيدة خلال فترة رئاسة الحكومة، وهو ما يفسر قرار الكاظمي بعدم خوض الانتخابات المقبلة وانسحاب تياره “المرحلة والازدهار” من الانتخابات.
كل هذا قد يكون سببًا رئيسيًا في تجدد الاحتجاجات العراقية التي كان مطلبها الأساسي تغيير النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية ورفض التدخلات الإيرانية في العراق ومواجهة الفساد الذي اتضح مع الوقت تورط عدد من القيادات السياسية الشيعية في بعض منه، خاصة في حال استمرار تدني مستوى الخدمات وانهيار البنية التحتية وارتفاع معدلات البطالة وانتشار السلاح بيد الميليشيات المدعومة من إيران داخل العراق.
باحث أول بالمرصد المصري