
محدد جديد في العلاقات الإسرائيلية-الفلسطينية؟
نقلت هيئة الإذاعة الإسرائيلية الرسمية أن وزير الدفاع الإسرائيلي بيني جانتس بحث مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس “سلسلة من المواضيع الأمنية والسياسية والمدنية والاقتصادية”، لافتة إلى أن “الاجتماع استغرق ساعتيْن ونصف الساعة”.
انقسمت الزيارة إلى لقاءين كان الأول على انفراد بين الرئيس عباس وجانتس، بينما شمل الثاني: المنسق الجديد لأنشطة الحكومة الإسرائيلية في الأراضي (حسب تعبير إسرائيل) “اللواء غسان عليان”، والوزير الفلسطيني رئيس هيئة الشؤون المدنية المعنية بالعلاقة مع إسرائيل “حسين الشيخ”، ورئيس جهاز المخابرات الفلسطينية “ماجد فرج”.
الصورة العامة
توقفت المفاوضات رسميا بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي منذ 2014، من حينها لم يتخاطب رئيس السلطة ورئيس الحكومة الإسرائيلية أو يلتقيا في اجتماعات عامة ورسمية، باستثناء بعض المناسبات، وبهذا غاب الأفق السياسي لدى الفلسطينيين وحاد الأمل فيهم.
كرست حكومة نتانياهو طوال فترة حكمها ظاهرة الانقسام الفلسطيني-الفلسطيني بين حركتي فتح وحماس؛ لمجموعة من الاعتبارات وهي (1) تحجيم قوة ونفوذ السلطة الفلسطينية في أرجاء الضفة الغربية، مما يسمح بتقسيم جغرافيا الضفة الطبيعية والسياسية كذلك في حال فرضت الضرورة إقامة حكم ذاتي موسع في الضفة. وبالتالي سمح لحركة حماس بتسلل بعض النفوذ في شمال الضفة وأحيانا جنوبها. (2) إدخال القضية الفلسطينية في مسألة “أي طرف فلسطيني تتفاوض معه إسرائيل؟”، إذ سمح الانقسام بتشتت الصف الفلسطيني وبالتالي برّر لإسرائيل روايتها التي تقول بأنها لا تجد طرفًا فلسطينيًا جادًا تتفاوض معه من أجل عملية السلام. (3) النتيجة اللاحقة والطبيعية كانت هي صعوبة إقامة دولة فلسطينية أو التفاوض عليها.
سمحت سياسة نتانياهو بتمدد نفوذ حماس إلى أنحاء متفرقة في الضفة لمجموعة من العوامل كان من بينها التمدد الجهوي (العائلي) لحماس، والتدهور الاقتصادي والاجتماعي في بعض أنحاء الضفة، وغياب الأفق السياسي لعملية السلام، وانتشار العنف. ونتيجة ذلك، حصلت حماس على دوائر قوة جديدة سمحت لها بتقويض معادلة الردع الإسرائيلية التي حاولت فرضها على قطاع غزة.
تسببت التشوهات التي لحقت بمعادلة الردع الإسرائيلية في مواجهة حماس إلى مزيد من التدهور الذي لحق السلطة الفلسطينية، كما تسبب في تدهور الحالة الأمنية على الأراضي الفلسطينية. وعليه، ارتأت الحكومة الإسرائيلية ضرورة ضبط مفهوم الردع بمواجهة قوية ضد حماس، ولكن الحضور المصري في القطاع جنّبها استخدام القوة الصلبة وتفضيل مواجهة جديدة مع حماس تقتضي ضرب قواعدها في الضفة من خلال تعزيز “سلطة” و”قوة” و”نفوذ” السلطة الفلسطينية في رام الله. لذا يخلص القول في هذا السياق أن إسرائيل تريد تقويض حماس في الضفة من خلال تعزيز قوة السلطة الفلسطينية بالمفاهيم التقليدية للسيطرة.
تعزيز قوة السلطة
تصاعدت مؤخرًا ظاهرة العنف في الضفة الغربية، سواء تلك التي ينتهجها الجيش الإسرائيلي بنفسه ضد الفلسطينيين (في القدس الشرقية على سبيل المثال وليس الحصر)، أو تلك التي تنتهجها العائلات الفلسطينية ضد بعضها البعض.
تُعاني الحكومة الإسرائيلية الحالية برئاسة اليميني المتطرف “نفتالي بينيت” (المنتسب للصهيونية الدينية) من هشاشة حادة تمنعها من فتح ملفات شائكة مثل عملية السلام أو فكرة إقامة دولة فلسطينية مستقلة (والتي ظهرت في تصريحات وزير الداخلية الإسرائيلية: نرفض إقامة دولة فلسطينية). فيما تستمر الولايات المتحدة في التعبير عن قلقها من إمكانية اندلاع العنف بين الإسرائيليين والفلسطينيين وتقدم موقفها في هذا الشأن بدعم حل الدولتين.
لكن لا يرغب الإسرائيليون في حل حكومتهم ومجلسهم التشريعي والدخول في دوامة سياسية انتخابية جديدة تقضي باحتمال عودة نتانياهو؛ لذا تحاول إسرائيل ترويج رواية خاصة لها لشكل الكيان الفلسطيني المستقبلي من أجل تصفية إيجابية تامة مع الإدارة الأمريكية الديمقراطية.
أولا: أهداف تعزيز السلطة
هناك مجموعة إضافية من الأهداف (بجانب تقويض قوة حماس) التي ترغب فيها رام الله وتل أبيب لتعزيز مكانة السلطة، أبرزها هي:
- طمأنة الجانب الأردني: يعبر الأردن عن قلقه المتنامي حيال ظاهرة العنف في القدس الشرقية وأنحاء في الضفة الغربية بالتحديد في منطقة غور الأردن التي تشاطئ حدودها. لا سيما وأن إسرائيل بدأت تقلق من نشاط السلطة في المنطقة ج وتتمثل في بناء المساكن وضم أراضي زراعية مما قد يرفع درجة التوتر العنيف بين الإسرائيليين والفلسطينيين في غور الأردن، قد تمتد أصداؤه إلى الداخل الأردني وبالتحديد بين القبائل والعشائر الأردنية.
لا ينحصر الموقف على الشق السياسي والأمني فقط بل يتعداه ليشمل الجانب الاقتصادي، إذ يرغب الأردن في فتح أسواق جديدة لبضائعها في الضفة الغربية.
- تقديم الرواية الإسرائيلية حيال القضية الفلسطينية: تميل الحكومة الإسرائيلية الحالية لحل إقامة حكم ذاتي موسع للسلطة الفلسطينية على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة (حتى وإن ضعفت مؤشرات حاكمة حيال موقف إسرائيل من حضور السلطة في غزة) ولكن يقضي ذلك أهمية تولي السلطة لملف إعادة إعمار غزة بتنسيق مع مصر وإسرائيل والأطراف ذات الصلة.
- الاستعداد لسيناريو ما بعد محمود عباس: وهو اعتبار بات يسيطر على الأجهزة الأمنية والعسكرية في إسرائيل، إذ تتوقع التقديرات الاستراتيجية الإسرائيلية انتشار العنف المسلح بين الفلسطينيين في حال وفاة محمود عباس. لذا يهم إسرائيل أن تسهم في دعم سلطة تتمركز فيها القوة والسيطرة على شوارع الضفة.
ثانيا: أدوات السيطرة
تتبنى إسرائيل مفاهيم تقليدية لنظرية السيطرة وهي الأمن والاقتصاد، لذا تتركز أدوات تعزيز السلطة في التالي:
- تنسيق أمني أشمل: لتقليل ظاهرة العنف في الضفة، ولتخفيف ظاهرة المواجهة المباشرة بين الجيش الإسرائيلي والفلسطينيين. لا سيما وأن حماس أعلنت بعد انتهاء حرب غزة أن نشاطها سيستمر في الضفة من خلال عناصرها هناك وستسمر المواجهة مع إسرائيل على ساحة الضفة. يبرر ذلك رفض حماس للزيارة الأخيرة كونها تعتبر التنسيق الأمني موجه ضدها بشكل خاص.
- أفق اقتصادي للضفة: شرعت الحكومة الإسرائيلية الحالية في زيادة أعداد الفلسطينيين العاملين في الاقتصاد الإسرائيلي، ولكن هناك مجموعة من العمال يدخلون بالتهريب وغير معروف انتماءاتهم الفكرية. فحتى نهاية الربع الأول 2021، بلغ عدد العمال الفلسطينيين في إسرائيل 138 ألفا، إلا أن مؤسسات عمالية تقول إن الرقم الحقيقي يتجاوز 180 ألفا، لوجود نسبة منهم يدخلون إسرائيل عبر التهريب. لذا تسعى إسرائيل لضبط الظاهرة وتقييد كافة العمال الداخلين لإسرائيل. كذلك النهوض بالقطاع الصناعي الفلسطيني وتقوية فرص الاستثمار في محافظات الضفة الغربية.
يقف في الخلفية أن اتحاد عمال فلسطين يلعب دورا قويا في المجتمع المدني الفلسطيني المتمسك بالقضية الفلسطينية، ويرى في زيادة أعداد العمال إلى إسرائيل هو “تركيع للفلسطينيين عن قضيتهم”.
- أفق تنموي في غور الأردن: تميل الحكومة الإسرائيلية الحالية عدم إقرار سيادتها على غور الأردن، وتفضل الاستفادة منها تنمويا عبر السلطة الفلسطينية والأردن وتحويل المنطقة إلى مشاريع زراعية وصناعية في المجال الغذائي والطبي. تسعى إسرائيل من خلال هذه القضية هو ضبط فكرة استقلال الاقتصاد الفلسطيني التي تتبناها الحكومة الفلسطينية الحالية.
تحديات العلاقة الإسرائيلية-الفلسطينية
تقف مجموعة من التحديات أمام تطوير العلاقات الإسرائيلية-الفلسطينية، يمكن عرض أبرزها فيما يلي:
- المستوطنات: لا تتوقف الحكومة الإسرائيلية الحالية عن سياسة الاستيطان في الضفة الغربية، التي تعمل على شحن التوتر لدى الفلسطينيين تجاه أي عمل إسرائيلي إيجابي يستهدف التعاون وبالتالي يعيد القضية إلى المربع الأول.
- القدس الشرقية: تعتزم الحكومة الإسرائيلية الحالية تعزيز سيادتها في القدس الشرقية، كما تدعم الحركات اليمينية المتطرفة التي ترفع درجة التوتر بين الفلسطينيين والإسرائيليين وبالتالي يُسمح باستغلالها سياسيا مع قبل بعض الأطراف.
- السياسات الإسرائيلية في المياه: تستمر الحكومة الحالية على غرار مثيلاتها السابقة في تخفيض كمية المياه الداخلة إلى محافظات الضفة الغربية مما ينذر بتفاقم أزمة مياه بين الفلسطينيين. إذ أعلنت سلطة المياه اليوم أن شركة ميكروت الإسرائيلية مستمرة في سياسة قطع وتخفيض كميات المياه عن خطوط المياه الرئيسية دير شعر وترقوميا المغذية لمحافظة الخليل. تتذرع إسرائيل بأن المشكلة هي عدم وجود بنية تحتية قوية في المحافظات، وهو ما يقضي بضرورة إقامة بنية تحتية داخل الضفة الغربية.
- معابر الضفة الغربية: إن الارتقاء بالاقتصاد الفلسطيني يستدعي في أحد جوانبه السيطرة على المعابر. وتقف إسرائيل في معضلة بين تعزيز قوة السلطة بالأدوات الاقتصادية ومن ناحية أخرى ضبط فكرة الاستقلال الاقتصادي الفلسطيني. كما أن المزاج العام الفلسطيني يرى في اتفاق باريس الاقتصادي هو موافقة فلسطينية على الاحتلال الإسرائيلي للاقتصاد الفلسطيني.
ختاما، يمكن القول إن هدف إسرائيل بتقويض حركة حماس من خلال تعزيز قوة السلطة الفلسطينية لا يعد محددا جديدا في العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية التي تروج تل أبيب لها. بل هو مزيد من التقسيم يعززه غياب موقف رسمي ونهائي من إسرائيل بشأن حضور السلطة الفلسطينية من ملف إعادة إعمار غزة الذي تشرف عليه مصر. يمكن اعتبار فكرة تعزيز قوة السلطة هي سياسة تكتيكية تستهدف منها إسرائيل (1) ترضية الولايات المتحدة وطمأنه جانبها بشأن القضية الفلسطينية. (2) اختبار رواية إقامة حكم ذاتي موسع للفلسطينيين بديلا عن إقامة الدولة.
باحث ببرنامج العلاقات الدولية